يا سادة.. كُفّوا عن التصريحات قبل أن تُعلنوا نهاية العقل في الأردن!
تاريخ النشر: 27th, October 2025 GMT
يا سادة.. كُفّوا عن #التصريحات قبل أن تُعلنوا #نهايةالعقل في #الأردن!
بقلم: الأستاذ الدكتور محمد تركي بني سلامة
لا نعلم حقًا من أين نبدأ الحكاية، أهي من عند المسؤول الذي يستيقظ صباحًا، يحتسي قهوته، ويقرر أن يُلقي علينا تصريحًا يصلح مادةً في كتاب “كيف تُثير سخرية الشعب في ثلاث كلمات”، أم من عند المجتمع الذي ما إن يسمع تلك الكلمات حتى يرفع حاجبيه دهشة، ويقول: “يبدو أن هذا القادم من كوكب آخر!”.
منذ تلك اللحظة التاريخية التي خرج فيها دولة الرئيس عمر الرزاز ليقول عبارته الشهيرة: “لا تهاجر يا قتيبة”، ونحن في سباق محموم بين التصريح والمصيبة. ما بين من يبشّرنا بأن الوظائف موقوفة حتى عام 2200، ومن يدعونا إلى الصبر حتى تنضج الخطط الاستراتيجية طويلة الأمد (التي يبدو أنها أطول من عمرنا جميعًا)، لم يعد المواطن الأردني يعرف: هل يعيش في الأردن أم في “جمهورية الخيال الإداري المتحدة”؟
مقالات ذات صلة تعدد تناول الأدوية عند المرضى بين الضرورة والخطورة 2025/10/27يا سادة، إن ما نسمعه ليس مجرد تصريحات؛ إنها جرائم لغوية واقتصادية ومعنوية بحق الوعي العام. مسؤولون يتحدثون وكأنهم يعيشون في مدينة فاضلة، بينما الناس تصارع لتأمين ثمن الخبز وفاتورة الكهرباء. مسؤولون يتحدثون عن “التحول الرقمي” في بلدٍ لا يزال المواطن فيه ينتظر توقيع الموظف بختم “يرجى المراجعة بعد أسبوعين”!
المؤلم أن هؤلاء المسؤولين يتحدثون بثقةٍ مفرطة، كأنهم أصحاب الحقيقة المطلقة، وكأن الشعب يحتاج إلى دورةٍ مكثفةٍ في “فن فهم العبقرية الغامضة للتصريحات الرسمية”. فهم يعتقدون – بصدقٍ لا مثيل له – أنهم أكثر وعيًا وحرصًا وإخلاصًا للوطن من الشعب نفسه، وأن كلماتهم الملهمة ستُغيّر وجه الأردن خلال… سبعين أو ثمانين سنة على الأقل!
ولأنني لا أملك ترف الصمت، أقولها لهم بوضوح:
قبل أن تصرحوا، اقرؤوا الدستور الأردني. نعم، تلك الوثيقة التي يبدو أن كثيرًا منكم لم يفتحها منذ أدى اليمين. فلو قرأتموها لعرفتم أن “المسؤولية” ليست وجاهةً اجتماعية ولا “كوتا” سياسية، بل تكليفٌ لخدمة الناس لا التفضل عليهم.
ثم خذوا جولةً على الأوراق النقاشية الملكية السبع، التي رسمت خريطة طريقٍ للإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي. لو أنكم فهمتمها فعلًا، لما بقيت تصريحاتكم على هذا القدر من الانفصال عن الواقع. إن جلالة الملك لم يكتب تلك الأوراق لتُعلّق في المكاتب أو تُستخدم كديكورٍ في المؤتمرات، بل لتكون منهج عملٍ لكل مسؤولٍ يزعم أنه يخدم هذا الوطن.
أما الرؤية الملكية للتحديث السياسي والاقتصادي، فهي ليست شعارًا انتخابيًا ولا فقرةً في بيانٍ وزاري. إنها مشروع حياةٍ للأردنيين، يُراد منه أن نعيش بكرامةٍ وعدلٍ وحرية. فهل يعقل أن يبقى المواطن ينتظر تحسن الأحوال بينما المسؤولون يتبادلون التهاني على “الإنجازات الوهمية” التي لا يراها أحد؟
أيها المسؤولون،
قبل أن تُحدثونا عن “رؤية 2050” أو “استراتيجية 2200”، حدثونا عن اليوم. عن الواقع. عن الفقر، والبطالة، وهجرة العقول. حدثونا عن الشاب الذي يبيع شهادته الجامعية بثمن “قرض بنكي” وعن الأم التي تقف في طابور المستشفى منذ الفجر لتجد أن الطبيب في “ورشة تطوير الأداء الحكومي”!
كفاكم ضجيجًا أيها السادة، فبعض الصمت أبلغ من ألف تصريح. لأن ما تقولونه لم يعد يثير الغضب فقط، بل يثير الضحك المبكي. كل مرة تخرجون فيها علينا لتطمئنوا الناس، تزيدون الطين بلّة، والناس تفهم أكثر مما تتخيلون.
تعلموا – رجاءً – أن الكلام ليس سياسة، وأن “الابتسامة أمام الكاميرا” ليست إنجازًا وطنيًا. تعلموا أن الصدق لا يحتاج إلى مستشار إعلامي، وأن احترام عقول الناس أهم من أي مؤتمر صحفي. فالأردن ليس حقل تجارب، والشعب ليس جمهورًا في مسرحية لا تنتهي.
في النهاية، أقولها لكم بوضوح وبدون مجاملة:
بعض الصمت فضيلة، لكن في حالتكم الصمت وطنية.
فالكلام الذي لا يُبنى عليه فعلٌ، لا يُعد إنجازًا بل إهانة.
وخير الكلام، ما قلّ… وقَلَّ… وقَلَّ،
أما تصريحاتكم، فقد كثرت، فهزلت، فضاعت.
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: التصريحات الأردن قبل أن ت
إقرأ أيضاً:
القيمة المضافة في الفكر والعلم والاقتصاد
في هذه الألفيةِ الثالثةِ التي نعيشُ في خضمّها، يتفاعلُ ما أبدعه الإنسانُ على مدى عقودٍ طويلة. مسيرةٌ خاضت فيها عقولُ البشر معاركَ صاخبةً وصامتة. رجالٌ ونساء في كلّ أنحاء الأرض، وقفوا أمام مجرياتِ الحياة، بما فيها من معاناة فرضتها الطبيعة، وظواهرُها العنيفة. دفعُ الضَّرر وجلب المنفعة، القاعدةُ الدائمة التي لا تغيب عن صيرورة الوجود الإنساني. السَّلمُ والحرب كانا الحاديَ المرافقَ للإنسان دون توقف.
الملايينُ من بني الإنسان، وهبوا حيواتِهم من أجل فهم الحقائق التي تحرك آلةَ الحياة البشرية. قدراتُ العقلِ البشري كانت السؤالَ المبكر، إذ كانتِ القداحةَ التي أضاءت الطريق الطويلة، التي عبرها الإنسان نحو التقدم، بقوة العقل القادر على مقاومة سطوةِ الطبيعة، وتسخيرِها لخدمته. الإغريق والآشوريون والصينيون والمصريون، اشتبكوا مبكراً مع عواصف الطبيعة والحياة بكل ما فيها. الأسئلة هي العُدة التي لها القدرة على الاقتحام الأول. حلقات تمدّد قطرُها وفعلت فعلَها ومضت، لكن الكثير منها لا يغادرنا إلى اليوم. من الإغريق والفينيقيين والعرب والصينيين وغيرهم، ترعرع بستانُ العقل البشري، وازدهى بثمار الفكر والفلسفة والعلم.
أوروبا في مطلع الألفية الثانية، اقتحمت الزمنَ الجديد. بدأت معركتها الطويلة مع سطوة الكنيسة، وحققت في النهاية انتصارَ نور العقل على ظلام الجهل المقدس. في مطلع القرن السادس عشر، كان المنعطف الأوروبي الكبير على يد رجلين ألمانيين. في سنة 1455 اخترع يوهان غوتنبرغ آلة المطبعة، وصار الكتابُ القيمة الكبرى المضافةَ للعقل البشري. وُلد الإنسان الجديد، وأصبحت المعرفة في متناول الملايين من البشر. القسيس الألماني مارتن لوثر، ثار على الكنيسة الكاثوليكية في روما، وهاجم علناً استغلالها للفقراء المعدمين، ببيع صكوك الغفران. تعرض لوثر للملاحقة والمحاكمة، لكنه خاض معركته بشجاعة، وقام بترجمة الإنجيل من اللاتينية إلى اللغة الألمانية. بفضل انتشار آلة الطباعة، تمكن الملايين من قراءة العهد الجديد، وبدأ شروق نهضة أوروبية مندفعة إلى العلم والفلسفة. لم يحلم مارتن لوثر أن تقود صرختُه إلى انطلاق مذهب ديني مسيحي جديد، هو المذهب البروتستانتي الذي اتّسع بسرعة في القارة الأوروبية. ساهمت أفكار كل من إرازموس وكالفن، في دفع حركة الحرية والنهوض، ليس على مستوى القارة الأوروبية فقط، بل على المستوى الإنساني.
كان القرن السادس عشر، زمنَ القيم المضافة إلى العقل. الفلسفة انطلقت كالعواصف الممطرة التي تروي العقول، وتؤهلها إلى عصر الاكتشافات والاختراعات العلمية. صار العالم كوناً آخر. الآلات هي العضلات السحرية التي كفت الإنسان عناء الجهد العضلي المضني، لإنتاج ضرورات الحياة في جميع المجالات. اختراع جيمس وات للمحرك البخاري سنة 1764، غير خطوات البشر على الأرض. صارت أطول بكثير وبلا جهد. هذا الاختراع الرائد كان نتاج قيمة مضافة، أدخلت الإنسان إلى عصر جديد. التحرر من هيمنة الكنيسة، فتح الأبواب الواسعة للعلم والفلسفة، وخاصة في المجتمعات التي ساد فيها المذهب البروتستانتي، وأسس لميلاد عالم جديد.
لم تغب نزعة الحروب والتوسع والاستغلال، فالصناعة أعلت قيمة الإنسان وضاعفت قدراته، لكنها فجَّرت الحاجة إلى الخامات، التي يحتاجها هذا المارد الآلي الجديد، فهي الطعام الذي يتغذى عليه. أوروبا الجديدة الصناعية، لا تمتلك المواد التي تملأ بطون الآلات، فانفجر بركان الاستعمار الأوروبي، للشعوب التي تعيش فوق كنوز الخامات الضرورية لغذاء آلة الصناعة. قيمة مضافة كبيرة للخامات المدفونة في أعماق الأرض، تحققت عبر تصنيعها، وتحويلها إلى مفردات جديدة في حياة البشر. نقلت أوروبا المستعمِرة إلى دنيا الرفاهية. الشعوب المستعمَرة استمرت تعاني العوز والتخلف، فالكثير منها لم يدخل حلبة معرفة وإتقان قوة القيمة الاقتصادية المضافة. دول كثيرة وخاصة في قارتي آسيا وأفريقيا، تعيش على تصدير خاماتها إلى البلدان المتقدمة، ولم تطور قدراتها على تصنيع ما تملكه من خامات ذات قيمة عالية. بلدان تصدر اليورانيوم والنفط والحديد والنحاس والمنغنيز والخشب الخام وغيرها إلى الدول المصنِّعة، وتستورد ما صدرته بثمن عالٍ، في صورة سيارات وطائرات ومحركات وأثاث ووقود وغيرها.
التقدم له ثمن وشروط. العلم هو المفتاح لباب النهوض والقوة. المناهج التعليمية كائن حي ينمو ويتغير. تتسق أساساً مع ما تمتلكه البلاد من إمكانات طبيعية. تُحدد الهوية الاقتصادية وفقاً لذلك. البلدان التي بها أراضٍ قابلة للزراعة، ومصادر للمياه، أنهاراً أو أمطاراً، تعتمد أساساً على الزراعة. البلدان التي تمتلك خامات للإنتاج الصناعي، تتجه إلى تطوير صناعتها. المناهج الدراسية والبحوث العلمية، هي المعامل التي تعد العدة لتأسيس القيمة المضافة اقتصادياً. التأهيل الحديث للإدارة وسيادة القانون وحرية التفكير والسلم الاجتماعي، شروط أساسية تتقاسمها كل الشعوب. تبقى الحرية هي القيمة الأولى التي لا تُضاف، إنما هي التي تُضيف إلى كل شيء، وأوله عقل الإنسان فهو القيمة المطلقة التي تحقق كل الإضافات.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.