بتجرد:
2024-06-02@19:12:14 GMT

“العتاولة”.. معادلة التسلية ومحبة الأشرار

تاريخ النشر: 10th, April 2024 GMT

“العتاولة”.. معادلة التسلية ومحبة الأشرار

متابعة بتجــرد: “الناس بتحب الأشرار”.. تأتي هذه النصيحة الدرامية على لسان شخصية “عيسى الوزان/باسم سمرة”، في الحلقة قبل الأخيرة من مسلسل “العتاولة”، في واحدة من مشاهد كسر الإيهام الكثيرة التي تشكل جزء من التسلية الشعبوية التي يقدمها المسلسل طوال حلقاته.

ما قاله الوزان ليست ببعيد عن المزاجية التي تحكم شرائح جمهور المسلسل، فشخصية “الوزان” الذي يعترف صراحة أنه شرير في مشهده مع “خضر/طارق لطفي”، صارت “ترند” هائل الانتشار، خاصة مع لزماته الطريفة متعددة النبرات، والتي يأتي على رأسها لزمته (ياللا بينا).

في المرتبة الثانية من الوزان يأتي “خضر فتحية” نفسه، الأخ الشرير الذي يرفض طوال الوقت أن يحيد عن مسار السرقة والبلطجة والخسة والنذالة، خاصة في علاقته بـ”ديحة” عشيقته، اللهم إلا في الحلقة الأخيرة، التي جاءت فيها توبته إرضاء لنفس المنطق الشعبوي في التطهر والتوبة و”المال الحلال”، “خضر” أيضاً، رغم كل دنسه الروحي والجسدي، وتحالفه الشيطاني مع أمه “سترة العترة/فريدة سيف النصر” ضد أخيه “نصار”، هو شخصية شريرة بمذاق معسول يوازي لسانه الحلو وثعبانيته الناعمة.

ثم تضم القائمة بعد ذلك المجرم الشكسبيري “السبتي”، صاحب اللازمة الفخمة (فليذهب إلى الجحيم)، ولا ننسى “عاطف/ مصطفى أبو سريع” الذي صارت اهزوجته الخارقة (المال الحلال أهو) شعار الموسم الرمضاني، لا ينازعه في شهرتها سوى (يالا بينا) لؤلؤة “الوزان”.

أشرار من دون قضية

ربما لا تشكل جاذبية الأشرار جزء من الارتباك المصاحب لتقييم تجربة مثل “العتاولة”، فجاذبية الأشرار عنصر حيوي في معادلة الدراما الشعبوية، بجانب عناصر مثل الحوار الحريف، والتركيبات اللغوية القائمة على المفارقة الطريفة، وغياب النظام الشرطي أو تحييده وتحجيمه في أقل المساحات، حتى يبدو أن عالم العتاولة لا يحكمه سوى قانون الذراع و(الفهلوة)، والدسائس والتصفيات الجسدية، التي لا تفرق بين شيخ عجوز مثل العم “خميس”، أو طفل هش مثل “مالك”، ناهينا عن الميلودراما الزاعقة التي تلعب فيها الأسرار العائلية، كاكتشاف أن “نصار/ أحمد السقا” ليس ابن “سترة” وأخو “خضر”، أو عقد الطفولة، كعقدة “خضر” من أبيه، أو فقدان الأبناء بالإجهاض القسري، أو القتل بدور رأس الحربة التي تهاجم قلوب المشاهدين، لدفعهم للتعاطف والإشفاق ومصمصة الشفاه.

الارتباك المصاحب لتقييم “العتاولة”، نابع أساساً من كونه عمل يحمل جينات درامية قوية، لكنها لم تتطور لتجربة ذات ثقل شعوري أو فكري أو نفسي، لا تشغله قضية، ولا يحكم وقته ولا إيقاعه منطق حقيقي، فالأحداث طوال 30 حلقة تدور حول محور صراع واحد تقليدي جداً، هو سرقة تمثال أثري من خزينة “الوزان” ومحاولاته أن يكتشف من صاحب اليد التي (علمت عليه)، ثم اكتشافه أنه “نصار”، ثم محاولة استعادته بشتى الطرق، دون أن يشغل المسلسل نفسه بقضية تهريب الآثار، على اعتبار أنها مجرد زناد لإشعال فتيل الصراع بين الوزان والعتاولة.

هذه السرقة، وما يصاحبها من مطاردات ومؤامرات وعمليات قتل وتفجير وتصفية، لا تتقاطع مع الحبكات الفرعية الخاصة بالشخصيات، سوى عبر تماس محدود وقسري، فلا علاقة بين سرقة التمثال وأزمة تبديل “فارس” ابن “نصار” و”عائشة”، والتي يروح ضحيتها “مالك” ابنهم البيولوجي، بل إن “نصار” في النصف الأول، ورغم تشبثه العنيف بـ”فارس” ورفضه فكرة تبدل الأطفال، إلا أنه حين يستسلم ويقبلها في النهاية شبه تنقطع علاقته النفسية والروحية التي أسس لها النص من البداية مع “فارس”، ويلتهي عنه بمغامراته مع “الوزان” ومحاولاته التوبة النصوح.

ولا علاقة بين سرقة التمثال وبين الخط الخاص بذهب “سترة العترة”، التي كانت تخبئه في مدفن زوجها، ثم انتقل إلى أختها وسرقة “السبتي” ليعطيه إلى “نصار”، كي يتبرع به في النهاية كجزء من الحالة التطهيرية، التي يجب أن تصبغ الشخصية الرئيسية، التي هي (أجدع من السقا) على حد صرخة “السبتي” في الحلقة الأخيرة.

ولا بين السرقة وبين عقد خضر المركبة، التي تنقسم ما بين افتقاده لحضن أبيه، وبين فقدانه لـ”فاطمة” حب عمره.

ولا مع حكاية “دينا رفارف”، لؤلؤة حارة العتاولة التي تهتز مع مشيتها الأفئدة والحواس.

الخلاصة أن كل خط من هذه الخطوط، سواء تصدر بعض حلقات أو تراجع على خلفية الأحداث، هو في النهاية خط منفرد لا يضمه مع البقية سوى التشظي والانفلات يميناً ويساراً، في محاولة لبث أكبر قدر من الافيهات والمغامرات والأزمات من دون عقد جامع ولا قوسي قضية تضم التفريعات كلها في باقة واحدة، وتصهرهم في أتون درامي ناضج.

إسكندرانية وإغريق

تبدو الصراعات المتشظية في “العتاولة” كأن كلاً منها يصلح لأن يكون خطاً منفصلاً في مسلسل مستقل، بوحدة فكرية ونفسية واضحة وقوية، لكنه حين ينضم إلى بقية الخطوط يبهت، ويخفت بريقه ويتحول إلى عود قش وسط حزمة جافة يسهل كسرها، مآسي إغريقية كالتي سبق وأشرنا إليها، الابن المفقود والأب المتخلي، والغواية الكامنة التي توقع رجالاً في شباكها اللدنة، ثم تنتزع قلوبهم أو أرواحهم، وحتى التحول الذي يصيب شخصية مثل “عائشة” في النهاية، ويدفعها إلى ارتكاب جريمة قتل عم خميس، يذكرنا بالتحول التي أصاب “ميدوزا” وحولها من امرأة جميلة إلى لعنة لكل من تقع عينها عليه.

هذه الروح الإغريقية تلبستها أصوات شجار وعراك إسكندراني شعبي حار ولاسع، فطغت عليها ولوثتها بالتشتت والهشاشة، حتى أن بعضها يختفي تماماً، ولا نعود نلمس له أثراً؛ كما سبق وأشرنا إلى علاقة “فارس” بـ”نصار” وعقدة “خضر” الأبوية، وحتى محاولة انتقام “عيسى” الساذجة من العتاولة، متمثلة في فضحه لأختهم “شادية” بأنها متزوجة من رجلين، والتي عاد النص وعصر ما تبقى منها مرة أخرى بشكل مقحم وغريب في الحلقة الأخيرة، عندما هاجم “عيسى” “شادية” مع مجموعة نساء لكي يستجوبها عن وفاة أخته “فاطمة”، وحقيقة أنها ماتت منتحرة ام مقتولة، ثم إصراره على أن يجهض “شادية” قسراً، وهروبه من العتاولة الذي يؤدي إلى مقتله قضاءً وقدراً، في حادثة على الطريق كي لا يلطخ يد العتاولة بالأحمر القاني، محافظاً على شرفهم الرمادي (نسرق آه، لكن الدم لا).

بل أن شخصية إغريقية مثل “سترة العترة”، بكل سلطانها وقسوتها، اللذان يذكراننا بـ”هيرا” ساكنة جبل الأولمب، ومصدر تعاسة نصف أبطال الملاحم الأسطورية، تختفي تماماً في الحلقة الأخيرة، بما فيها “الماستر سين” الخاص بكشف مؤامرة “نصار” على ذهب تحويشة العمر الخاصة بها، وهو المشهد الذي يقدم بشكل مسرحي تجتمع فيه نصف شخصيات المسلسل تقريبا بشكل ساذج ومدرسي، ولكن دون صاحبة الشأن ومحور المؤامرة كلها.

روقة وكسر الإيهام

قد لا تعني القضية الجامعة أو العمق شرائح الجمهور المستهدف للمسلسل، في النهاية هو عمل مرتبط بموسم متواضع درامياً، ضمن أعمال غالبيتها لن يعود الجمهور لمشاهدتها، ولن تصبح جزء من النوستالجيا الرمضانية، فالنصوص ذات الفصوص الدرامية الغالية شحيحة، والصدارة مرتبطة بالطعم الحريف أو الاذع للإفيهات أو جمل الحوار المطعمة بالجرأة ومداعبة السوشيال ميديا. 

وكما تقاطعت حبكة الأطفال الذين تبادلوا في مهدهم “فارس” و”مالك”، بالحبكة الأساسية في مسلسل “بدون سابق إنذار” من بطولة آسر ياسين وإخراج هاني خليفة، نجد ثمة تقاطعات مع عنصر شعبوي متكرر في أكثر من عمل رمضاني هذا الموسم، وهو اللعب على نماذج شخصيات أو مواقف مترسخة لدى الجمهور، وقادمة من أعمال ذات ثقل شعوري في الذاكرة الجمعية، أقربهم بالطبع في “العتاولة” لقاء “نصار” و”حنة”، المستوحى من لقاء “ماهر” و”بطة” في فيلم “المشبوه”، أو علاقة “نصار” و”خضر” التي تتماس مع علاقة “ماهر “وأخيه الأكبر “سيد” من الفيلم نفسه.

ولكن على رأس هذه المداعبات الحارة لذاكرة الجمهور تتربع شخصية “ديحة/نهى عابدين”، في واحد من أفضل أدوارها، مع الأيقونة (روقة)، والتي جسدتها نورا في فيلم “العار” من كتابة محمود أبو زيد وإخراج علي عبد الخالق، بل ان الموسيقى في جرس الاسم “ديحة”، مطعماً برقص نهى عابدين الفسفوري، وتبتلها في علاقتها بخضر، يحيل الوعي واللاوعي إلى “روقة” بشكل مباشر ودون مواربة أو شك.

كما أن اللعب على كسر الإيهام بشكل مباشر، كما في المشهد الشهير بين “عيسى” و”خضر”، حول موعد الحلقة الأخيرة على mbc مصر، أو الجمل المتناثرة هنا وهناك على لسان الشخصيات، كأن يقول “خضر” في بداية اشتباكه مع رجال “عيسى” (بقى لي 8 سنين معملتش أكشن)، وحتى تلك العلاقة بين “نصار” و”حنة” (السقا وزينة)، تذكرنا بلقائهم في فيلم “الجزيرة”، كما العلاقة بين السقا وطارق لطفي، في كاستينج شاطر، مستوحى من “صعيدي في الجامعة الأميركية”، كل هذا لا يمكن اعتباره ضمن المنطق الشعبوي عنصراً سلبياً، بل هو جزء من الحالة الحريفة التي يقدمها المسلسل، بل ويأتي هنا موزع بشكل لافت بين الحلقات، ويحمل حس محاكاة ساخرة محسوب بذكاء.

تبقى الإشارة إلى أن “العتاولة” رغم كل العناصر التي يفتقدها، أو حتى الزائدة عن وزنه الدرامي هو عمل مسلي،  استطاع أن يلف خيط جمهوره حول إصبعه الملون طوال 30 حلقة، في منافسة ليست سهلة مع أعمال نصف شهرية (15 حلقة)، سريعة الإيقاع، حادة الجاذبية، وذات عمق حقيقي، أو على الأقل بها من النضج ما يتيح لها أن تمتلك رصيداً من وقت المشاهدة المزدحم.

ويؤكد “العتاولة” على ارتفاع واضح في المستوى التراكمي لخبرات المخرج الشاب أحمد خالد موسى؛ خاصة في علاقته اللونية بالبيئات والأماكن، رغم كثرة اللقطات العلوية، التي شكلت محاولة حثيثة لإعادة تقديم الإسكندرية بشكل مغاير لما قدمت عليه عبر عقود من المسلسلات، التي قٌدمت في حيز المدينة المبطنة بسحر معتق.

كما لا يمكن إغفال حالة النشاط والوجاهة الفنية التي ظهر بها غالبية ممثلي الصف الثاني، وهو أيضاً ما يحسب للمخرج بشكل كبير، خاصة مع تشظي الخطوط الدرامية وانفلاتها في اتجاهات مختلفة، كان من الممكن أن تصيب الممثلون بشيء ليس بالهين من عدم التوازن في الأداء.

main 2024-04-10 Bitajarod

المصدر: بتجرد

كلمات دلالية: فی الحلقة الأخیرة فی النهایة علاقة بین جزء من

إقرأ أيضاً:

“رفعت عيني للسما”.. عن التشبث بحافة الأحلام

متابعة بتجــرد: للمرة الثانية في أقل من 5 سنوات- عقب فوز فيلم “ريش” للمخرج عمر الزهيري- تشارك مصر ضمن منافسات مسابقة أسبوع النقاد بفيلم المخرجين ندى رياض وأيمن الأمير “رفعت عيني للسما”، حيث تشكل التظاهرة الهامة واحدة من البرامج الموازية التي يتكون منها محتوى مهرجان كان السينمائي الأشهر في العالم، إذ تأسس الأسبوع عام 1962 بغرض اكتشاف المواهب السينمائية الطازجة التي تقدم تجاربها الأولى والثانية.

كان الثنائي (رياض/الأمير) قد قدما فيلمهما الأول “نهايات سعيدة” عام 2016، وهو وثائقي ذاتي يحكي قصة زواجهم المعقدة على خلفية تباين عنيف في العقيدة والبيئات الاجتماعية والروافد الفكرية، وفي لحظة ديستوبية من التاريخ المصري الحديث عقب حراك يناير 2011، وقد تعرضت التجربة لتضييقات رقابية شديدة، لكنها لم تفت في عضد الطموح الجارف والشغف بصناعة الأفلام لدى المخرجين الشابين، اللذان أسسا شركتهما الإنتاجية الخاصة “فلوكة” وسعيا لإنجاز تجربتهم الوثائقية التالية، والتي كللت بالاختيار الرسمي ضمن قائمة تضم 7 أفلام تتنافس على جوائز الأسبوع، ليفوزا في نهاية المهرجان بجائزة العين الذهبية.

رفعت عيني

يضع صناع الفيلم للتجربة عنوانين، الأول بالعربية وهو “رفعت عيني للسما”، وهو عنوان يجمع خليطاً ما بين المقاومة، وهي واحدة من الأفعال الرئيسية للشخصيات بالفيلم، وعلى عكس الأكف التي تعطي انطباعا بالتوسل والرجاء، يمنح فعل رفع العين تأثيراً أكثر تمرداً وقوة، ويحمل حس صوفي يوحي بالمحبة العميقة والإيمان بأن المطلوب من القوى العليا سوف يأتي ذات يوم.

العنوان الثاني هو العنوان الإنجليزي للفيلم، وترجمته “حافة الأحلام”، وهو تعبير ذو دلالة شعرية معلنة، توحي بملحمية الموقف الوجودي والاجتماعي والإنساني والعاطفي لمجموعة فتيات “فرقة بانوراما برشا”، وهي فرقة مسرح الشارع المكونة من عدة فتيات يملكن شغفاً جارفاً تجاه الفن، كأداة حادة الصوت للتمرد والمقاومة، ويسكن في قرية البرشا في أعماق محافظة المنيا الصعيدية، بل وتمتد دلالات (الحافة) إلى التعبير عن الخوف من عدم التحقق، أو فقدان بوصلة الثبات على المبدأ، أو خطر السقوط في هوة ضياع العمر وانكسار الروح.

في اللقطات الأولى نرى الفتيات، وهن يعبرن كالبراعم الطائرة فوق الحقول الواسعة الخضراء، كأنهن قادمات من أرض الأحلام، ثم نراهن يتلاعبن بالماء في النيل، وأرجلهن مغمورة بمائه الذي يختلط بضحكاتهن المستبشرة بالحياة والقادم، ثم كأنما رواهن النيل، فأنبتهن زرعاً طيباً؛ يقدم لنا المخرجان اللقطة الأخيرة في الافتتاحية الشعرية الرقيقة كأنهن يسرن فوق الماء –بكل ما تحمله إشارات السير فوق الماء من ثقل ديني وصوفي واجتماعي- خاصة عندما تصلنا معلومة إنهن مسيحيات سواء عبر الأسماء أو صور وأيقونات القديسين التي لا يكاد يخلو منها مشهد بالفيلم.

هذه الافتتاحية تؤصل لأسلوبية الصنّاع في التعاطي مع المواد الأثيرية، التي تتشكل منها مادة الحلم الذي يراود المجموعة الشابة، فحجم المعلومات التي يتلقاها المشاهد لا تأتي بالتلقين ولا النقل المباشر، فلا تعليق صوتي من خارج عالم الفيلم ولا تعريفات بأسماء أو أماكن أو شخصيات تكتب على الشاشة، بل معايشة مخلصة للمدرسة التسجيلية التي يتبعها الصناع في رصد اليومي، المعاش، أو التقاط المخفي والغامض أو هواجس الإخفاق والاستسلام.

تمنح تسجيلية المعايشة فرصة كبيرة للرصد وحشد التفاصيل، خاصة مع الحكايات التي تتشكل من التفاعلات البطيئة بين الشخصيات والبيئة المحيطة، كما تُراكم الزمن بصورة عفوية ومتصاعدة لا غنى عنها لمثل هذا النوع من القصص، والتي يلعب الوقت فيها دور الخصم والحكم، فالفتيات في الفرقة في خصومة مع الزمن بمستواه المعنوي، أي العصر الذي يعيشون فيه، وفي خصومة مع مروره الخارق، وهن يسابقنه كي يحققن أحلامهن الطموحة حد الاستحالة، وهو ذاته الحَكَم الذي يراهنَ على أن تقدمه أو استغلاله والسعي وراء اكتساب الخبرات عبره، هو ما سوف ينصف قضاياهن التي يرونها عادلة ومستحقة الفوز.

“ولا عارفة ألبس فستان!”

تقدم مجموعة “بانوراما برشا” عروضها المسرحية في الشارع، عبر شكل أقرب للمظاهرات الملونة بالبساطة والمباشرة والهتاف البريء ضد ما يعوقهن ويعوق من هن على شاكلتهن، من مشكلات ظاهرها اجتماعي (الزواج القسري- الأمومة المبكرة- السلطة الأبوية- العنصرية الذكورية- الكبت- التسفيه- التنمر)، بينما باطنها يحتوي على شكوى حقيقية من الوضع الحضاري والإنساني، الذي وصل إليه المجتمع الذي يفتقد مقومات الحداثة وملاذات التقدم، سواء بحكم الانعزالية – الصعيد- أو العصبيات البالية أو السياجات الدينية، بل ان الهتافات والأغاني والاسكتشات اللائي يقدمنها، تختصر الصورة الكبيرة للوضع المزري في جمل وتراكيب طفولية؛ كان تعلن إحداهن أثناء العرض في منتهى الأسى (ولا عارفة ألبس فستان) كناية عن كل طاقة التمرد الحبيسة، والرغبة الحارة في إطلاق العنان لعصفور الحرية المكبل بصدأ الأوضاع المعيشية شحيحة المادة خاملة الأفق.

تدور كاميرا المخرجين على الفرقة سواء في مظاهراتها المسرحية، أو عبر البروفات والجلسات التحضيرية التي يتشاركن فيها البوح عن الأحلام والهواجس والكوابيس، كمادة خصبة للأسكتشات والأغاني، واللائي يصغنها من أجل عروضهن، لا يكاد يغيب الحديث عن الأحلام بمختلف تجلياتها عن مشاهد الفتيات الثلاث (ماجدة ومونيكا وهايدي)، سواء الحلم بمعناه المجازي كامل أو الحلم كزمن للسعادة المؤجلة، أو الرؤى التي يفرزها لا وعيهن الجمعي في مشاهد الحديث عن الكوابيس الليلة المرعبة.

منزوعة الريش

بمكر شديد وبراعة في التقاط التحولات، يمسك الفيلم بخيط مراوغ وشديد الحساسية يمثل نقطة تحول دراماتيكية هامة في حياة الفتيات الثلاث، فالمعايشة تمكنه من رصد التنازع الحاد بين الرغبات الشخصية، والسعي نحو إشباع الميول العاطفية، وتلبية احتياجات الغرائز الاجتماعية عبر التوق للاكتمال الشعوري والجسدي بالحب والزواج والخطبة، في مقابل كهرباء الشغف الفني التي تستعر في داخلهن، فكل من مونيكا وهايدي اللائي نراهن يمجدن المقاومة، ويربطن على قلوبهن حجر أثناء المظاهرات المسرحية، تصمت شرارات العاطفة الفنية بالتدريج في داخلهن، بينما تتأجج عواطفهن الأنثوية تجاه الذكور الذين تقدموا لخطبهتن، فمونيكا صاحبة الصوت المشروخ التي كانت تريد أن تصبح مطربة تنافس أصالة يخطفها الزواج لشهور من الفرقة، حتى إن ماجدة تطاردها بالمكالمات من أجل أن تعود إلى البروفات، رغم أن خطيبها/زوجها يطلق لها عنان مطاردة حلمها الدائم بالغناء.

بينما هايدي التي تعتبر ابنة عائلة فنية (أمها دميانة بطلة فيلم “ريش” لعمر الزهيري والتي تظهر في الفيلم، وقد أصبحت وجه مألوف لجمهور أسبوع النقاد في كان)، بل ويبدي أباها تفهماً استثنائياً يتحرر فيه من أثر العصبيات وبقع التقاليد الداكنة؛ تترك هي مقودها لسيطرة الخطيب الذي يطلب منها مسح أرقام مجموعة البانوراما من هاتفها، متهما إياها بأنها منحرفة وخائنة، طالما لم تغادر حلمها بأن تصبح ممثلة أو راقصة بالية.

هكذا تنجح تسجيلية المعايشة في صيد المأزق الوجودي بكل جدليته المراوغة، فبينما كانت عروضهن تصرخ رغبة في التحرر وانتزاع المبادرة والإرادة الحرة بقبضة صلبة ومستميتة، فإذا بهن يتخلين عن كل هذا عندما يتحقق اكتمالهن -المتصور- بالشريك! 

ليصبح السؤال: هل أدى الفن الغرض من وراءه؟

 هل اكتمل الحلم بالتحرر عندما صارت كل منهن حبيبة أو خطيبة أو زوجة! 

إن ماجدة تلوم مونيكا على غيابها لشهور عن الفرقة، فترد مونيكا أنها عروس وبيتها يستحق الالتفات والعناية – نراها بالفعل في البيت، وهي تؤدي مهامها كزوجة نشيطة- بينما تنتحي هايدي جانباً في البروفات لكي تدافع عن نفسها في التليفون ضد اتهامات الحبيب الرافض لوضعها، كعضوة في فرقة مسرح شارع يرقصن فيه للناس دون اعتبارا لسياقات المجتمع الملوث بالمحافظة الفارغة.

في حين تبدو ماجدة هي الوحيدة التي تتشبث بحافة حلمها، وفي كل مرة عندما يصدمها رد واحدة من زميلاتها يحيلها الفيلم شعرياً إلى وصف مؤثر ودرامي، كأن نراها مرة تنظف بأسى دجاجة منزوعة الريش (مسلوخة) كأنها هي، أو تغرق نظرتها الحزينة في ألسنة اللهب المتصاعدة من حريق قش الرز كمعادل لغضبها الداخلي من أثر التخلي الفاضح الذي لطخ فرقتها عقب انسحاب مونيكا وهايدي، وكأن كل ما صرخن به طار صداه من دون رجع حقيقي.

طبول الحرية

بذكاء يترك الفيلم إلى حدس المتلقي ومفهوميته المقاربة بين موقف الفتيات قبل الحب والزواج وبعده، كنماذج لشمولية السياقات الاجتماعية وجدليتها غير الهينة، بينما تحافظ له ماجدة على استمرارية السعي، رغم انتصارات الواقع بكل سخافاته، تخلي زميلاتها عن حلم الفرقة، أو تنمر الأخ الذكر وسخريته التافهة من طموحها المستحق، فنراها تقرر السفر إلى العاصمة لكي تتقدم لمعهد الفنون المسرحية، وتواجه المترو/الوحش الذي يخيفها به أخاها كأنها طفلة صغيرة يريد ردعها عن الخروج للعالم الواسع.

وبذكاء أيضاً لا يستسلم الفيلم ككائن حي مفعم بالمقاومة والتمرد لخفوت الخط الحياتي الخاص بفتيات الفرقة، بل يصعد في نهايته – صعود معنوي وبصري- إلى وجوه جديدة لفتيات جديدات– كأنهن الجيل الأحدث من فرقة البرشا- يصنعن أدواتهن الصوتية الخاصة للإعلان عن القدوم من أجل تقديم العروض، وهن يضربن على طبولهن البدائية- طبول الحرية- ليقرعن أسماع مجتمع كلما أعاد إنتاج الكبت، أو حطم حواف الأحلام حد السقوط أفرز في نفس الوقت براعم المقاومة والتمرد، وكأنه ارتباط شرطي بين نقيضين، كلما تفاقم أحدهم برز الآخر في مواجهته.

ومن وجوه الفتيات اللائي يمزقن الأصوات اليومية الكسولة في شوارع القرية، تصعد الكاميرا في لقطة علوية، ليظل صوت دق الطبول والغناء العفوي الخشن صاعداً معنا كأنما هو قادم من الخطوط الضيقة التي تدعى مجازاً شوارع، والتي نراها كعروق جافة تمر بين أكداس من البنايات العشوائية الملتصقة كأنما كهوف تحبس الفراشات عن أن تطير، ولكنها حتماً ستطير ذات يوم، وتحلق فوق الحقول الواسعة كما طارت سابقتها التي رأيناها في اللقطة الأولى من الفيلم، صحيح أن السعي خاب لبعضهن، ولكن مجرد وصول الشريط الذي صنعنه بحكاياتهن إلى مهرجان كان يعني أن الخروج للنور والسير على الماء نحو الحلم، ليس معجزة أو مستحيلاً.

main 2024-06-02 Bitajarod

مقالات مشابهة

  • “موسم جدة” يعود بهوية جديدة وفعاليات وتجارب متنوعة
  • بن زيمة: “كنت متشوقا جدا للقدوم إلى وهران”
  • عبدالله بن زايد يزور المعهد الوطني للتعليم “NIE” في سنغافورة
  • “رفعت عيني للسما”.. عن التشبث بحافة الأحلام
  • نادر الأتات يحصد مزيداً من الملايين.. “مش بس حبيبك”
  • المؤتمر القومي العربي: الحصار اليمني لـ”إسرائيل” يثبت معادلة اقتصادية جديدة ويرسل رسائل قوية للغرب
  • وزير دفاع كوريا الجنوبية: سنواجه مع واشنطن تعزيز قدرات كوريا الشمالية بعد “تسلمها تكنولوجيات روسية”
  • إياد نصار: لا أحب الشخصيات الأحادية.. والممثل مرآة المجتمع
  • هل ستغلق أبوابها قريباً؟.. ملاك المولات التجارية في عدن يهددون بالإغلاق احتجاجاً على الضرائب “الخيالية” والرسوم المجحفة
  • “تنظيم الاتصالات” تطلق النسخة الثالثة من دليل مواصفات صناديق شبكات الاتصالات للمباني