السودان.. بين هدنة الحرب واستراحة التاريخ
تاريخ النشر: 15th, November 2025 GMT
لم يكن السودان يوماً ساحة حربٍ فقط، بل كان مرآة لتاريخٍ ممتد من وادي النيل إلى قلب إفريقيا. هذا البلد الذي حمل مع مصر ذاكرةً مشتركة منذ مملكة وادي النيل الموحدة، ظل في وعي المصريين جزءاً من عمقهم الجنوبي، كما ظل في ذاكرة السودانيين امتداداً لشمالهم التاريخي. فعندما توحدت مصر والسودان تحت تاجٍ واحد، لم تكن الحدود السياسية سوى خطوط رسمها الاستعمار على الخرائط، أما النيل فكان الشريان الذي لم يعرف انفصالاً.
لكن التاريخ أخذ منحى آخر بعد عام 1954 حين انتهت وحدة "مصر والسودان" رسمياً، لتبدأ مرحلة الدولة السودانية المستقلة التي حملت في رحمها بذور التمزق قبل أن تكتمل ملامحها. ومع كل منعطف سياسي في القاهرة، كان صدى التحولات يصل إلى الخرطوم، والعكس صحيح. فعقب نكسة يونيو 1967، حين اهتزت مصر سياسياً وعسكرياً، كانت الأراضي السودانية ملاذاً آمناً للطائرات المصرية المنسحبة، وكانت الكلية الحربية المصرية تُنقل إلى الخرطوم في مشهدٍ يعبّر عن وحدة المصير لا مجرد تضامنٍ سياسي.
تاريخياً، أدركت القاهرة أن حدودها الجنوبية ليست خطاً على الرمال، بل خط حياةٍ استراتيجي، وأن السودان بعمقه ومساحته يمثل امتداد الأمن المائي والغذائي والإنساني لمصر. ومع ذلك، ظل الاهتمام العربي والإقليمي بالسودان أقل من حجمه الحقيقي، فبينما تُسلّط الأضواء على غزة الصغيرة في الشرق، تُترك السودان، بامتداده الشاسع، للنزاعات القبلية والحروب الأهلية والضغوط الخارجية. إنها مفارقة تُجسد اختلال أولويات الوعي العربي، إذ يتم التعامل مع جغرافيا السودان كمساحةٍ بعيدة، بينما هي في الحقيقة صمام الأمان لمنطقة النيل والقرن الإفريقي والبحر الأحمر معاً.
السودان ليس بلداً واحداً بالمعنى الاجتماعي والثقافي، بل فسيفساء من تسعة أقاليم، لكل منها لغته ولهجته وزيه ودينه وذاكرته الخاصة. هذا التنوع الذي يمكن أن يكون مصدر قوة لو تم احتواؤه سياسياً وثقافياً، تحول بفعل سوء الإدارة إلى صراعات مزمنة. في عهد جعفر نميري مثلاً، حاول النظام أن يمنح الأقاليم نوعاً من الحكم الذاتي الجزئي لاحتواء النزعات الانفصالية، لكنها كانت خطوة مؤقتة لم تعالج جوهر الأزمة، بل رحّلتها إلى المستقبل.
من الجنوب الذي انفصل رسمياً إلى دارفور التي احترقت بنيران الإقصاء، ومن الشرق المهمّش إلى الشمال المثقل بالذكريات، يتبدى السودان كقارة صغيرة تتنازعها لغات وآلهة وتقاليد مختلفة، يجمعها فقط النيل والتاريخ المشترك.
لذلك، فإن أي "هدنة إنسانية" في السودان لا يمكن قراءتها كمجرد توقفٍ مؤقت للقتال، بل كاختبار لإرادة البقاء الوطني في بلد تتقاطع فيه الجغرافيا مع المصالح الإقليمية. الهدنة هنا ليست نهاية حرب، بل فصل من فصولها، تستخدمها الأطراف المتحاربة لترتيب أوراقها سياسياً وعسكرياً، بينما يدفع المدنيون ثمن الدماء والخراب.
من منظورٍ جيوسياسي، تكتسب الأزمة السودانية عمقاً استراتيجياً لا يقل عن أزمات المشرق العربي. فحدود السودان مع مصر تمتد لأكثر من 1200 كيلومتر، وهي الأطول والأكثر حساسية في المنطقة، إذ تمر عبرها مصالح الطاقة والنقل والمياه. وإذا ما قورنت بمساحة غزة التي لا تتجاوز بضع عشرات من الكيلومترات، فإن المفارقة تبدو فاضحة: غزة الصغيرة حظيت باهتمامٍ سياسي وإنساني عالمي، بينما السودان الشاسع، الذي يمكن أن يكون سلة الغذاء الإفريقي والعربي، يعاني التجاهل رغم أنه يختزن كل مقومات الانفجار الإقليمي.
إن مأساة السودان لا تختصرها البنادق ولا بيانات الهدنة. إنها مأساة التهميش التاريخي، وسوء استثمار التنوع، وغياب الرؤية التي تدرك أن هذا البلد هو قلب إفريقيا النابض، وأن انهياره يعني زلزلة البنية الاستراتيجية لمصر والقرن الإفريقي والبحر الأحمر معاً.
فالحرب في السودان ليست فقط حرب سلطة، بل صراع على هوية وطنٍ لم يكتمل. وكل هدنةٍ تُعلن اليوم هي استراحة محاربٍ في معركة طويلة بين المركز والهامش، بين التاريخ والجغرافيا، وبين الطموح الوطني والتدخل الخارجي.
السودان وسد النهضة… معركة الماء والوجودلا يمكن فصل مستقبل السودان عن معادلة سد النهضة التي تتجاوز ملف المياه إلى معركة بقاء إقليمي. فالسودان يقع في قلب المعادلة بين مصر وإثيوبيا، وهو الجسر الجغرافي الذي يربط المنبع بالمصب. أي اضطراب في السودان يعني مباشرةً اهتزاز توازن الأمن المائي في حوض النيل بأكمله.
إن استقرار السودان ليس فقط ضرورة إنسانية، بل هو شرط لبقاء منظومة الحياة في وادي النيل. فبينما تخوض مصر معركة الدفاع عن حصتها التاريخية من المياه، فإن السودان — إن غرق في الفوضى — سيصبح خاصرة رخوة يمكن لأي قوة خارجية أن تستغلها لابتزاز الجميع.
لهذا، يجب أن يُعاد النظر في السودان لا كدولة جارة فحسب، بل كـ عمق استراتيجي وبيئة حيوية للأمن المصري-الإفريقي المشترك. فكما أن النيل لا يتجزأ، فإن أمن مصر والسودان لا يمكن فصله بالحدود.وإذا كانت غزة الصغيرة تذكّر العرب يومياً بقضية الوجود، فإن السودان الواسع يذكّرهم بمعنى البقاء.
إن الحرب هناك ليست استراحة محارب، بل جرس إنذار لقارةٍ بأكملها. فحين يختنق الجنوب، لا يمكن أن يتنفس الشمال.
كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية
اقرأ أيضاًعاجل| وزير الخارجية يدين الفظائع والانتهاكات المروعة في مدينة الفاشر السودانية
الإمارات تؤكد التزامها الراسخ بمنع استخدام أراضيها فى تهريب الأسلحة إلى السودان
كبير مستشاري ترامب للشؤون العربية والإفريقية: السودان يعيش أصعب أزمة إنسانية في العالم
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: السودان غزة الأزمة السودانية مصر والسودان الأراضي السودانية الدولة السودانية جغرافيا السودان السودان لا فی السودان لا یمکن
إقرأ أيضاً:
تورك: ندعو لاتخاذ إجراءات ضد الأفراد والشركات التي تؤجج وتستفيد من الحرب بالسودان
أكدت مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان فولكر تورك، أن الفظائع بالفاشر في السودان هي أخطر الجرائم التي كانت متوقعة وكان يمكن منعها.
وقال مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في تصريحات له : المجتمع الدولي يتظاهر بالاهتمام بالفظائع التي تجري بالفاشر لكنه قليل الفعل.
وأضاف مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان: ندعو لاتخاذ إجراءات ضد الأفراد والشركات التي تؤجج وتستفيد من الحرب بالسودان.
وتابع فولكر تورك: نحذر بشدة من تصاعد العنف بكردفان في السودان حيث القصف والحصار وإجبار الناس على ترك منازلهم.
وزاد فولكر تورك: منذ سيطرة الدعم السريع على الفاشر وقعت إعدامات على أساس عرقي واغتصاب جماعي وعمليات خطف.
وختم تورك تصريحاته قائلا: منذ سيطرة الدعم السريع على الفاشر وقعت عمليات توقيف تعسفي واعتداء على منشآت طبية وفظائع صادمة.
وفي سياق متصل ؛ قال سيف ماجانجو، المتحدث باسم مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، إنّ الوضع في السودان كارثي للغاية، لا سيما في مدينتي الفاشر وكردفان، حيث ترتكب قوات الدعم السريع انتهاكات جسيمة ضد الإنسانية، تشمل القتل والتجويع والانتهاكات الجنسية.
وأضاف ماجانجو، في مداخلة مع الإعلامية دينا زهرة، عبر قناة "القاهرة الإخبارية"، أن المواطنين باتوا عالقين بين المطرقة والسندان، في ظل حصار خانق أدى إلى مجاعة ونقص حاد في الغذاء، مشيراً إلى أن الكارثة مرشحة للتفاقم في مناطق أخرى مثل الأبيض ودارفور إذا لم تُتخذ إجراءات عاجلة لوقفها.
وتابع، أنّ المساعدات الإنسانية تواجه عراقيل خطيرة في الوصول إلى المناطق المتضررة، وهو ما يعكس وضعاً مستمراً منذ اندلاع النزاع قبل نحو أربع سنوات. وأكد أن المفوضية تناشد جميع الأطراف بالسماح بدخول المساعدات دون عوائق لإنقاذ المدنيين.
ولفت، إلى أن المعونات متوفرة بالفعل لكنها لا تصل إلى مستحقيها بسبب المنع المتعمد من قبل أطراف النزاع، وهو ما يزيد من حدة الكارثة الإنسانية.