جريدة الرؤية العمانية:
2025-10-30@00:31:20 GMT

للأفكار حياة

تاريخ النشر: 29th, October 2025 GMT

للأفكار حياة

 

 

 

د. صالح بن ناصر القاسمي

لكل كائن حياة يمر من خلالها بمراحل زمنية، وهذه هي سنن الله في الكون، يكتسب من خلالها ذلك الكائن عوامل قوته واستمراريته، ليؤدي دوره المنوط به في هذه الحياة.

والكثير منا لا يلتفت إلى أن الأفكار التي ينتجها الإنسان من خلال ممارسته لأدواره تشبه الكائن الحي، لها مولدها، وتمر بمراحل أيضا، وهي معرضة للاندثار والممات حالها كحال الكائن البشري.

وقد جاء القرآن الكريم حاثا الإنسان على التدبر والتأمل اللذين من خلالهما تنتج الأفكار؛ فكثير من الآيات القرآنية اختتمت بقوله تعالى: "أفلا يتدبرون"، وكذلك حثت السنة النبوية على طلب العلم الذي هو وسيلة إنتاج الأفكار، فقد ورد عن النبي عليه أفضل الصلاة والسلام أنه قال: "اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد"، وعبارة من المهد إلى اللحد تدل دلالة لا لبس فيها على أن العلم ليس له فترة زمنية، وإنما الإنسان مطالب بالبحث والتقصي في جميع مراحل عمره، وهذا فيه تشجيع على تحصيل العلم والمعرفة والتفكير والتعلم.

والمجتمعات البشرية تعتمد في حياتها على نتاج الأفكار، وما نعيشه الآن من طفرة في كل المجالات ما هي إلا صناعة أفكار الإنسان. والأفكار إما أن تأتي للإصلاح والمحافظة على القيم والأخلاق والمبادئ، وإما أن تتجه مباشرة إلى إنتاج السلع والأدوات.

الكثير منا لا يعلم أن هناك علما قائما بذاته يسمى تاريخ الأفكار، وهو فرع من فروع علم التاريخ والفلسفة، يقوم هذا العلم بتتبع الأفكار التي أنتجها الإنسان خلال العصور كافة، وهو يهتم بدراسة تطور الأفكار والمفاهيم والمصطلحات، وتتبع معانيها، وما إذا كانت محافظة على أصولها أم أن التغيير لحق بها وتغير معناها.

عديد النظريات بدأت بفكرة، ثم تطورت هذه الفكرة لتصبح نظرية علمية أنتجت مفاهيم إنسانية ساعدت البشرية على تحسين أسلوب ونمط حياتها، ابتداء من الحاجات الضرورية مرورا بالكماليات.

وفي المقابل، سارع الإنسان بخلق أفكار أنتجت وسائل الدمار الشامل، التي بإمكانها القضاء على أسباب الحياة الإنسانية في لحظة واحدة فقط، فالصراع البشري مستمر منذ قصة قابيل وهابيل، غير أن الوسائل المستخدمة في تلك الصراعات تغيّرت.

والأفكار النظرية غالبًا ما تكون أخطر على المجتمعات من أدوات الدمار؛ فأحد أخطر الحروب هي تلك التي تستخدم نشر الأفكار في المجتمعات المستهدفة، وتكمن خطورتها في تبنيها من قبل أفراد المجتمع؛ مما يسرع في دمار المجتمعات من الداخل. لذلك يقع عبء الدفاع على عاتق المفكرين والباحثين الذين يناط بهم تقصّي حقائق الأفكار، والعمل على تنقيتها وتصحيح مسار انتشارها، والقضاء على سيّئها قبل استيطانها في العقول.

على المجتمعات أن تعمل على صناعة العقول القادرة على إنتاج الأفكار، وخلق طبقة أو شريحة كبيرة من المفكرين الأحرار الذين لا ينطلقون من أيديولوجيا معينة، بل يتمتعون بحرية إنتاج الأفكار، فكلما كثر عدد المفكرين في أي مجتمع، كان ذاك المجتمع قادرًا على الصمود في مواجهة أية أفكار سيئة تضر بالمجتمع. مع ملاحظة أن المفكرين لا يقتصرون على مجالٍ معين؛ بل لا بُد أن تكون تلك الفئة المفكرة متوزعة على جميع المجالات، فحياة المجتمعات تحتاج إلى تكاملٍ وتضافر في الجهود.

إن المتتبع لتاريخ الحضارات والشعوب يلاحظ أن أكثر الحضارات عمرًا هي تلك التي أعطت مساحةً أكبر لإنتاج الأفكار، بل إن أكثرها رسوخا وتداولا في الثقافات، ولا زالت حتى الآن، هي تلك التي أنتجت أفكارًا، مثل الحضارة اليونانية التي اشتهرت باحتضان فلاسفة كبار أثروا الساحة الثقافية والفكرية بتراثهم الكبير، ولا زالت الساحة الثقافية العالمية تناقش تراثهم في كل المحافل. وكذلك فإن النهضة الأوروبية إنما قامت ونهضت نتيجة الإنتاج الفكري الذي عمل عليه فلاسفة كبار ومفكرون استطاعوا أن يغيّروا بأفكارهم المفاهيم القديمة، ويُحلّوا محلها مفاهيم أخرى ساهمت بشكل متسارع في قيام نهضة يعيش العالم حاليا في ظلال ما صنعته.

واليوم، لم تعد الأفكار حكرًا على النخب أو المفكرين الكبار؛ بل أصبحت متاحة للجميع عبر التكنولوجيا الحديثة ومنصات التواصل الاجتماعي، مما جعل العالم بأسره يعيش في سباق محموم لإنتاج الأفكار وتبنيها ونشرها. وأصبح التميز الفكري أحد عناصر القوة الناعمة التي تتسابق عليها الدول؛ إذ لم يعد التفوق يقاس فقط بالاقتصاد أو السلاح؛ بل بقدرة الشعوب على الإبداع والابتكار وصناعة الفكرة التي تحدث الفرق. وكل فكرة خلاقة قد تكون بذرة لمشروع، أو نواة لنهضة جديدة، أو حتى شرارة لتغييرٍ عالمي شامل.

كذلك.. فإن للأفكار جانبًا روحيًا عميقًا لا يقل أهمية عن جانبها العلمي أو الحضاري؛ فالفكرة الصالحة حين تغرس في النفس وتسقى بالقيم والأخلاق تصبح رسالة سامية تُثمر سلوكًا راقيًا وأثرًا مُمتدًا في المجتمع. ومسؤولية الإنسان لا تقتصر على حماية فكرته من الزوال فحسب؛ بل على تنقيتها من شوائب الهوى والمصلحة، وتوجيهها نحو ما ينفع الناس ويمكث في الأرض، كما قال تعالى: "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ" (الرعد: 17). وبهذه الروح تتجدد حياة الفكر، ويستمر عطاؤه مهما تغيّرت الأزمنة والوجوه.

وفي المقابل، اختفت حضارات وشعوب ولم تعد تذكر؛ لأنها أخفقت في إنتاج أفكار تمكنها من الاستمرارية، أو لأنها اعتمدت على فكر أحادي ولم تسمح بتعدد الأفكار. لذلك على المجتمعات إن أرادت السير في طريق التقدم والنمو والازدهار أن تسمح بتعدد الأفكار، فالتدافع هو السبيل إلى تحقيق ذلك، وهذا ما أكده القرآن الكريم بقوله تعالى: "وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا" (الحج: 40).

إنَّ حياة الشعوب واستمرار نهضتها وتطورها مرهون بشكل مباشر بإنتاج الأفكار؛ بل بالسماح بتعدد مجالاتها التي يحتاجها كل مجتمع، فهو السبيل إلى النمو والازدهار.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

وزير الإسكان يتابع سير العمل بقطاع التخطيط والمشروعات بهيئة المجتمعات العمرانية

عقد المهندس شريف الشربيني، وزير الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية، اجتماعاً مع مسئولي قطاع التخطيط والمشروعات بهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، لمتابعة سير العمل بالقطاع وموقف طرح الفرص الاستثمارية بالمدن الجديدة، وذلك بحضور مسئولي الوزارة وهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة.
وفي مستهل الاجتماع، أكد وزير الإسكان أهمية الطروحات للفرص الاستثمارية في المدن الجديدة للاستفادة منها وتعظيم الموارد والإيرادات لدى هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، مشيرا إلى أن وزارة الإسكان، ومن خلال الهيئة أتاحت مجموعة من الآليات المتنوعة لتوفير مختلف الفرص الاستثمارية بجميع أنواعها فى المدن الجديدة وخاصة مدن الجيل الرابع، مؤكداً الحرص على وجود منتج عقارى تنافسى ومتنوع، وأهمية العمل على استغلال الحوافز التي تم توفيرها للمستثمرين.
وتابع الوزير خلال الاجتماع موقف قطع الأراضي الجاري دراستها لعرضها على مجلس إدارة هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة لطرحها للمستثمرين بجانب استعراض موقف قطع الأراضي التي تم طرحها، وموقف التخصيصات للأراضي خلال الفترة من يناير إلى أكتوبر 2025، بجانب اخر مستجدات طرح الأراضي على بوابة الاستثمار الأجنبي بالدولار من الخارج خلال نفس الفترة، وعدد الطلبات المقدمة بالمدن الجديدة للحصول على الفرص المتاحة.
كما استعرض الاجتماع سير العمل بوحدة كبار المستثمرين، وكذلك موقف طروحات الأراضي والوحدات السكنية بمبادرات "مسكن وبيت الوطن" للأراضي و"بيتك في مصر" للوحدات السكنية بالإضافة للطروحات الداخلية.
وناقش الاجتماع الرؤية التخطيطية للمدن الجديدة، حيث تم تناول المخطط الاستراتيجي والعام لمدينة السويس الجديدة، والمخطط لمنطقة غرب رأس الحكمة، بالإضافة إلى آلية العمل بوحدة التحول الرقمي من "حوكمة الإجراءات والرقم القومي الموحد وحصر الشواغل (خدمات – أراضٍ سكنية) والرصد الحضري والتكامل مع الجهات الخارجية"، فضلًا عن جهود وآلية العمل بوحدة متابعة المشروعات الاستثمارية خلال الفترة من يناير إلى أكتوبر 2025.
وفي ختام الاجتماع، وجه الوزير بأهمية تطوير آليات العمل بقطاع التخطيط والمشروعات بهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، واستمرار المتابعة لكافة التخصيصات والمشروعات ونسب تنفيذها، مع استمرار طرح الفرص الاستثمارية على المنصات المختلفة والتيسير على المستثمرين.

مقالات مشابهة

  • مجاهد نصار: حياة كريمة تجسيد لرؤية السيسي في بناء الإنسان وتنمية الريف المصري
  • منتدى الدقم.. منصة لصناعة الأفكار الاقتصادية
  • درع الأمان.. ندوة تثقيفية بأزهر مطروح لمواجهة الأفكار المتطرفة
  • تجارة كفرالشيخ تحتضن مبادرة «رواد النيل» لدعم ريادة الأعمال وتحويل أفكار الطلاب إلى مشروعات واعدة
  • الإسكان تراجع خطط الطرح وتخصيص الأراضي حتى أكتوبر 2025
  • وزير الإسكان يتابع سير العمل بقطاع التخطيط والمشروعات بهيئة المجتمعات العمرانية
  • وزير الإسكان: استمرار طرح الفرص الاستثمارية على المنصات المختلفة
  • المفكر اللبناني خالد زيادة: لم تعد أوروبا مصدرا للأفكار الكبرى والدولة العربية أسيرة ‘التراث المملوكي’
  • أبو الغيط: إسرائيل استفادت من موجات الاضطراب في المجتمعات العربية