عربي21:
2025-07-05@03:04:15 GMT

متلازمة الدورة الحضارية وتحسين الأداء

تاريخ النشر: 24th, October 2024 GMT

الكفاءة القيادية

"تحسين الأداء" تعبير يتكرر على ألسنة المسؤولين الجزائريين من أعلى هرم السلطة إلى أدناها في كل المجالات تقريبا، من دون أن يتحسن أداؤهم في واقع الأمر، ومن دون أن يتساءل هؤلاء المسؤولون عن الخلل الذي أدى إلى الفشل في هذا التحسين. والمساءلة تقتضي المحاكمة وتاليا المعاقبة في الشرائع كلها.

ولكن من يحاسب من؟

أشير على عجل إلى مكمن المشكلة التي لا يحسن المسؤولون فهمها، لأنهم لا يمتلكون المؤهلات العلمية لفك طلاسمها، إنها الولوج إلى "الدورة الحضارية" أو البقاء خارجها. ومن يبقى خارجها يحدث له ما يحدث للمسؤولين عندنا من مراوحة وتخبط في كل تجربة تحسين يكثرون الحديث عنها.

مفهوم الأمن القومي لا ينحصر في حماية الحدود مما قد يتهددها، بتجنيد المزيد من الرجال والعتاد، الأمن القومي معناه متعدد الأوجه متشعب التفاصيل، ولا يكاد قطاع يخلو منه في حياتنا المعاصرة. إنها الجاهلية الحديثة متسلحة بالعلم تنخر في كيان الأمة وقد تسقط الأوطان. وليست الخشونة والحدة في المزاج واستعراض عضلات الجنود وسب الرب والدين بكافية وحدها لإخافة الأعادي.الدورة الحضارية تشبه النواعير وهي تدور، ولكي تعلو أي دولة تلك الدورة لا بد لها من قرار سيادي تتخذه زمرتها الحاكمة. ومن شروط الارتقاء في تلك الدورة أن يستصحب المرتقي قاعدتين أساسيتين هما العلم والصلاح في أسمى معانيهما، فهما المفتاحان السحريان اللذان ضيعتهما السلطة بعد الثورة التحريرية.

من ركب إحدى الدورات الحضارية من الأمم المتقدمة اليوم، غفل عن استصحاب الإيمان بربه وأخذ مفتاح العلم وحده مجردا من تعاليم الخطاب الإلهي، فصعد وارتقى حتى توقفت به النواعير فجأة، وقد يكون وصل إلى أعلى القمة. وهنا افتقد المرتقي الحيلة ولم يهتد إلى الخلاص سبيلا، وتبعه إلى ما هو عليه غفّل من الناس أرادوا الالتحاق به وبدورته الحضارية من دون أن يفقه التابع والمتبوع كيف وصلت بهم الأوضاع إلى هذا الحال، ولم يتفطنوا إلى الأيام كيف يداولها الله عز وجل بين الناس...

ولكن، لماذا لا يبلغ من فقه أسرار الحياة عن ربه ولاة الأمر في بلداننا المسلمة لينقذهم مما هم فيه تيهان؟

أهمية النظرة الكونية

النظرة الشمولية للأشياء تهب المسلم فهما صحيحا لما يدور حوله من متغيرات، وتمنحه أفضلية التحكم في مجرياتها، بما يجعله سيدا على كون مسخر له في الأصل؛ المهم أن تكون نظرته إلى المخلوقات ربانية، من خلال تعاليم الله الذي أبدعها ودل الإنسان على أسرارها كيما يتنعم بها، من غير أن يفسد فيها أو يتصادم بها. إن الاستغراق في تفاصيل الحياة الدنيا تجعل الإنسان مرتهنا بتقلباتها الضارة والنافعة، ولا يأمن على نفسه منها أن ترديه مهالك هو في غنى عنها. لا يكترث المسلم المعاصر بأهمية النظرة الشمولية للكون والإنسان والحياة، وأصبح جل اهتمامه منصبا على تفاصيل الحياة التي يحياها، من دون أن يعي جوهرها وخصائصها، مهما تقلبت به وأرهقته وأخذت من عمره المحدود.

إن مواقع "القيادة والسيطرة" أكثر ما يستهدفه أعداء الأمة ويحرصون عليه، ولدى هؤلاء سوابق في التاريخ، ففي عهد السلطان العثماني عبد الحميد (رحمه الله)، حينما عرض عليه اليهود تسديد ديون السلطنة لقاء أراض يستوطنون بها، فكان لا يبالي بطلباتهم ولا يرعيها أي اهتمام. فطنة الحاكم المسلم تغني الأمة الإسلامية عن مهالك شتى كان الأحرى بها ألا ترمي بنفسها إليها. إن أمتنا اليوم تكاد تكون مستباحة في كل شيء لولا أن دعوات المصطفى (صلى الله عليه وسلم) تحوطها بالحماية من الهلاك المفني من كل جانب؛ فلله الحمد وله الشكر على ذلك. إن ذهنية الصد عن ذكر الله وعن الشعائر التعبدية والمشاعر الدينية متفشية في كل زمان ومكان، وعلى المسلم الكيس الفطن أن يتنبه إلى كل ذلك، ولا يكونن في أيدي الشياطين وأوليائهم "كالكرة في أيدي الصبيان".

كان أول ما تلقى إبني في أول يوم دخل فيه القسم التحضيري للمرحلة الابتدائية النشيد الرسمي "قسما بالنازلات الماحقات.. والدماء الزاكيات الطاهرات"، وهو نشيد له تأثير خاص على النفوس حينما يلحن مترافقا مع الموسيقى التي تستثير الحماسة والوطنية. فقلت له: ماذا تعلمت اليوم في المدرسة؟ فقال ببراءة الطفولة: "هاذيك، قسما بالله...".     

لقد لفتت إجابته انتباهي إلى الفطرة السليمة عندما تكون نقية لم تداخلها أفكار بشرية يحتمل لها التأويل هذا أو ذاك. كما لفتت انتباهي إلى البرنامج الدراسي الذي تفرضه وزارة التربية والتعليم في الجزائر على أبنائنا، والذي لا يعزز في نفوس الناشئة الإيمان بالله وحب الإسلام كأول ما يجب أن يتلقاه الأطفال على مقاعد الدراسة... إنها قضية جوهرية تحيلنا على علمانية التربية والتعليم، وتجافيها لتعاليم الدين، في بلد المليون ونصف المليون شهيد.

الفكر الليبيرالي يقدس المادة ويسعى إلى الاستثمار في كل شيء، لا يبالي الليبيراليون بالمسموح ولا بالممنوع، ولا بما يليق وما لا يليق، المهم عندهم أن يدر النشاط مالا. أما الشرع الإسلامي الحنيف فيبيح جمع المال من حله ويحض على إنفاقه في سبيل الله، لا العكس؛ أي لا يبيح للمسلم أن يستثمر ماديا في أعمال الآخرة من أجل دنياه، بل يرشده إلى العمل في دنياه على أن يدخر ثوابه لأخراه.تكرار النشيد الوطني على مسامع الناشئة كل صباح في المدارس له آثار عكسية على نفسياتهم لا شك في ذلك ولا ريب، فكثرة الترداد ستجعلك تمل تلك المعاني الجميلة التي يبثها ذلكم النشيد في النفوس. وغياب المصليات في المدارس ثقب أسود يودي بالمكتسبات التعليمية، فلا ترى مساءلة تربوية على تضييع فريضتين مكتوبتين الظهر والعصر، ويقضي التلميذ مساء يومه في المدرسة من دون أن ينبهه أحد على الصلاة. ولا ننس آداب الاستنجاء، فإن المتمدرسين يتركون على سجيتهم يتدافعون أمام المراحيض من دون عناية بالموضوع، فيجلب إلى بيته سوء الفعال.

الكيان الإسرائيلي عمل منذ تأسيسه على ترسيخ مبادئ التوراة والتلمود في نفوس بنيه، وأخذهم بالعلم الحقيقي فنالت جامعاته المراتب الأولى وعلماؤه الجوائز الكبرى، وبنى دولة بيننا تراعي المدنية في آخر تجلياتها، المهم أنه انتصر على ملياري مسلم حتى بداية "معركة طوفان الأقصى".

صيانة الأمن القومي

مفهوم الأمن القومي لا ينحصر في حماية الحدود مما قد يتهددها، بتجنيد المزيد من الرجال والعتاد، الأمن القومي معناه متعدد الأوجه متشعب التفاصيل، ولا يكاد قطاع يخلو منه في حياتنا المعاصرة. إنها الجاهلية الحديثة متسلحة بالعلم تنخر في كيان الأمة وقد تسقط الأوطان. وليست الخشونة والحدة في المزاج واستعراض عضلات الجنود وسب الرب والدين بكافية وحدها لإخافة الأعادي.

إن من أوجه الأمن القومي التي يجب أن تصان بعناية فائقة، لكون الاستعمار الحديث يتقصدها عبر الحروب الهجينة: الأمن القومي الأخلاقي والتربوي، والسياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، والأمن القومي الثقافي، واللغوي، والسيبيراني.. وغير ذلك من الميادين التي تفوقت فيها الحضارة الحديثة. وينبغي أن يدفع لكل مجال فيها رجال ومال وعتاد، بأقصى درجات الجودة والاتقان، هكذا نعقلها وعلى الله الاتكال بعد ذلك، كما أوصانا صاحب الرسالة (عليه الصلاة والسلام).

قرأت عما جناه منهج الإخوان على التدين الموروث للأمة منذ قرون في بلادنا خاصة، والحق أن جانبا منه صحيح، ولكن زاوية النظر إلى الموضوع محدودة جدا. فما يهمني الإشارة إليه أن الحركة الإسلامية عموما عاشت ولا تزال غربة في المجتمع، بسبب خياراتها وسلوكها، منها تجافيها عن ثقافة المجتمع الفقهية. ولربما كان لواقع الهيئات الدينية، الزوايا والوزارة، ما نفر الشباب من هذا الاندماج. ثم إن المراد الأسمى لهذه الحركات كان الإصلاح السياسي، وفي السياسة الشرعية فقه لا يتسع له مذهب بعينه. وألق الدعوة الإصلاحية والإحيائية في المشرق كان له تأثير بين. ولا ننسى أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين اتخذت من الوهابية منهجية لمحاربة الاستعمار وأذنابه. إذن في الموضوع تشعبات، وفي التشعبات إنجازات وإخفاقات، يحسن الإضاءة عليها، حتى لا يفهمن أحدهم أننا تعزف على وتر من يشيطن حركة إصلاحية كالإخوان، تتصدى للمحتلين في فلسطين.

إن دولا كالمملكة العربية السعودية تستخدم ما هو أسمى وأجل من أجل عرض من الدنيا قليل. فبعد أن كان اشتغال الحاج والمعتمر بما سوى الشعائر والنسك بدعة ومدخلا من مداخل إبليس يحذر منه "كبار" علمائها، أصبحت إقامة متحف يحكي تاريخ المسجد النبوي بالقرب من القبر الشريف بدار الخلافة الأولى مبعثا على الافتخار والتداعي لزيارته مترافقا مع زيارة الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وسلم). وللمفارقة، فقد أنشئ مرأب أسفل الحرم المدني لركن السيارات، مقابل مبلغ يدفعه الراكن بحسب المدة التي يقضيها في الحرم متعبدا أو زائرا للروض الشريف. ومن سخرية الأقدار بهؤلاء القائمين على المرأب ألا يشعروا بقبح ما يصنعون وهم يجمعون النقود من الزوار. يقال مثل ذلك الانطباع عن أكثر المواقع قيمة روحيا وتاريخيا في البقاع المقدسة. إنها أبواب الدار الآخرة وليست مرافق سياحية أيها السادة الذين تدعون "خدمة" الحرمين الشريفين!

الفكر الليبيرالي يقدس المادة ويسعى إلى الاستثمار في كل شيء، لا يبالي الليبيراليون بالمسموح ولا بالممنوع، ولا بما يليق وما لا يليق، المهم عندهم أن يدر النشاط مالا. أما الشرع الإسلامي الحنيف فيبيح جمع المال من حله ويحض على إنفاقه في سبيل الله، لا العكس؛ أي لا يبيح للمسلم أن يستثمر ماديا في أعمال الآخرة من أجل دنياه، بل يرشده إلى العمل في دنياه على أن يدخر ثوابه لأخراه.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الجزائريين التربية الجزائر تربية اتجاهات رأي مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الأمن القومی من دون أن

إقرأ أيضاً:

عبد الوهاب المسيري والعلمانية.. نقد العلمنة الشاملة والتمسك بالخصوصية الحضارية (2)

في الزمن العربي الراهن، تتداخل معركتان في معركة واحدة: مقاومة الاحتلال ومجابهة الاستيلاب. فقد أثبتت التجربة أن التحرر من هيمنة الخارج لا يكتمل ما لم يُنجز الداخل تحرره من اغتراب الهوية وانقسام الرؤية. والحال أن حرب الإبادة المستمرة على غزة منذ قرابة عامين، تُظهر عجز الحاضنة العربية والإسلامية عن الوقوف صفًا واحدًا في وجه الاحتلال، ليس فقط بسبب موازين القوى، بل لأن شعوبها ونخبها لم تحسم بعد موقعها من سؤال الهوية، وموقفها من الديمقراطية. هذا التداخل بين السياسي والثقافي، بين الاحتلال والعلمنة القسرية، هو ما يجعل قراءة عبد الوهاب المسيري ضرورية اليوم، لأنه لم ينظر إلى العلمنة بوصفها قضية نظرية فحسب، بل كامتداد لهجمة استلاب حضاري تستهدف الإنسان العربي المسلم في جوهره وقيمه.

من حداثة في مواجهة الاحتلال إلى هوية في مواجهة الاستلاب

إذا كان عزمي بشارة قد قدّم طرحه للعلمانية من داخل واقع معقد حيث الاحتلال يفرض نفسه كقيد على الدولة والمجتمع معًا، فإن عبد الوهاب المسيري يأتي من سياق مختلف لا يقل التباسًا، لكنه أعمق تماسًا مع سؤال الهوية الثقافية والحضارية في ظل تجربة الاحتلال من جهة، والعلمنة القسرية من جهة أخرى. في فلسطين، بدت العلمانية عند بشارة أفقًا للخروج من قبضة الدين المسلّح بالهوية الطائفية، وبوابة نحو ديمقراطية مدنية لا تقوم على الدين بل على المواطنة. أما في مصر، فقد شهدت حقبة ما بعد الاستعمار المباشر انتقالًا صاخبًا من التحرر الوطني إلى الاستبداد الداخلي، ومن أحلام العدالة الاجتماعية إلى انغلاق السوق المعولم، وكل ذلك تحت يافطة "الحداثة".

حاول المسيري، بعمق فلسفي ونقدي، أن يحرر النقاش حول العلمانية من ثنائية القبول والرفض، ليضعه في إطاره الحضاري الأوسع: هل يمكن بناء نموذج حداثي من داخل الثقافة العربية الإسلامية؟ وهل يمكن تصور علمانية لا تعني إقصاء الدين، بل إدارة حضوره بشكل عقلاني وإنساني؟ وهل الحداثة، كما عُرفت في الغرب، هي قدر الجميع، أم أن هناك حداثات متعددة، إحداها يمكن أن تكون إسلامية في جذورها، إنسانية في أفقها؟في هذا المناخ، تشكّل وعي المسيري في مواجهة مشروع علمنة لم يكن اختياريًا، بل مفروضًا من فوق، باسم التقدم والاندماج في "النظام العالمي الجديد"، بينما الهوية الإسلامية للمجتمع كانت تُدفع تدريجيًا إلى هامش الحياة العامة. ولذلك، فإن نقد المسيري للعلمانية لا ينطلق من الدفاع عن الدين فحسب، بل من الدفاع عن الإنسان، باعتباره كائنًا يحمل تاريخًا وقيمًا وجذورًا لا يمكن بترها باسم الحياد أو العقلانية المجردة.

لقد حاول المسيري، بعمق فلسفي ونقدي، أن يحرر النقاش حول العلمانية من ثنائية القبول والرفض، ليضعه في إطاره الحضاري الأوسع: هل يمكن بناء نموذج حداثي من داخل الثقافة العربية الإسلامية؟ وهل يمكن تصور علمانية لا تعني إقصاء الدين، بل إدارة حضوره بشكل عقلاني وإنساني؟ وهل الحداثة، كما عُرفت في الغرب، هي قدر الجميع، أم أن هناك حداثات متعددة، إحداها يمكن أن تكون إسلامية في جذورها، إنسانية في أفقها؟

هذه الأسئلة ستكون مدخلنا إلى قراءة أطروحة المسيري في هذا المقال، حيث نتوقف عند مفهومه المزدوج للعلمانية (الجزئية والشاملة)، ونفكك نقده للعلمنة كأداة تفريغ رمزي وثقافي، ونتأمل في البدائل التي يقترحها، ليس من أجل رفض العالم، بل من أجل العبور إليه دون خسارة الذات.

مفهوم العلمانية عند المسيري.. من العلمنة الشاملة إلى الخصوصية الحضارية

يشكّل التمييز الذي وضعه عبد الوهاب المسيري بين "العلمانية الجزئية" و"العلمانية الشاملة" أحد المفاتيح الأساسية لفهم موقفه من هذا المفهوم الجدلي. فبينما تنحصر العلمانية الجزئية ـ حسب تعريفه ـ في فصل الدين عن الدولة أو المؤسسات السياسية، وهو ما قد يُعدّ مقبولًا ضمن شروط تاريخية وسياقية معينة، فإن العلمنة الشاملة تعني، في نظره، نزع القداسة عن الكون والإنسان والحياة برمّتها، أي تحويل العالم إلى "مادة صمّاء"، تُدار وفق منطق النفعيّة والمادية الباردة.

وهذا التوصيف للعلمنة الشاملة ليس نظريًا مجردًا في تفكير المسيري، بل هو نقد جذري لمسار حضاري رأسمالي غربي، اختزل الإنسان إلى "كائن اقتصادي" أو "مستهلك"، وأقصى كل ما هو رمزي وقيمي وديني من المجال العام، بل حتى من المجال الخاص أحيانًا. في هذا السياق، تبدو العلمانية الشاملة ـ بحسب المسيري ـ أقرب إلى أيديولوجيا مادية كامنة، تسعى إلى "إعادة تشكيل" الإنسان وفق رؤية أحادية للعقل والعالم.

خلفيته الفكرية والسياسية.. من الأكاديمية الغربية إلى نقد المركزية الغربية

ليس عبد الوهاب المسيري مفكرًا تقليديًا تربّى على المناهج الكلاسيكية فقط، بل هو نتاج احتكاك عميق بالعالم الغربي، حيث درس ودرّس، وتشرّب فلسفاته، قبل أن يبدأ في مراجعة نقدية صارمة لما كان يراه سابقًا جزءًا من منظومة "التحرر الفكري". لقد ساعده هذا المسار الشخصي على فهم بنية العلمانية الغربية من الداخل، لا كـ"مستورد ثقافي"، بل كمثقف عاش صدمتها.

تجربته مع الماركسية أولًا، ثم تحوّله نحو مرجعية إسلامية نقدية، تكشف أن نقده للعلمانية لم يكن انعكاسًا لموقف هوياتي مغلق، بل هو ثمرة تطور فكري طويل، بلغ ذروته في موسوعته "اليهود واليهودية والصهيونية"، التي لا يمكن قراءتها خارج هذا الإطار: تفكيك بنية التفكير الغربي الحديث الذي أنتج الصهيونية، تمامًا كما أنتج العلمنة الشاملة.

العلمانية والهوية الحضارية.. الإسلام كمنظومة قيم لا مجرد دين طقوسي

يصرّ المسيري على أن الإسلام ليس مجرد ممارسات تعبدية أو منظومة لاهوتية، بل هو "نسق حضاري" متكامل يشمل الأخلاق، الاجتماع، السياسة، والرموز الثقافية. من هنا فإن أي علمنة شاملة تحاول طرد الدين من الفضاء العام، أو اختزاله في الضمير الفردي، تُعدّ في رأيه اغترابًا عن جوهر المجتمع العربي الإسلامي.

بل إن هذا النوع من العلمنة لا يُنتج الحرية كما تزعم، وإنما يؤدي إلى استبداد ناعم، يُفرغ الإنسان من قيمه المتعالية، ويحوّله إلى فرد مستهلك، ضعيف، فاقد للمعنى. ولهذا، فإن المسيري لا يرفض العلمانية بوصفها تنظيمًا للعلاقة بين الدين والدولة، بل يرفض أن تكون أداة لمحو الهوية باسم "العقلانية" أو "الكونية".

نقد المسيري للعلمانية الغربية.. نموذج غير قابل للاستنساخ

من أهم مرتكزات نقد المسيري للعلمانية الغربية، اعتقاده بأنها:

ـ نتاج سياق تاريخي خاص: أي صراع طويل بين الكنيسة والدولة في أوروبا، لا يشبه العلاقة بين الدين والدولة في المجتمعات الإسلامية، التي لم تعرف مؤسسة كنسية بالمفهوم الغربي.

ـ مركزية الإنسان المادي: حيث أصبحت مرجعية القيم نفعية فردانية، بدلًا من مرجعية أخلاقية أو متعالية.

إن ما يميز مشروع عبد الوهاب المسيري هو سعيه الدؤوب لتجاوز الثنائيات المغلقة: ديني/علماني، تراث/حداثة، شرق/غرب، عبر بناء رؤية ثالثة لا تنطلق من الدفاع عن الماضي، بل من مساءلته، ولا تنحاز للغرب، بل تُحاوره من موقع نقدي. في طرحه، العلمانية ليست نهاية التاريخ، بل جزء من سجال مستمر حول معنى الإنسان، وحدود السلطة، ووظيفة القيم.ـ تأليه الدولة أو السوق: حين يُقصى الدين، لا تُترك الفراغات دون بدائل، بل تُملأ غالبًا بأيديولوجيات استهلاكية أو استبدادية.

وفي هذا المعنى، يرى المسيري أن استيراد العلمانية الغربية إلى السياق العربي دون تعديل، ليس سوى نوع من "التمركز الغربي"، الذي يصادر على العرب حقهم في بناء نموذج حداثي خاص بهم.

نحو علمانية توافقية.. مقترحات بديلة من داخل السياق

عبد الوهاب المسيري لا يُنهي مشروعه برفض مطلق للعلمانية، بل يفتح الباب أمام تصور مختلف، يقوم على:

ـ التمييز لا الفصل: بمعنى أن العلاقة بين الدين والدولة يمكن تنظيمها عبر التمييز الوظيفي، دون فصل قيمي أو رمزي تام.

ـ الديمقراطية الأخلاقية: حيث لا تقتصر الديمقراطية على الإجراءات والمؤسسات، بل تتأسس على مرجعية قيمية أخلاقية تُغنيها.

ـ المواطنة المتعددة الهويات: أي احترام الانتماءات الدينية والعرقية داخل الدولة المدنية، بدل طمسها أو استغلالها.

ـ الحوار لا الإقصاء: فالمسيري يؤمن بإمكان قيام فضاء عمومي مشترك، لا يُقصي المتدينين ولا يُفرض عليهم شكلًا وحيدًا من الحياة العامة.

المسيري ومشروع إعادة تعريف العلمانية

إن ما يميز مشروع عبد الوهاب المسيري هو سعيه الدؤوب لتجاوز الثنائيات المغلقة: ديني/علماني، تراث/حداثة، شرق/غرب، عبر بناء رؤية ثالثة لا تنطلق من الدفاع عن الماضي، بل من مساءلته، ولا تنحاز للغرب، بل تُحاوره من موقع نقدي. في طرحه، العلمانية ليست نهاية التاريخ، بل جزء من سجال مستمر حول معنى الإنسان، وحدود السلطة، ووظيفة القيم.

ومن هنا فإن المسيري، على خلاف عزمي بشارة، لا يرى في العلمانية شرطًا للديمقراطية، بل يراها خيارًا لا يتحقق إلا إذا احترم السياق الثقافي والديني. فالعلمانية التي تُنتج ديمقراطية دون روح، لا تختلف كثيرًا عن استبداد بغطاء حداثي.

من نقد العلمنة إلى البحث عن توازن جديد في بيروت التعدد

إذا كان عبد الوهاب المسيري قد نحت مشروعه الفكري في مواجهة موجات العلمنة الشاملة، من موقع الدفاع عن الخصوصية الحضارية للإنسان العربي المسلم، فإن التفكير في العلمانية لا ينتهي عند حدود المساءلة أو الرفض، بل يستدعي أيضًا البحث عن صيغ أخرى للتعايش، لا تنكر الدين، ولا تنغلق عليه. وهذا ما سنجده لدى مفكرين آخرين سعوا إلى تقديم مقاربة وسطية، تتفهم دوافع العلمنة، دون أن تُسلّم لها بكامل مشروعها، وفي مقدمتهم رضوان السيد.

ولعلّ انتقال النقاش من القاهرة إلى بيروت، ليس مجرد عبور جغرافي، بل هو ارتحال في طبيعة الأسئلة وشروطها؛ فبيروت لم تكن فقط مسرحًا للحروب الأهلية والصراعات الطائفية، بل كانت ـ ولسنوات طويلة ـ عاصمة الطباعة والنشر العربي، ومنصةً لحوار مفتوح بين التيارات المختلفة، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، ومن المتدينين إلى العلمانيين.

بيروت لم تكن فقط مسرحًا للحروب الأهلية والصراعات الطائفية، بل كانت ـ ولسنوات طويلة ـ عاصمة الطباعة والنشر العربي، ومنصةً لحوار مفتوح بين التيارات المختلفة، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، ومن المتدينين إلى العلمانيين.لقد ساعدت الطبيعة التعددية لبيروت، بطوائفها ومشاربها الفكرية، في بروز عدد من الأسماء اللامعة في الفكر العربي، ممن لم يقفوا عند حدود الإيديولوجيا، بل خاضوا غمار التفكيك والبناء في آن معًا. وكان رضوان السيد من بين هؤلاء، إذ قدّم طرحًا يتسم بالهدوء المنهجي، وبالحرص على تحقيق توازن دقيق بين الدين والدولة، بين التراث والحداثة، وبين العروبة والإسلام، بعيدًا عن الصخب الأيديولوجي الذي صاحب النقاشات في أماكن أخرى.

وفي مقابل ما طرحه المسيري من مقاومة للعلمنة الشاملة باسم الذات الحضارية، يسعى رضوان السيد إلى تأسيس "علمانية عربية" تأخذ بعين الاعتبار الواقع الطائفي المتشعب، دون أن تنزلق إلى تسييل الدين أو تسليعه، وتُبقي الباب مفتوحًا أمام الحداثة، دون أن تقطع صلتها بالهوية.

بهذا، ننتقل من رؤية ترى في العلمانية خطرًا على الإنسان، إلى رؤية تحاول تطويعها لخدمة الإنسان في مجاله العربي ـ الإسلامي، لا عبر الاستسلام لها، بل بإعادة تعريفها ضمن شروطنا التاريخية والثقافية الخاصة.

في المقال التالي، سنحطّ الرحال في بيروت، المدينة التي لم تكتفِ بأن تكون مسرحًا للجدل حول العلمانية، بل أصبحت مختبرًا حيًّا للتجربة، حيث يكتب رضوان السيد فكره من قلب التعدد، لا من خارجه.

مقالات مشابهة

  • محافظ أسيوط يشهد ختام الدورة 18 للمهرجان القومي للمسرح بقصر الثقافة
  • محافظ أسيوط يشهد ختام الدورة 18 للمهرجان القومي للمسرح
  • غرفة تبوك تختتم دورة “إدارة الجودة وفق معايير الآيزو 9001”
  • "لأول مرة بالمحافظة " محافظ أسيوط: ختام الدورة الـ18 للمهرجان القومي للمسرح المصري مساء اليوم
  • هل تزيد دهون البطن المخفية خطر العقم عند النساء؟
  • المجلس الأعلى للاقتصاد العربي الإفريقي: ندعم القيادة السياسية للحفاظ على الأمن القومي
  • مشاركة مميزة للجزائر في أشغال منظمة الأمن والتعاون في أوروبا
  • نائب وزير الخارجية يلتقي نائب مستشار الأمن القومي البريطاني
  • عبد الوهاب المسيري والعلمانية.. نقد العلمنة الشاملة والتمسك بالخصوصية الحضارية (2)
  • سفير مصر ببغداد يبحث مع مستشار الأمن القومي العراقي التعاون بين البلدين