تطوّر العملية التشريعية في الدولة البوسعيدية.. رحلة حلم وطني يتجدد
تاريخ النشر: 16th, November 2025 GMT
د. سعود بن محمد الفارسي
على مدار الأزمنة، وفي عمق التاريخ العُماني، لم تكن التشريعات مجرد نصوص مكتوبة؛ بل كانت مرآةً لروح الوطن وإيقاعه المتزن، ومع بزوغ عهد دولة البوسعيد قبل أكثر من قرنين ونصف القرن، بدأت ملامح مشروع تشريعي وطني ينمو بهدوء العُمانيين المعهود، ويتّسع بقدر ما تتّسع رؤيتهم للحياة والدولة والإنسان.
فمنذ اللحظات الأولى لتأسيس الدولة البوسعيدية وتحديدًا في عام 1744م، ورغم غياب القوانين المُدوّنة بالمعنى الحديث لها، فإنَّ ملامح التشريع المكتوب بدأت تتشكّل مبكرًا في سجلات القضاة وأوامر الأئمة والسلاطين، فقد حفظت الذاكرة العُمانية وثائق منذ النصف الثاني للقرن الثامن عشر تُظهر أحكامًا وقواعد تنظّم التجارة والموانئ وتسوية النزاعات، كانت تُكتب بخط اليد وتُحفظ في الدواوين والمساجد، ثم جاء عهد السلطان سعيد بن سلطان ليُضيف أول الوثائق التنظيمية الشبيهة بالقوانين، من أوامر تُنظّم الملاحة والتجارة البحرية، واتفاقيات تُحدّد المعاملات الاقتصادية والعلاقات الدولية، تلك الكتابات المتناثرة والوثائق المتفرقة كانت البذرة الأولى لرحلة التقنين العُماني التي ستتطور مع مرور الزمن لتصبح منظومة تشريعية أكثر نضوجًا مع بدايات القرن العشرين، وصولًا إلى عصر الدولة الحديثة.
والمُتبحِّر في عهد أئمة وسلاطين عُمان منذ عصر الإمام أحمد بن سعيد، يعلم جيدًا أن بناء الدولة- آنذاك- لم يكن مشروعًا سياسيًا فحسب؛ بل كان تأسيسًا لأُطر تضبط علاقة الحاكم بالمجتمع، وتضبط حركة التجارة، وتنظّم مسارات العدالة، فقد أدرك العُمانيون باكرًا أن القانون ليس قوةً تُفرض، ولا يدًا من حديد تَضرِب؛ بل عقدٌ اجتماعي يصون الحلم الكبير والأهداف المشتركة.
ومع مرور الأزمنة وتوالي السلاطين، كان هذا الحلم التشريعي يتطور ويتقدم، فترسّخت مبادئ القضاء، وانبثقت نظم إدارية أكثر تنظيمًا، واستمرّت الدولة في تعزيز قيم الشورى واللامركزية، حتى أضحت ثقافة قانونية تسبق النص وتُمهّد له، ومع كل انتقال سياسي، كانت عُمان تُثبت أن الاستقرار لا يُصنع بالقوة؛ بل بالحكمة، والتدرّج، واحترام الإنسان.
ثم جاء عصر النهضة الحديثة بقيادة المغفور له بإذن الله السلطان قابوس بن سعيد ليصنع من تلك الجذور بنية تشريعية متكاملة، فصدرت القوانين المُنظِّمة لشؤون الدولة والمجتمع، وتأسّست المحاكم المتخصصة، ورسخت دولة المؤسسات والقانون، وصولًا إلى صدور النظام الأساسي للدولة عام 1996م، الذي أعاد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة في إطار من العدالة وسيادة القانون، وتحددت معه ملامح أوضح لمفهوم الفصل بين السلطات.
وفي ظل النهضة المتجددة اليوم تحت القيادة الحكيمة لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- وبصدور النظام الأساسي الجديد للدولة عام 2021، يتسع هذا المسار ليشمل أبعادًا أكثر شمولية؛ حيث الحرص على أن تساير التشريعات توجهات الاقتصاد الجديد وتتوافق معه، وأن تواكب التحول الرقمي والتقدم التكنولوجي والرقمي الذكي، وحوكمة تُعيد تشكيل أجهزة الدولة بما يضمن تحقيق رؤية "عُمان 2040"، وأنظمة تصون كرامة الإنسان وتوفر احتياجاته كنظام الحماية الاجتماعية، وتمكين أكبر ومتواصل لنظام الإدارة المحلية واللامركزية لضمان تطوير المحافظات والخدمات والاستفادة من المقومات المختلفة والميز التنافسية لها، فالرحلة التشريعية في عُمان رحلة هادئة… لكنها عميقة؛ متدرجة… لكنها طموحة، تُشبه شخصية هذا الوطن الذي لا يرفع صوته؛ بل يرفع من شأنه.
ختامًا.. إنَّ الاحتفال باليوم الوطني لسلطنة عُمان وذكرى تأسيس الدولة البوسعيدية ليس مجرد تذكير بلحظة تاريخية؛ بل هو استدعاء لمسيرة تشريعية تعلّمت من البحر اتساعه، ومن خبرة العُمانيين في ركوب البحار القيادة، ومن جبل سمحان ثباته، ومن الإنسان العُماني حلمه الطويل الذي لا ينكسر، قانونًا بعد قانون، ومؤسسة بعد أخرى، نضجت التجربة العُمانية حتى أصبحت اليوم نموذجًا فريدًا في المنطقة: دولة تُقاد بالحكمة، وتنمو بالتشريع، وتحلم بمستقبلٍ أكثر عدلًا وتقدمًا ورسوخًا.
وهكذا… تستمر دولة آل بوسعيد في نسج هذا المسار الهادئ، تُضيف بندًا، وتُحدّث تشريعًا، وتفتح بابًا جديدًا لحقّ أو فرصة، وكأنها تقول للعالم في يومها الوطني: هنا عُمان؛ حيث تصبح العدالة أسلوب حياة، ويصبح التشريع طريقًا نحو مستقبلٍ يُشبه أحلامنا.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
ليبيا.. والفوضى (المخلوقة)
بدا للوهلة الأولى لشريحة واسعة من النخبة أن مشروع (الفوضى الخلاقة) الذي اجتاح المنطقة أواخر 2010 هو المحرك للتحول الديمقراطي المزعوم مستشهدين بالحالة التونسية والمصرية.. لكن الفشل الذريع في الحالة الليبية (البالغة التعقيد والخصوصية) وانزلاقها للعنف والتفكك والصراع المستمر كشف عن سيناريو آخر (محبوك) إقليمياً ودولياً صُمم لها بعناية وهو ما يمكن تسميته بـ(الفوضى المخلوقة).
ليبيا ما بين الأشرار والأقدار
نيف وسبعون عاما منذ أن قررت الأمم المتحدة أن تكون ليبيا دولة (مستقلة) كنتيجة لتفاهمات دولية كبرى عقب الحرب العالمية الثانية.. نيف وسبعون عاماً بالمقابل فشل الليبيون في إقامة دولة.. وفرَطوا باختلاف مشاربهم وأدوارهم ومسئولياتهم في صناعة دولة (فكراً ومؤسسات) تحميهم وتطور معيشتهم إلى أن فقدوا حتى (الاستقلال).. ودخل الجميع في حالة تخبط واشتباك جماعية عبثية و(شوفينية) مستمرة حول المسئول والمحاسبة عن ذلك الفشل وفقدان السيادة والاستقلال.
لم تهنأ ليبيا منذ تأسيسها من المتربصين (داخلياً وخارجياً) بمحاولات بناء دولة جامعة وحديثة ومزدهرة.. فكان إلغاء النموذج الفيدرالي للمملكة الليبية عام 1963 برغبة أمريكية أول صدمة مبكرة للدولة القادمة من خلف كواليس الأمم المتحدة.. الحقب السياسية التاريخية الثلاث (المملكة، الجمهورية/الجماهيرية، دولة ليبيا) تشابهت في الالتباس تجاه مشروع الدولة والسلطة واشتركت في تسييس العامل الاجتماعي وتقويض مسألة المواطنة والتمسك الشديد بالمركزية كعصا للسلطة وغطاء للنظام الريعي.. وأفرزت تجربة السبع عقود أمة منهكة ومنقسمة وغير متصالحة مع ذاتها وغير قادرة على التغيير.. فليبيا اليوم مجرد كيان فاشل يكتسب اعتراف الأمم المتحدة.. وانتهى بنا الأمر إلى تبني منهج (المحاصصة) في تولي الإدارة والمسئوليات حتى تغلفت المدن والحواضر ومؤسسات الدولة بغطاء القبائل وتشوهت طبيعة العلاقة الرأسية بين المواطن والسلطة إلى حالة تبعية وخضوع مقابل مرتبات وأجور.. علاوة على اختلال النموذج التنموي والافتقار للعدالة في توزيع عوائد النفط وازدياد التباينات بين أقاليم ومناطق ليبيا الشاسعة.
يبدو أن ليبيا هذه أقدارها.. أن تقطنها أمة مهزومة ومقدرات ضائعة ومنهوبة في دولة مشوهة ومنقسمة ومأزومة ينخرها تفشي الفساد.. دويلة هشة وغير قادرة على مقاومة التحديات المحلية والتحولات الدولية.. هذه الفوضى صٌمِمت وتُدار بعناية الساسة (الأشرار) من أبناء ليبيا من أجل تفكك وانقسام المؤسسات السيادية العليا وإجهاض جهود المصالحة الوطنية (الحقيقة) وتدخلات اللاعبين الدوليين والإقليميين في الأزمة وفقاً لمصالحها وتشتيت المبادرات الوطنية لحل الأزمة.. وسَمت الأقدار ليبيا بالفوضى العارمة غير المبررة.. وتأذت صورة الشخصية الليبية إقليمياً ودولياً من بلد تأسس به أول جمهورية في المنطقة قبل أكثر من مائة عام إلى دويلة عاجزة عن حفظ كرامة مواطنيها وتحقيق مستوى مقبول من الرفاهية مما تملك من خيرات ومقدرات وفرص اقتصادية.
بيد أن أخطر ما يتربص بالدولة الليبية ووجودها هو إضعافها أو تجريدها من ثلاثة مرتكزات أساسية متشابكة ومترابطة وهي: الهوية والقيمة والدور.. وأمام معادلة دولية – إقليمية (مفروضة) تتشكل من خلالها ليبيا الجديدة فكل ما يجري على المشهد السياسي خلال عقد ونصف من الزمن هو (فوضى مخلوقة) لإنهاك شعبها واستنزاف مقدراتها وإمكاناتها الواعدة.. أنتجها اتفاق ضمني غير معلن برعاية النسخ المتعددة من البعثة الأممية للدعم UNSMIL بين فرقاء ليبيين و(أوركسترا) من دبلوماسيي الظلام والصفقات من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وروسيا ووكلائهم في تركيا ومصر والإمارات وقطر.
مجلسا النواب والدولة.. وكلاء الفوضى المخلوقة
يختلف مجلسا النواب والدولة بعمق على كل القضايا والملفات السياسية والدستورية والإدارية والتشريعية العالقة تجاه الخروج من مأزق الانسداد السياسي.. وللسخرية فهما يتفقان (ضمنياً) على كل ما يثبت استمرار الوضع السياسي المأزوم الراهن.. فكل ما لاحت فرصة لحلحلة الانسداد السياسي والتقدم في مسار إنهاء المرحلة الانتقالية وضع المجلسان العُصي في الدولاب تارة تحت تأثير القوى الداخلية وتارة أخرى بتوجيه (لوبيات) القوى الخارجية المتحكمة في إدارة الصراع والأزمة.
استضافت القاهرة وبوزنيقة وتونس وغيرها جولات عديدة ومتكررة دون تقدم حقيقي بين المجلسين لمحاولة تسوية ملفات خلافية في مسار الخروج من الأزمة السياسية.. لكن العقلية الفوضوية وعدم الاكتراث بعنصر الزمن ووحدة البلد على حساب المنافع والمزايا والمصالح كان هو السمة السائدة في السلوك السياسي للمؤسستين.. وتشكلت لديهما للأسف عقيدة سياسية منحرفة تمثلت في اعتبار البرلمان ومجلس الدولة الشرعية الوحيدة وهما صمام الأمان لمنع انهيار الدولة دون إدراك أن اختلاق هذه الفوضى والعبث السياسي والمسئولية الوطنية (الصفرية) له كلفة اقتصادية ومالية باهضة ومدمرة.
جدلية الفاعل والمفعول به
ستظل حقيقة ليبيا ووجودها وإدارتها بهذه الصورة العبثية وهي تقترب من إعلانها دولة فاشلة ومفككة ومنقسمة أمراً محيراً للجيل الحالي واللاحق .. بمقاييس الثروات والمقدرات والفرص الاقتصادية والإستراتيجية المتاحة لها مع قلة عدد السكان ضمن محيطها الإقليمي من المفترض أنها في الصدارة.. بمقاييس السلم والاستقرار والازدهار والنمو والتطور والرفاهية فليبيا في ذيل القائمة.. تنتج من النفط مورد دخلها الرئيس ما يحولها إلى وجهة استثمارية دولية رائدة ينعم شعبها بحياة ومعيشة كريمة.. لكن قطاع النفط والمؤسسات المالية والاستثمارية السيادية الضامن لحقوق الليبيين في حالة انفصام عن هياكل الدولة المترهلة وواقع تحت توجيه (بارونات) الفساد في ليبيا الجديدة.. هذه الصورة والوضعية المتناقضة (المؤلمة) تطرح سؤالاً عميقاً وجوهرياً.. فهل ليبيا هي المسئول عما يحدث لها من فوضى وتفكك أم أنها ضحية تآمر خارجي؟
التاريخ رفيق الجغرافيا
هذه الفوضى قد تطول لكنها محكومة بأجل.. والإرادة الوطنية قد يصيبها الوهن لكنها تستطيع أن تستعيد وعيها وتأثيرها.. والشعوب تنام لكنها لا تموت وتستثار في أي لحظة.. ويوماً ما (وهو ليس بعيد) سيكتشف الليبيون حجم الكارثة التي حلت بهم والمرحلة القاتمة التي تمر بها ليبيا.. وتصبح حقبة فبراير بما تئن بحمله من إخفاقات وتفكك للدولة وانكسار (وطني) شيء من الماضي وجزء من التاريخ المطوي.. ويشار إليها بـ(النظام السابق).
لكل جغرافية في الكرة الأرضية تاريخ.. والصيرورة التاريخية هي المتنبئ والمُرشد لاستقراء مستقبل ليبيا.. وهي من سيعيد الأمور إلى نصابها ويضع كلٍ في مكانه.. ما أشبه اليوم بالبارحة.. فعشية اعتراف الأمم المتحدة بليبيا دولة مستقلة كانت هناك ثلاث ولايات متباينة ومنقسمة وشديدة الفقر تشكل الكيان الليبي: طرابلس وبرقه وفزان.. (يعود التاريخ أحياناً بثوب آخر) فقد عاد لليبيا الانقسام وعاد الفقر.. وعاد تربص دول الوصاية الأولى والوصاية الجديدة.. وللأمم المتحدة حساباتها وقد تعيد الكَرة.. وقد نُمنح استقراراً واستقلالاً آخر بثمن باهظ بتحويلات (سويفت) السيادة والحرية والكرامة.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.