خالد أبو أحمد

هل جربت يومًا أن ترى مؤسسة وطنية تنهار أمامك قطعةً قطعة، كأنك تشاهد جسدًا يُنزف ببطء؟
هل وقفت يومًا أمام مشهدٍ ترى فيه المال العام يُنهب، والولاء الحزبي يُكرَّم، والكفاءة تُقصى، ثم لا ‏يرفّ لأحد ‏جفن؟.‏
أنا رأيت ذلك بعيني.‏
عشته لا كقارئ لتقارير الفساد، بل كشاهدٍ داخل المطبخ، إذ كانت (الحركة الإسلامية) تُدير مؤسسات ‏الدولة ‏بعقلية التكويش لا بعقلية الدولة والحفاظ على المال العام.


من هناك بدأت أفهم كيف يمكن لأمة أن تسقط دون حرب، وكيف يمكن أن ينهار اقتصاد بلدٍ كامل من ‏داخل ‏مكتب، لا من ساحات المعركة.‏
‏*مشهد بورتسودان: البداية من الظلام*.‏
في صباحٍ غائمٍ من تلك الأيام، وصل إلى مدينة بورتسودان وفدٌ رباعي غامض؛ بينهم ضابط برتبة ‏مقدم ‏وثلاثة مدنيين لا يعرفهم أحد. لم يكونوا من القيادات الإسلاموية التي تظهر على الشاشات أو في ‏المؤتمرات، ‏بل من أولئك الذين يعملون في الظل، خلف الكواليس، بعضهم من الذين شاركوا فعليًا في ‏تنفيذ انقلاب (30 ‏يونيو 1989) المشؤوم، رغم أنهم لم يكونوا عسكريين أصلًا.‏
جاؤوا يحملون حقيبة أوراق فيها خطاب رسمي من (مجلس قيادة الثورة) يأمر بتسليم ‏مصنع تركيب ‏السيارات في بورتسودان، ‏‎ ‎المصنع الشهير الواقع بالقرب من مدخل الميناء من الناحية ‏الشرقية إلى حامل ‏هذه الأوراق‎..!!‎
كان المصنع يتبع لشركة الخرطوم للتجارة والملاحة التي تتبع لبنك أمدرمان الوطني، ومقرها الرئيسي في ‏الخرطوم عند تقاطع ‏شارع الجمهورية وشارع البلدية، وكانت تحتل مربعًا كاملًا، وكانت سابقًا تعرف باسم ‏‏(المؤسسة ‏العسكرية الاقتصادية) أيام العهد المايوي.‏
دخل الوفد القادم من الخرطوم مكتب مدير المصنع، وبعد التحية والاحترام، فتح الضابط حافظته ‏وأخرج ‏الخطاب وسلّمه للرجل، قرأ المدير الورقة في هدوء، رفع رأسه بابتسامةٍ متعبة وقال لهم ‏برحابة صدر:‏
‏”انتظروني يومين فقط، أُجهّز لكم كل المستندات لتكون عملية التسليم والتسلّم رسمية. أتذكر كان هناك ‏من ‏ضمن إجراءات التسليم مبلغ كبير في حساب الشركة بالبنك”.‏
وبالفعل، بعد يومين بالتمام، تم التسليم في أجواء رسمية محترمة.‏
كان ذلك المدير سودانيًا حتى النخاع، رجلًا نادر الطيبة والكفاءة والأخلاق المهنية، لم يتأفف ولم ‏يساوم، ‏تعامل مع الأمر كموظف وطني ينفذ قرار دولة، لكنه لم يكُن يعلم أنه يسلّم إرثًا وطنيًا لأيدٍ لا تعرف قيمة ما ‏تسلّمت.‏
في فترة وجيزة، أصبح المصنع تحت إدارة جديدة لا علاقة لها لا بالتجارة ولا الملاحة..!.‏
تم تسريح جميع العاملين والفنيين المهرة الذين بنوا المصنع بجهدهم وخبرتهم، وتوقف العمل نهائيًا ‏بعد أشهر ‏قليلة.‏
تحوّل الكادر التابع لـ(الحركة الإسلامية) إلى رجال أعمال يمارسون التجارة باسم المصنع، بينما ‏المصنع ‏الحقيقي الذي كان يركّب السيارات والشاحنات منذ أكثر من ستين عامًا أصبح خرابة منسية‎.‎
كنت هناك، أعرف الوجوه وأحفظ الأسماء، وأراقب كل التفاصيل بعيون الصحفي والإنسان في آنٍ ‏واحد.‏
‏*من بورتسودان إلى الخرطوم: تكرار المأساة*‏
ومن مفارقات القدر أنني بعد فترة قصيرة، وجدت نفسي أعمل مع نفس الرجل الذي جاء إلى ‏بورتسودان، ‏وكانت تربطني به علاقة العمل التنظيمي. وهو الذي سلّم المصنع لكوادر الحركة، كنت قريبًا منه ‏في تلك ‏الفترة، وهو المدير العام لشركة الخرطوم للتجارة والملاحة، في المبنى الملاصق لبنك ‏أمدرمان الوطني.‏‎
وذات صباح، جاء اتصال هاتفي عاجل من بورتسودان.‏‎
كان المتحدث مدير فرع المصنع هناك، صوته متوتر ومضطرب.‏‎
كنت أسمع المحادثة بوضوح وأنا أجلس على الطرف الآخر من المكتب‎.
قال الرجل يترجّى المدير العام أن يرسل مبلغًا كبيرًا كان ضخمًا بمقاييس تلك الأيام لأن المصنع ‏هناك دخل ‏في “عملية تجارية فاشلة” وتم رهنه لجهة تمويل‎.
كان صوت الرجل يظهر عليه الضيق وهو يقول‎:
‏”أرجوكم أرسلوا المبلغ بسرعة… قبل أن يصادروا المصنع”.‏‎
لكن المبلغ لم يُرسل.‏‎
وبعد فترة قليلة تمّت مصادرة المصنع فعلاً‎.
هكذا، في لحظة، انتهى تاريخ من الإنتاج امتد لأكثر من ستين عامًا، كان السودان خلالها يركّب ‏سياراته ‏وشاحناته من اللواري (بيدفورد) ويصدرها إلى إفريقيا، ويغطي بها السوق المحلي.‏
‏*الخرطوم: من مؤسسة اقتصادية إلى وكرٍ للتمكين*‏
في الخرطوم، كانت الصورة أشد مرارة.‏
الشركة التي كانت تضج بالموظفين والخُبراء في المالية والتجارة والمصارف، تحوّلت إلى مبنى ‏مهجور ‏ينعق فيه البوم بعد أن تم تسريح الكفاءات الوطنية.‏
كان مدير الشركة في الوقت ذاته وزيرًا للمالية في ولاية أعالي النيل، يدير الوزارة من هناك، ويدير ‏الشركة ‏من هنا، في ازدواجٍ فاضحٍ بين المنصب العام والمصلحة الخاصة، ما يشير إلى الانهيار الكبير ‏في الخدمة ‏المدنية في عهد الإسلاميين.‏
ثم جاءت تلك الحادثة التي لن أنساها أبدًا، فعندما أفلست الشركة وأصبحت على (الحديدة) كما نقول في ‏السودان، اجتمع شياطين الإنس الذين ‏كانوا من المقربين من الوزير المدير، وهم الذين تشاركوا معه الفساد ‏المالي وأكل الحرام، واقترحوا ‏عليه أن يكتب خطابًا باسم وزارة مالية ولاية أعالي النيل، يطلب تمويلاً ماليًا ‏من شركة الخرطوم ‏للتجارة والملاحة لمجابهة الموسم الزراعي الذي وصفوه بالواعد، ثم وقّع الوزير على ‏الخطاب‎..!‎
ثم كتب خطابًا آخر بالموافقة ووقّع عليه بنفسه بصفته مديرًا للشركة.‏
طلب التمويل… ووافق عليه بنفسه..!.‏
ساعتها شُوهِد إبليس وهو يهم بالخروج من باب الشركة مرددًا: “لا حول ولا قوة إلا بالله”..!.‏
عندها أدركت أن الفساد لم يعُد سلوكًا فرديًا، بل نظامًا متكاملًا محكومًا بمنطق الولاء التنظيمي لا ‏بالقانون ولا ‏بالمسؤولية الوطنية أو الأخلاقية.‏
لم تمضِ أشهر حتى هوت الشركة إلى الحضيض.‏
وكان لديها ورشة صيانة فنية كبيرة ‏بالمنطقة الصناعية بالخرطوم، فاختفت الورشة والمصنع، وحتى المبنى ‏الكبير في الخرطوم تحوّل إلى ‏‏”مِكيتِب” صغير في إحدى البنايات وسط الخرطوم، أما الذين سرقوا ونهبوا ‏فخرجوا كما دخلوا: أنيقين، مبتسمين، يتحدثون عن “المشروع الحضاري”، ‏ويصفون معارضيهم بالخونة ‏والمتآمرين وعملاء المخابرات الأجنبية..!.‏
ولكن… هل انتهت قصة هذا الرجل الفاسد الوزير المدير؟.!‏
قامت (الحركة الإسلامية) بتعيينه مديرًا عامًا للإدارة العامة للمراجعة الداخلية لأجهزة الدولة القومية، ‏بقرارٍ ‏من (الرئيس) عمر البشير بتاريخ ‏21 يوليو 2014م، ولم يُسأل يومًا عمّا اقترفه من سرقة، فضلاً عن فساده ‏الآخر المدمر للمجتمع، لأنه كما كان يُقال ساخرين في أروقة السلطة مرفوعٌ عنه القلم ‏من أكبر زعماء الفساد ‏علي عثمان محمد طه..!.‏
‏*حين يصبح الفساد عقيدة*‏‎..!!‎
ما جرى لشركة الخرطوم للتجارة والملاحة هو نفسه ما حدث لشركة الخطوط الجوية السودانية، ‏والنقل ‏النهري والنقل الميكانيكي، والخطوط البحرية السودانية، وشركة الجزيرة للتجارة والملاحة، ‏وشركة البحر ‏الأحمر للتجارة والملاحة أيضًا، وهذه الأخيرة لها قصة بطلها علي كرتي عندما كان ‏قياديًا في (الدفاع ‏الشعبي)، تجعل إبليس نفسه يتبرأ من أفعالهم الشيطانية.‏
لم تكن تلك مجرد حكايات عن فسادٍ اقتصادي، بل كانت يا سادة جريمة تقدح وتشكّك في صدق ‏التزامهم ‏بالدين الإسلامي، وفي انتمائهم لتقاليد وتربية الشعب السوداني، كما كانت أيضًا جريمة ‏فكرية وأخلاقية ‏ارتكبتها (الحركة الإسلامية) حين جعلت الولاء بديلاً عن الكفاءة، والدين ستارًا ‏للنهب، ولعل أصدق ما ‏يكشف جوهر تلك الذهنية ما قاله أحد قادتهم ذات يوم بكل غرور:‏
‏”الحركة الإسلامية تعتبر أن السودان بالنسبة لها… فيّ”..!.‏
كلمة تختصر ذهنية جماعةٍ رأت في الوطن غنيمتها الخاصة، ومسرحًا لأطماعها، لا حقَّ لغيرها أن ‏يشاركها ‏فيه‎..!‎
لقد دمّرت الحركة مفهوم الدولة الحديثة في السودان، حين حوّلت المال العام إلى غنيمة حزبية، ‏والمؤسسات ‏الوطنية إلى واجهات تجارية لأعضائها. ومن المهم جدًا قوله هنا أني لا أروي هذه ‏القصة بدافع الغضب، بل ‏بدافع الشهادة‎.
لأنني كنت هناك، وشاهدت كيف تسقط الأوطان لا برصاص العدو، بل بخيانة الداخل، حين تُسرق ‏المصانع ‏باسم الثورة، وتُنهب الشركات باسم الدعوة، وتُشطب الكفاءات باسم التمكين، لا يبقى من ‏الوطن سوى لافتة ‏باهتة على جدار مهترئ‎.‎‏ تلك كانت بداية النهاية.‏
ومنها بدأ السودان يفقد روحه، ويغرق شيئًا فشيئًا في ليلٍ طويلٍ من الفساد والدمار، ما زلنا نعيش ‏ظلاله حتى ‏اليوم‎.‎

السبت الأول من نوفمبر 2025م

الوسومخالد أبو أحمد

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: خالد أبو أحمد الحرکة الإسلامیة مدیر ا

إقرأ أيضاً:

الذين رحلوا.. وبقي الوطنُ بهم

 

كل عام تُشرق علينا ذكرى شاهقة، قداسة تحلق فوق تراب هذا الوطن وذكرى تمتزج فيها عزة الإباء التي تعانق السحب، ووجع الفقد الذي يهد الأركان…. ترسي سفن العهد على شاطئ فداء أبدياً، يعبق عطره ولا يضمحل عطاؤه…. ففي اللحظة التي انشق فيها أديم الليل، وتصدع ركن السلام، انبثق من رحم الأرض رجال، باعوا زهرة العمر لله، ونقشوا بدمائهم الزكية سفر مجد ضارب في القدم حماية للوطن.

مناقبهم الماجدة، وبطولاتهم التي تزاحم الجبال هامة، أجل من أن تحاصرها حروف عابرة، وأعظم من أن يخطها التاريخ على صفحاته، فمن أتمّ المقايضة العظمى مع الخالق، وأوفى بالعهد الرهيب بصلابة اليقين، فقد ارتقى إلى درجة الكرامة الأسمى… نعم، بذل الروح غالياً؛ لكن هؤلاء الأصفياء حملوها بكل حب متيقنون أن ما عند الله هو خير المقام وأخلده.

لقد أثبت شعبنا اليمني منذ فجر نشأته، بأسه الذي لا يبارى ومجده الذي لا يدانى، فما من غاز لهذه الأرض إلا وأخرج منها ذليلا مكسور الجناح والتاريخ شاهد ناطق؛ ذلك أن قيادتنا وشعبنا لا تتخاذل عن دفع صولة المحتل، بل تشارك في خوض لجج المعارك بضراوة وبسالة، في حين أن غالبية الشعوب تفتقر لعطاء كهذا لا يجف معينه، فالنماذج المشرفة لا تحصى، ورحيلها كان نيزكا اخترق الأفئدة، كفقد الغماري الذي أدمى أرواحنا…

إن جراحنا عميقة، ومآسينا تفوق الاحتمال؛ غير أن فخر الكرامة يطوق كل نزيف، ويزرع فينا شموخا راسخا يأبى الذبول، رغم مر الخريف ووداع الأحبة، لا يخلو بيت من زاوية فقد يملؤها أعز الأهل، ثقل الغياب جاثم، ولوعة الثكالى مستعرة، وجرح اليتيم غائر… الفقد يهد الأركان، والقلوب تتداعى بعد كل جنازة؛ لكن الإيمان المتأصل بهذا الشعب حصن لا يميل، فمن عرف قدر الشهادة، هانت عليه الدنيا.

 

 

 

مقالات مشابهة

  • الاستماع لأقوال شهود عيان فى حادث انهيار جزئى لعقار فى روض الفرج.. صور
  • نائب رئيس جامعة القاهرة: المتحف المصري الكبير يسهم في تنشيط الاقتصاد الوطني
  • تونس.. تجدد الاحتجاجات في قابس للمطالبة بتفكيك المجمع الكيميائي
  • ضبط مصنع غير مرخص بالشرقية لإعادة تدوير النفايات الإلكترونية الخطرة
  • الذين رحلوا.. وبقي الوطنُ بهم
  • القائم بأعمال وزير الاقتصاد يطلع على وضع أحد المصانع المتعثرة
  • بالصورة.. مايسترو الهلال والمنتخب الوطني ينشر تدوينة مؤثرة عن أحداث الفاشر: (كيف لنا أن نلهو.. الجسد موجود لكن القلب والروح والبال في الفاشر كل صورة وكل فيديو يأتي من هناك بمثابة سكرات موت)
  • شهود عيان: طالب منشأة القناطر فقد حياته خنقا بسلك داخل حظيرة
  • "جهاز الاستثمار" يواصل الجهود المُخلصة لتعزيز نمو الاقتصاد الوطني وتحقيق التنمية المُستدامة