خطبتا الجمعة من المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف
تاريخ النشر: 13th, October 2023 GMT
مكة المكرمة
أوصى فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور أسامة بن عبدالله خياط المسلمين بتقوى الله وعبادته، والتقرب إليه بطاعته بما يرضيه، وتجنب مساخطه ومناهيه.
وقال فضيلته في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم بالمسجد الحرام: اتقوا الله عباد الله، فالعاقبة للتقوى، بها يبلغ المتقون أرفع المنازل، ويستجمعون الفضائل، ويستدفعون الغوائل: ( يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقولوا قَولًا سَديدًا ، يُصلِح لَكُم أَعمالَكُم وَيَغفِر لَكُم ذُنوبَكُم وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسولَهُ فَقَد فازَ فَوزًا عَظيمًا)، عباد الله: إنه إذا كان الأدب: عبارة عن معرفة ما يُحترز به عن جميع أنواع الخطأ، وحيث أن الخطأ يعظم في حق كل عظيم من العظماء، ولا ريب أن الله تعالى هو أعظم العظماء كافة، بل هو العظيم وحده على الحقيقة، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه واللفظ لهما، وابن ماجة في سننه بإسناد صحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم– قال: “قال الله عز وجل: الكِبرياءُ رِدائي، والعَظَمةُ إزاري، مَن نازَعَني واحِدًا منهما، قذَفتُه في النَّار”.
وأضاف قائلًا: لذا بأن الأدب معه -تعالى ذكره- متعين على كل الخلائق، وهو مقدم على كل أدب، فالأدَبُ مَعَ اللهِ حُسْنُ الصُّحْبَةِ مَعَهُ، وبِإيقاعِ الحَرَكاتِ الظّاهِرَةِ والباطِنَةِ عَلى مُقْتَضى التَّعْظِيمِ والإجْلالِ والحَياءِ. وإنَّ أولى ما تجب العناية به، وتوجيه الأنظار إليه، معرفة السبل التي يصل بها سالكها إلى منزلة الأدب مع الله تعالى. وإنها -يا عباد الله- لسبل شتى، ومسالك متعددة: فحين يقف العبد على أعظم منازل الأدب مع الله شأنًا، وأشرفها مقامًا، يجد أنه أداء حقِّه -سبحانه -، بتحقيق التوحيد الخالص، الذي هو أعظمُ أوامر الدين، وأساسُ الأعمال، وروحُ التعبُّد، وعِمادُ التقرُّب، وقاعدةُ الازدِلاف إليه – عز وجل -، والغايةُ من خلق الإنسِ والجنِّ، كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون)، فيكون هذا أجل سبل الأدب مع الله تعالى؛ لأنه ليس من الأدب في شيء، الشرك بالله واتخاذ الأنداد له عز وجل، ولا يستقيم لأحد قطّ: الأدب معه سبحانه، إلاّ بتوحيده وإخلاص العبادة له وحده دون سواه، ومعرفته بأسمائه وصفاته، ومعرفته بدينه وشرعه، وما يحبّ وما يكره، كما حين ينظر المرء إلى منن الله العظمى عليه، ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، من لحظة بدء تخلقه في رحم أمه، إلى لحظة لقاء ربه، فإنه لا محالة واجد نفسه يلهج بالشكر للمنعم المتفضل بهذه العطايا، شكرًا باللسان: حمدًا وثناءً عليه بما هو أهله، وشكرًا بالقلب: محبةً وإنابةً وخضوعًا وإخباتًا، وشكرًا بالجوارح: بصرف أعمالها كافةً إلى طاعته سبحانه، والسعي إلى مرضاته، فيكون هذا أحد سبل الأدب معه عز اسمه؛ لأنه ليس من الأدب معه في شيء، جحود النعم، وعدم الإقرار بالمنن، ورفض الاعتراف بالعطايا والمنح، كما حين يتفكر اللبيب الأريب في سعة علمه سبحانه، وإحاطته بكل شيء في الأرض وفي السماء، ومن ذلك إحاطته بكافة أمور الإنسان، واطلاعه على جميع حركاته وسكناته، وأقواله وأفعاله، فإن هذا التفكر يُحدِث له مهابة له سبحانه، يستشعرها في قلبه وقارًا وتعظيمًا، يورثه حياءً من التلوث بمعصيته، والجرأة على مخالفة أمره ونهيه، فيكون بهذا قد سلك سبيلًا آخر من سبل الأدب مع ربه تبارك وتعالى؛ لأنه ليس من الأدب في شيء، الإقدام على الذنوب والمعاصي، والتورط في المجاهرة بها، وبكل ما يقبح مقابلته سبحانه، وهو مستيقن أنه شاهد عليه، ناظر إليه.
وأشار في الخطبة متحدثًا: عباد الله: حين يوقن السائر إلى ربه أن الله تعالى قادر عليه، محيط به وبعمله، فلا مهرب له منه، ولا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه، ولا يجد سبيلًا أبدًا غير الفرار إليه، والعودة له، والاستعصام بحبله، والاستمساك بشرعه، كما قال تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)، فيكون بهذا قد نهج نهجًا يحقق به الأدب مع ربه؛ إذ لا يرتاب عاقل أنه ليس من الأدب في شيء، أن يفر المرء ممن لا مفرَّ منه، ولا عاصم من أمره، ولا راد ولا معقب لحكمه. وحين ينظر الإنسان إلى جميل لطف الله تعالى به في كل شؤونه، وحين يرى آثار رحمة ربه به وبكافة عباده، كما قال عز من قائل: (قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ)، فإن هذا يحمله على طلب المزيد من عظيم رحمته، وجميل ألطافه، بالضراعة والتوسل إليه بالكلم الطيب والعمل الصالح، وبذا يكون أيضًا قد سلك سبيلًا آخر من السبل المحققة للأدب مع الله تعالى؛ لأن مما يستيقن أولو الألباب، أنه ليس من الأدب في شيء، أن يصاب المسلم باليأس من رحمة الله، فيركن إلى القنوط المحبط، الذي تُظلم به الدنيا، وتغشو به الأبصار، وتعمى به البصائر، كيف وقد نهى ربنا تعالى ذكره عن هذا اليأس بقوله: ?قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ?، وقال عز اسمه على لسان يعقوب عليه السلام: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ).
وأشار في الخطبة الثانية قائلًا: حين يمعن ابن آدم النظر فيما جاء عن الله تعالى من بيان واضح وافٍ لشدة بطشه، وأليم عقابه، وعظيم انتقامه، كما في قوله جل ثناؤه: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ)، وكما في قوله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ)، وفي كونه سبحانه أيضًا سريع الحساب، فإن هذا الإمعان، يبعثه على اتقاء ربه، بالعمل بما يرضيه، والحذر مما يسخطه، فيكون بهذا قد سلك سبيلًا من سبل الأدب مع الله تعالى؛ لأنه ليس ثمة ريب لدى العقلاء، أنه ليس من الأدب في شيء، أن يبارز العبد العاجز الضعيف، ربه القوي القادر، المنتقم الجبار القاهر، بالعصيان لأمره، وعدم الاستجابة لزجره، وحين يحسن المسلم الظن بربه، فيعلم أنه مؤتيه سؤله، ومحقق أربه، ومفيض عليه نعمه، ومجزل له ثوابه، مادام له مطيعًا، إليه مخبتًا، عليه متوكلًا، له راجيًا، منه خائفًا، وبذا يكون المسلم قد سلك مسكًا من مسالك الأدب مع مولاه جلَّ في علاه؛ لأن أولي النهى مجمعون على أنه ليس من الأدب في شيء، إساءة العبد الظن بربه، بالوقوع في الحرام، وكسب الآثام، والتعرض لنقمته وعقوبته، ظانًا متوهمًا أنه غير مطلع عليه، وغير منزل بأسه وأليم عقابه به، فهذا هو الظن السيء الذي ذكره تبارك وتعالى في قوله: ( وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ). ولذلك اتقوا الله عباد الله، وأحسنوا الأدب مع الله، بتوحيده وطاعته، وشكره وحسن عبادته، والحذر من مخالفة أمره ومعصيته، تحظوا برضاه ونزول الجنة دار كرامته. واذكروا على الدوام، أنَّ الله تعالى قد أمركم بالصلاة والسلام على خير الأنام، فقال في أصدق الحديث وأحسن الكلام: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا صَلّوا عَلَيهِ وَسَلِّموا تَسليمًا). اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ، اللهم بارِكْ على محمد وعلى آل محمد، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنكَ حميدٌ مجيدٌ، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة الراشدين، أبي بكر، وعمر، وعثمان وعلي، وعن سائر الآل والصحابة والتابعين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك، يا أكرم الأكرمين.
وفي المدينة المنورة أوصى فضيلة إمام وخطيب المسجد النبوي الشيخ الدكتور أحمد بن طالب بن حميد المسلمين بتقوى الله عز وجل حق التقوى ومراقبته بالسر والنجوى.
وقال فضيلته: قال تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّٗا شَيَٰطِينَ ٱلۡإِنسِ وَٱلۡجِنِّ يُوحِي بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ زُخۡرُفَ ٱلۡقَوۡلِ غُرُورٗاۚ وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُۖ فَذَرۡهُمۡ وَمَا يَفۡتَرُونَ وَلِتَصۡغَىٰٓ إِلَيۡهِ أَفۡـِٔدَةُ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ وَلِيَرۡضَوۡهُ وَلِيَقۡتَرِفُواْ مَا هُم مُّقۡتَرِفُونَ أَفَغَيۡرَ ٱللَّهِ أَبۡتَغِي حَكَمٗا وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ إِلَيۡكُمُ ٱلۡكِتَٰبَ مُفَصَّلٗاۚ وَٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ يَعۡلَمُونَ أَنَّهُۥ مُنَزَّلٞ مِّن رَّبِّكَ بِٱلۡحَقِّۖ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمُمۡتَرِينَ وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدۡقٗا وَعَدۡلٗاۚ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ وَإِن تُطِعۡ أَكۡثَرَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنۡ هُمۡ إِلَّا يَخۡرُصُونَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِۦۖ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِينَ)؛ وكذلك الحال في اتباع الأنبياء وأعدائهم.
وأضاف: والله إذا أخبر فخبره الصدق، وإذا حكم فحكمه العدل، لا يُبدل القول لديه، والكل منه وبه وإليه؛ وفي إخباره سبحانه عدل أحكامه، وفي أحكامه صدق أخباره (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ ۖ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا)؛ وتمت كلمة ربكم صدقاً في صفة الأمة المحمدية وخصالها السنية، ونعوت خصومها الردية، فقال: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ*لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ*ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ).
وقال فضيلته: بيّن لكم سبحانه أن ذلة العدد لا تضر مع عزة المدد، فقال عز وجل: (وَلَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدۡرٖ وَأَنتُمۡ أَذِلَّةٞۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ إِذۡ تَقُولُ لِلۡمُؤۡمِنِينَ أَلَن يَكۡفِيَكُمۡ أَن يُمِدَّكُمۡ رَبُّكُم بِثَلَٰثَةِ ءَالَٰفٖ مِّنَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ مُنزَلِينَ. بَلَىٰٓۚ إِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأۡتُوكُم مِّن فَوۡرِهِمۡ هَٰذَا يُمۡدِدۡكُمۡ رَبُّكُم بِخَمۡسَةِ ءَالَٰفٖ مِّنَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ مُسَوِّمِينَ. وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلَّا بُشۡرَىٰ لَكُمۡ وَلِتَطۡمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِۦۗ وَمَا ٱلنَّصۡرُ إِلَّا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَكِيمِ. لِيَقۡطَعَ طَرَفٗا مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَوۡ يَكۡبِتَهُمۡ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ. لَيۡسَ لَكَ مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٌ أَوۡ يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡ أَوۡ يُعَذِّبَهُمۡ فَإِنَّهُمۡ ظَٰلِمُونَ وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ يَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ).
وأكمل: وما الإمداد إلى مع الاستعداد، فأما استعداد الأرواح القائمة بالعزيز الوهاب، فقد تمت كلمة ربكم عدلاً، فشرع أسباب الفلاح والنصر في الدنيا والآخرة حالاً ومقالاً وفعلاً، قال سبحانه: (وَسَارِعُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ أُعِدَّتۡ لِلۡمُتَّقِينَ . ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي ٱلسَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَٱلۡكَٰظِمِينَ ٱلۡغَيۡظَ وَٱلۡعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ . وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوۡ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ لِذُنُوبِهِمۡ وَمَن يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمۡ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ أُوْلَٰٓئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغۡفِرَةٞ مِّن رَّبِّهِمۡ وَجَنَّٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَنِعۡمَ أَجۡرُ ٱلۡعَٰمِلِينَ . قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِكُمۡ سُنَنٞ فَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِينَ . هَٰذَا بَيَانٞ لِّلنَّاسِ وَهُدٗى وَمَوۡعِظَةٞ لِّلۡمُتَّقِينَ . وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحۡزَنُواْ وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ).
وأوضح فضيلته: وأما استعداد الأجساد القائمة في الأسباب فحكم سبحانه بقوله: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعۡلَمُهُمۡۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ).
وأضاف فضيلته: وتمت كلمة ربكم صدقاً فقال عز ذكره وجلت حكمته: (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ. وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)؛ وأخبرنا الله خبر صدق عن كثير ممن مضى من الأنبياء والأمم، فقال سبحانه: (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ* وَمَا كَانَ قَوۡلَهُمۡ إِلَّآ أَن قَالُواْ رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسۡرَافَنَا فِيٓ أَمۡرِنَا وَثَبِّتۡ أَقۡدَامَنَا وَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ*فَـَٔاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ ثَوَابَ ٱلدُّنۡيَا وَحُسۡنَ ثَوَابِ ٱلۡأٓخِرَةِۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ).
وأكمل: ثم حكم سبحانه عدلاً وأخبر سبحانه صدقاً أن الخسار في طاعة الكفار، وأن النصر في ولاية العزيز القهار، وأن الفشل مع التنازع والمعصية وإرادة الدنيا، ونهى الله أهل الإيمان عن تخذيل إخوانهم وتحسيرهم، وأمرهم فيما بينهم باللين والاستغفار والمشاورة، والتوكل َعلى الله والاستنصار به، وتنكب أسباب الخذلان بالغلول ومعصية الرسول، ومن ظن أن القتلى من الفريقين سواء، فليقرأ قوله تعالى: (أَفَمَنِ ٱتَّبَعَ رِضۡوَٰنَ ٱللَّهِ كَمَنۢ بَآءَ بِسَخَطٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأۡوَىٰهُ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ هُمۡ دَرَجَٰتٌ عِندَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ بَصِيرُۢ بِمَا يَعۡمَلُونَ).
وأضاف: وتمت كلمة ربكم صدقاً وعدلاً بالمنة على المؤمنين بسيد المرسلين، وإنقاذهم به من الضلال المبين، وأن المصيبة تحل علينا من أنفسنا، بمخالفة أمره، وترك هديه.
واختتم إمام وخطيب المسجد النبوي الشيخ الدكتور أحمد بن طالب بن حميد الخطبة بقوله: وتمت كلمة ربك ربكم صدقاً يورث اليقين، وعدلاً يحكم بالثبات على الحق إلى يوم الدين، قال سبحانه: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
المصدر: صحيفة صدى
كلمات دلالية: المسجد الحرام المسجد النبوي الشريف خطبتا الجمعة مع الله تعالى عباد الله ه سبحانه لأنه لیس ؤ م ن ون ٱل أ ر ض قال عز سبیل ا
إقرأ أيضاً:
صرخة في وجه الوحش الخفي التحرش
كانت سحر تسير في طريقها المعتاد إلى الجامعة، تحمل في يدها كتبها وفي قلبها أحلاما كبيرة. لكن ذلك اليوم كان مختلفا؛ كلمات جارحة من شاب متطفل، ونظرات متفحصة، ثم محاولة التماس معها، أجبرتها على تغيير مسارها، وزرعت في نفسها خوفا لم تعرفه من قبل. عادت سحر إلى بيتها، وكعادة كثيرين من ضحايا التحرش، التزمت الصمت.. "لو أخبرت أحدا، ماذا سيقولون؟ سيلومونني لا محالة".. هكذا حدثت نفسها، وهكذا يفكر الكثيرون.
قصة سحر ليست فريدة، بل هي واحدة من آلاف القصص التي تُروى يوميا في مجتمعاتنا. التحرش، ذلك السلوك المشين الذي حرمه الله ورسوله، بات وباء صامتا ينخر في جسد المجتمع. يقول الله تعالى: "وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ" (الأنعام: 151). هذه الآية تؤسس لمبدأ مهم في الإسلام، وهو الابتعاد عن كل ما يمس كرامة الإنسان والذي يعد التحرش من أبرز صوره.
في لحظة خاطفة، تتحول الأماكن العامة من فضاءات للحياة اليومية إلى ساحات قلق وترقب. عيون تلاحق، كلمات تخدش الحياء، حركات تنتهك الخصوصية، ثم تصل أحيانا لانتهاك العرض.. إنه التحرش، ذلك الشبح الذي يطارد ملايين البشر حول العالم، مخلّفا جراحا نفسية قد تستمر لسنوات.
جذور المشكلة: لماذا ينتشر التحرش في مجتمعاتنا؟
ثمة أسباب عديدة تقف وراء انتشار ظاهرة التحرش في مجتمعاتنا، ولا يمكن مواجهة المشكلة دون فهم جذورها العميقة.
في المقام الأول، يأتي ضعف الوازع الديني وغياب التربية الإيمانية الصحيحة. فحين تغيب مراقبة الله تعالى عن القلوب، تنفلت الجوارح وتسقط الحواجز الأخلاقية. يقول الله تعالى: "أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى" (العلق: 14). هذه الآية تذكير مباشر بمراقبة الله التي تشكل رادعا داخليا يمنع المسلم من ارتكاب المعاصي.
وتلعب وسائل الإعلام دورا سلبيا في تفاقم ظاهرة التحرش من خلال التركيز على تسليع الجسد وتصويره كسلعة استهلاكية خاصة في الإعلانات والأفلام، وتطبيع التحرش وتصويره كسلوك "ذكوري" مقبول أو كوسيلة للتعبير عن الإعجاب في العديد من الأعمال الفنية، والمحتوى الإباحي المنتشر عبر الإنترنت والذي يقدم صورة مشوهة للعلاقات الإنسانية ويؤجج الغرائز دون ضوابط. وأخيرا، ضعف البرامج التوعوية المضادة التي تعزز قيم الاحترام والخصوصية والعفة، مما يترك الساحة الإعلامية مفتوحة للرسائل المشجعة على سلوكيات التحرش.
ومن الأسباب الجوهرية أيضا مشكلة الفراغ والبطالة المستشرية بين الشباب. فالشاب الذين لا يجدون عملا يشغلون به وقتهم وطاقتهم، والذين يعجزون عن إعالة أنفسهم، يقعون فريسة للفراغ القاتل والإحباط المدمر. وقد صدق من قال: "إن الفراغ مفسدة للنفس والبطالة مقبرة للأخلاق". هؤلاء الشباب العاطلون، المحرومون من تحقيق طموحاتهم وإثبات ذواتهم بالطرق المشروعة، قد يلجأون إلى سلوكيات منحرفة للتعويض عن شعورهم بالعجز والدونية.
وتأتي المخدرات لتعمق الجرح وتزيد الطين بلة، فالمتعاطي، وقد غاب وعيه وانحلت ضوابطه الأخلاقية، يسهل عليه ارتكاب أفعال لا يمكن أن يرتكبها في حالة صحوه. المخدرات تكسر كل الحواجز النفسية والأخلاقية والاجتماعية، وتطلق العنان للرغبات المكبوتة والنزوات الدفينة. لذا نجد أن نسبة كبيرة من حالات التحرش والاعتداء ترتكب تحت تأثير المخدرات والمسكرات.
ولا يخفى على أحد أثر الصحبة السيئة في تشكيل سلوك الشباب. فالصديق إما أن يكون معينا على الخير، أو دافعا إلى الشر، وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: "المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل". في مجموعات الأصدقاء السيئة، قد يصبح التحرش نوعا من "إثبات الرجولة" أو "المغامرة" التي تُكسب الشاب مكانة بين أقرانه.
ويبرز ضعف اهتمام المجتمع بالقيم كسبب رئيسي في انتشار التحرش. فنحن نعيش في زمن طغت فيه المادية على الروحانية، وشغلت فيه الشهادات العلمية والمناصب المرموقة مساحة كبيرة من اهتمامنا، على حساب تربية النشء على القيم النبيلة. أصبحنا نهتم بتعليم أبنائنا كيف ينجحون دراسيا ومهنيا، ونهمل تعليمهم كيف يكونون أخلاقيا وإنسانيا.
وهناك عامل مهم يتعلق بالمتحرش به أو بها، وهو ما يتعلق باللباس والزينة وطريقة المشي والكلام. فالإسلام وضع ضوابط للباس والزينة ليس تضييقا على الحريات، بل حماية للمجتمع من الانزلاق نحو المفاسد. فاللباس الفاضح، والتبرج المبالغ فيه، والمشية المتمايلة، والتقعر في الكلام، كلها عوامل قد تثير الغرائز لدى ضعاف النفوس.
ومن الأهمية بمكان أن نشير إلى أن التحرش ليس مقتصرا على الإناث فقط، بل قد يقع على الذكور أيضا. فهناك حالات كثيرة من التحرش بالأطفال والفتيان والشباب. وهذا النوع من التحرش قد يكون أكثر ضررا نفسيا، لأن ضحاياه يترددون أكثر في الإبلاغ عنه خوفا من الوصم الاجتماعي أو السخرية.
هل المتحرش مظلوم؟
يطرح البعض هذا التساؤل الغريب، متعللين بظروف اجتماعية أو اقتصادية أو نفسية قد تدفع المتحرش لسلوكه المشين. لكن الحقيقة الراسخة أن المتحرش ليس مظلوما بأي حال، بل هو ظالم معتدٍ. فمهما كانت الظروف المحيطة به -كالبطالة أو تأخر الزواج- فإنها لا تبرر انتهاكه لخصوصيات الآخرين.
نعم، علينا معالجة الأسباب المجتمعية للظاهرة، لكن هذا لا يعني التهاون مع المتحرشين. فالإنسان مسؤول عن أفعاله، وقد منحه الإسلام أدوات كثيرة للتعامل مع الضغوط، من الصبر والصلاة وغض البصر.
هل الضحية ظالمة؟
يتجرأ البعض فيطرح سؤالا أكثر غرابة: هل الضحية ظالمة أو مسؤولة عما حدث لها؟ يُلمّحون إلى أن اللباس أو المشية أو التصرفات كانت "استفزازية" أو "مثيرة". هذا المنطق المقلوب يحاول تحويل المعتدى عليه إلى متهم، والمتحرش إلى ضحية!
هذه النظرة المعكوسة تمثل انحرافا خطيرا في المفاهيم والقيم، إنها تماثل تماما لوم المسروق على سرقته لأنه لم يؤمن منزله جيدا، أو لوم المضروب على ضربه لأنه مرّ في طريق مظلم. حتى لو قصّر شخص ما في التزام الآداب الشرعية -وهو ما لا يجوز بطبيعة الحال- فإن هذا لا يمنح أحدا حق التحرش به أو إيذائه.
خطورة هذا المنطق تتجلى في تكريس ثقافة الصمت؛ فالضحية التي تُلام على ما حدث لها ستفضل الصمت خوفا من لوم المجتمع. وهكذا يستمر المتحرش في ارتكاب المزيد من الجرائم بحق آخرين، وتتحول الظاهرة من حالات فردية إلى آفة أن نقطع الطريق على هذا المنطق المقلوب، وأن نضع المسؤولية على عاتق من يستحقها: المتحرش وحده.
آثار التحرش: جراح عميقة
التحرش ليس حادثا عابرا، بل يترك آثارا مدمرة على الضحايا:
- نفسيا، يسبب الاكتئاب والقلق المزمن واضطرابات النوم والأكل.
- اجتماعيا، يدفع الضحايا للعزلة وفقدان الثقة بالآخرين، ويعيق قدرتهم على بناء علاقات سليمة.
- أكاديميا ومهنيا، قد يؤدي لتراجع الأداء الدراسي أو العملي، وقد يدفع الضحية لترك الدراسة أو العمل تماما.
- جسديا، قد تظهر أعراض جسدية مثل الصداع المزمن واضطرابات الجهاز الهضمي وآلام الظهر نتيجة التوتر المستمر.
- التحرش يسرق من الضحية إحساسها بالأمان والسيطرة على حياتها، وفي الحالات الشديدة، قد يصل الأمر إلى التفكير بالانتحار.
- التحرش لا يؤذي الضحايا فحسب، بل يمزق النسيج الاجتماعي بأكمله. ومجتمعيا، يخلق بيئة من الخوف والريبة تحد من مشاركة المرأة في الحياة العامة وتقلص إسهامها في التنمية. كما يضعف الثقة بين أفراد المجتمع ويعزز ثقافة العنف والسيطرة.
- اقتصاديا، يكلف المجتمع خسائر فادحة نتيجة غياب الضحايا عن العمل أو الدراسة، وانخفاض إنتاجيتهم، والنفقات الصحية لعلاج آثاره النفسية والجسدية.
- أما أخلاقيا، فالتساهل مع التحرش يؤدي إلى انحدار القيم وتفكك المنظومة الأخلاقية التي تحمي المجتمع من الانهيار.
دور البيت في الوقاية والحماية
البيت هو المحضن الأول والأهم في تشكيل شخصية الإنسان وقيمه وسلوكياته، ومن هنا تأتي أهميته الكبرى في الوقاية من التحرش وفي حماية الأبناء من الوقوع ضحايا له.
في مجال الوقاية، على الأسرة أن تغرس القيم الدينية والأخلاقية في نفوس الأبناء منذ الصغر. فالطفل الذي ينشأ على مراقبة الله تعالى والاستحياء منه، والذي يتعلم احترام حدود الآخرين وخصوصياتهم، سيكون محصنا ضد الانخراط في سلوكيات التحرش. يقول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارا" (التحريم: 6).
ومن الأهمية بمكان أن تعلّم الأسرة أبناءها مفهوم الحدود الشخصية والخصوصية الجسدية. فالطفل يجب أن يتعلم أن جسده حرمة لا يجوز لأحد انتهاكها، وأن يقول "لا" بحزم لأي محاولة لانتهاك خصوصيته، وأن يبلغ والديه فورا عن أي سلوك غير مريح يتعرض له.
كما يجب على الأسرة أن تعلم أبناءها القواعد الشرعية للعلاقة بين الجنسين، من غض البصر وحفظ الفرج والتزام الحشمة في اللباس والكلام والمشي. وعلى الوالدين أن يقدموا لأبنائهم القدوة الحسنة في احترام الآخرين. فالطفل يتعلم من سلوك والديه أكثر مما يتعلم من كلامهما.
أما في مجال الحماية، فعلى الأسرة أن تخلق جوّا من الثقة والانفتاح، بحيث يشعر الأبناء بالأمان في مصارحة والديهم بأي مشكلة. فكثير من ضحايا التحرش يلتزمون الصمت خوفا من لوم الأهل، لذا يجب على الوالدين أن يؤكدوا لأبنائهم دوما أنهم سيكونون إلى جانبهم، وأنهم لن يلوموهم إذا تعرضوا لأي إيذاء.
كيف نواجه هذه الظاهرة ونقضي عليها؟
إن مكافحة ظاهرة التحرش تتطلب جهدا جماعيا على كافة المستويات، بدءا من الأفراد والأسر، مرورا بالمؤسسات التعليمية والإعلامية، وصولا إلى صناع القرار والمشرعين.
على مستوى المؤسسات التعليمية، ينبغي تضمين المناهج الدراسية القيم الأساسية للمجتمع الآمن، وتدريب المعلمين على كيفية التعامل مع حالات التحرش واكتشافها، وتوفير آليات آمنة للإبلاغ داخل المدارس والجامعات، كما ينبغي تفعيل دور المرشد النفسي والاجتماعي في المؤسسات التعليمية.
وعلى مستوى وسائل الإعلام، يجب إطلاق حملات توعوية مستمرة حول خطورة التحرش وكيفية مواجهته، وتقديم نماذج إيجابية للعلاقات السوية بين الجنسين، والابتعاد عن المحتوى الذي يسهم في تسليع الجسد. كما يجب تفعيل دور الإعلام في كسر ثقافة الصمت حول التحرش.
أما على المستوى التشريعي والقانوني، فلا بد من تشديد العقوبات على المتحرشين، وتسهيل إجراءات الإبلاغ عن حالات التحرش، وتوفير الحماية القانونية للمبلغين والشهود. كما يجب تأهيل رجال الشرطة والقضاة للتعامل مع قضايا التحرش بحساسية وفعالية.
الخطوة الأولى تبدأ بكسر جدار الصمت، برفض التواطؤ السلبي، بالإصرار على أن التحرش ليس قدرا محتوما، بل هو سلوك مرفوض يمكن استئصاله من النسيج الاجتماعي. هذا يبدأ بنا جميعا، في بيوتنا ومدارسنا وأماكن عملنا وشوارعنا، حين نقرر أن نكون جزءا من الحل لا جزءا من المشكلة.
فلنتحد جميعا في صرخة مدوية ضد الصمت، ولنعد للإنسانية كرامتها المسلوبة، ولنبنِ معا مجتمعا يتنفس فيه الجميع هواء العفة والأمان، مسترشدين بقول الله تعالى: "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (آل عمران: 104).