صحف فرنسية تعلق على وفاة نافالني
تاريخ النشر: 17th, February 2024 GMT
تناولت الصحف الفرنسية اليوم، السبت، نبأ وفاة المعارض الروسي أليكسي نافالني في سجن في سيبريا والذي أثار نبأ وفاته جدلا كبيرا في جميع أنحاء العالم.
وقالت صحيفة "لوموند" الفرنسية أنه تم الإعلان عن وفاة أليكسي نافالني ظهر يوم الجمعة من قبل إدارة سجن منطقة يامالو-نينيتسيا المتمتعة بالحكم الذاتي حيث تم نقل السجين خلال شهر ديسمبر 2023: "في 16 فبراير 2024، في مركز السجون رقم 3، شعر السجين نافالني، بوعكة بعد قيامه بالتريض وفقد وعيه على الفور تقريبًا".
وبالفعل، قدمت وسائل الإعلام الروسية الرسمية، بما في ذلك "ار تي"، التشخيص الأول الذي تم الحصول عليه من مصادر رسمية مجهولة، وهو إصابته بإنسداد وعاء دموي وبحسب إدارة السجن، فإن الطاقم الطبي الذي أرسل على الفور إليه فشل في إنعاشه.
ورغم أن الأشهر الأولى من السجن كانت صعبة، وكان الرجل لا يزال يعاني من آثار التسمم بغاز الأعصاب الذي تعرض له في أغسطس 2020، إلا أنه لم يشكو، في الأسابيع الأخيرة، من الألم بشكل خاص، وفي 12 فبراير تمكن والداه من رؤيته – وكانت هذه أول حقوق الزيارة الممنوحة لهما منذ سجنه في يناير 2021. وقد وجدوه صلبًا، ولم يتلقيا يوم السبت أي معلومات جديدة أو أي إشارة بشأن احتمال تسليم جثة ابنهم.
ويشير أطباء، ومن بينهم أحد الذين أنقذوا حياة نافالني في أغسطس 2020 في مستشفى أومسك، إلى أن تشخيص تجلط الدم، المطروح بشكل غير رسمي، لا يمكن إثباته إلا بعد تشريح الجثة ويشير آخرون، سواء كانوا أطباء أو مدافعين عن حقوق الإنسان، إلى أن هذا التشخيص متعدد الأغراض، وأن إدارة السجن تستخدمه بشكل مفرط ومضلل في بعض الأحيان.
من جانبها قالت صحيفة "لوفيجارو" إنه بالنسبة لمؤيدي أليكسي نافالني، وكذلك للقادة الغربيين الذين أعربوا عن تعاطفهم وغضبهم، فإن مسئولية "نظام الكرملين" - استخدم إيمانويل ماكرون هذا التعبير يوم الجمعة خلال مؤتمره الصحفي إلى جانب فولوديمير زيلينسكي - مؤكدة بدون شك.
ومنذ عودته إلى روسيا في يناير 2021، كان تراكم أحكام السجن -آخرها تسعة عشر عاما- ضده يشبه الحكم عليه بالسجن مدى الحياة. وتم تنظيم عزله حتى نقله، في ديسمبر 2023، إلى سجن في القطب الشمالي، وتم سجن ثلاثة من محاميه في الأشهر الأخيرة، بزعم نشر رسائل نافالني المتفائلة والمتحدية التي استمرت في تغذية شبكاته الاجتماعية.
ومن بين 1126 يومًا قضاها رهن الاحتجاز منذ يناير 2021، قضى ثلثها في الحبس الانفرادي العقابي، بين جدران السجن الجليدية أو الخانقة وربما أثرت ظروف السجن على صحة المعارض ولكن لن ينبئنا أي تحقيق جدي عن ذلك.
وسخر أنصار السلطات الروسية من هذه الادعاءات يوم الجمعة، حيث قدروا أن وفاة نافالني، قبل شهر واحد من الانتخابات الرئاسية التي يتوقع أن يفوز بها فلاديمير بوتين، "لا تفيد" السلطة - وهي نفس الحجة التي استخدمت وقت حادثة تسميمه من جانب "المخابرات الغربية" لإلقاء اللوم على "السلطة" واتخذ رئيس مجلس الدوما فياتشيسلاف فولودين، هذا الموقف حيث كتب على حسابه على "تلجرام" "واشنطن وبروكسل مذنبان بوفاة نافالني" وذلك على أساس أن هذه الوفاة ستكون "مربحة" لهما.
وتمسك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي لم يتحدث قط علانية عن نافالني، بموقفه وبعد إبلاغه بوفاة السجين، يوم الجمعة، مضى قدمًا في اجتماع مخطط له مع عمال تشيليابينسك، وتحدث لمدة خمس وأربعين دقيقة دون إثارة الموضوع، وفي المساء قامت محطات التلفزيون بوضع الأخبار في نهاية نشراتها الإخبارية.
واعتبرت صحيفة "لوموند" أن الإرث الذي تركه المعارض هو نجاحه في إعادة الثقة في السياسة، من خلال دقته ونزاهته إلى الآلاف من المواطنين الروس الذين انضموا إلى صفوف حركاته المختلفة الذين فشلوا في التعبير عن أنفسهم أثناء الانتخابات.
وأفردت صحيفة "لوفيجارو" الفرنسية أكثر من مقال لها في عددها الصادر اليوم حول وفاة نافالني فجاءت افتتاحيتها بعنوان "أليكسي نافالني، أيقونة الحرية" والتي قالت فيها إن الغرب يعتبر بالفعل أليكسي نافالني رمزا للحرية.
كانت رسالة نافالني قبل الأخيرة، التي نُشرت في أوائل فبراير على إنستجرام من خلال محاميه، موجهة إلى الشعب الروسي الذي دعاه إلى "الدخول في حملة" ضد بوتين.
بدورها نشرت صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية مقالا بعنوان "أليكسي نافالني مات من أجل الحقيقة" تناولت فيه حياته السياسية وجهوده مكافحة الفساد، إلى حد زعزعة السلطة في أوائل عام 2010.
وقالت أنه "منذ ظهوره على الساحة السياسية في مطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تمسك أليكسي نافالني بشعار بسيط وفعالً "أنا لست خائفًا" - وكان هذا هو سلاحه الرئيسي.
في عام 2013، حقق أليكسي نافالني اختراقًا سياسيًا حقيقيًا. وفي استطلاعات الرأي لم يصل إلى نسبة تأييد 5% على المستوى الاتحادي؛ فهو ممنوع من الظهور على أجهزة التلفزيون، ولا يُذكر اسمه إلا في سياق الموضوعات الدعائية التشهيرية، مما يقلل بشكل كبير من فرص أن يصبح معروفًا خارج الدوائر المطلعة في سبتمبر، في الانتخابات البلدية في موسكو، على الرغم من الصعوبات، فاز نافالني مع ذلك بنسبة 27.24% من الأصوات ضد رئيس البلدية المنتهية ولايته سيرجي سوبيانين، ومع اقتراب الجولة الثانية، زادت القضايا المرفوعة ضده مما جعل المعارض غير مؤهل للترشح. وفي يوليو 2012، اتُهم بسرقة ما يعادل 377 ألف يورو من شركة غابات كيروفليس. وحكم عليه بالسجن خمس سنوات مع وقف التنفيذ. وفي عام 2016، أمرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان روسيا بدفع 79 ألف يورو له مقابل محاكمة غير عادلة. ألغت المحكمة العليا الروسية الحكم الأول، لكن محاكمة جديدة في العام التالي كررت الإدانة الأولى تمامًا.
في غضون ذلك، أعلن أليكسي نافالني عن ترشحه للانتخابات الرئاسية لعام 2018. وفي 27 ديسمبر 2017، قامت لجنة الانتخابات المركزية بإقصائه نهائيًا من السباق الرئاسي. علاوة على ذلك، لا يزال نافالني محكومًا عليه بعقوبة أخرى. قبل ثلاث سنوات، في عام 2014، أدين مع شقيقه الأصغر أوليج، المالكين المشاركين لشركة لوجستية، بالاختلاس على حساب شركة تابعة للشركة الفرنسية إيف روشيه. تلقى أليكسي عقوبة لمدة ثلاث سنوات ونصف مع وقف التنفيذ، وتم إرسال أوليج إلى السجن لنفس الفترة.
وأضافت صحيبفة "ليبراسيون" أنه رغم منع أليكسي نافالني من المشاركة في الحياة الانتخابية في صناديق الاقتراع، ولكنه لم يتراجع فقد بدأ مشروع "التصويت الذكي" عبر الإنترنت، الذي تم إطلاقه في نهاية عام 2018 لدعم أي مرشح باستثناء المرشح الموجود في السلطة، يؤتي ثماره بسرعة، مما حرم روسيا الموحدة من أغلبيتها التقليدية في العديد من البرلمانات المحلية في عام 2019. وكان التأثير ملموسا وبرز أليكسي نافالني كسياسي حديث على النقيض من السلطات الحالية التي فشلت لسنوات في صياغة رؤية إيجابية لمستقبل البلاد.
في 20 أغسطس 2020، عانى أليكسي نافالني من آلام شديدة على متن طائرة أعادته إلى موسكو من سيبيريا. وتم نقله إلى المستشفى بعد هبوط اضطراري في أومسك، ثم نقل إلى برلين. وسرعان ما أكد علماء السموم الألمان والفرنسيون تعرضه للتسمم بغاز أعصاب لا تعرف طريقة صناعته سوى روسيا.
وبعد نجاته من هذه الحادثة صمم المعارض على العودة إلى روسيا وتقبل مصيره وفي يوم عودته إلى موسكو، في 17 يناير 2021، القي القبض عليه.
كان طموح أليكسي نافالني هو أن يصبح قائدًا لجميع الروس، في "روسيا المستقبل الرائعة"، والتي رأى أنها يمكن أن تصبح القوة الاقتصادية والثقافية الرائدة في أوروبا وآسيا ودولة ديمقراطية ولامركزية.
واختتمت "ليبراسيون" مقالها بمقولة لنافالني في فيلم وثائقي مخصص لحادثة تسميمه "لا تستسلم. لا يمكنك الاستسلام. إذا حدث هذا، فهذا يعني أننا أقوياء بشكل استثنائي الآن، منذ أن قرروا قتلي. […] كل ما يتطلبه الأمر لكي ينتصر الشر هو تقاعس الناس الطيبين. لذلك لا تقف مكتوف الأيدي دون فعل شيئ".
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: موسكو أليكسي نافالني ألیکسی نافالنی وفاة نافالنی یوم الجمعة ینایر 2021 فی عام
إقرأ أيضاً:
الشي الوحيد الذي أصاب ترامب فيه
بالنظر إلى حساسية الموضوع، أجد من المناسب أن أستهلّ هذا المقال بتوضيح تمهيدي.
يعلم القرّاء المتابعون أنني كثيرًا ما عبّرت- من قبل- عن تحفظاتي العميقة تجاه توجهات الرئيس دونالد ترامب، لا سيما فيما يتعلق بنمطه في ممارسة السلطة، والذي يتسم في كثير من الأحيان بالنزعة الانتقامية. ومن هذا المنطلق، أود التأكيد أن مضمون هذا المقال لا ينبغي أن يُفسّر بأي حال من الأحوال على أنه تعبير عن تأييد أو إشادة شخصية.
ومع ذلك، ثمة جانب في نهج ترامب الحاد والعشوائي في تقليص الإنفاق الحكومي أراه، وربما على نحو مفاجئ، منطقيًا إلى حد ما. وهو جانب يستحق أن يؤخذ بعين الاعتبار من قبل قادة الدول ورؤساء الحكومات الآخرين، حتى وإن جاء ذلك متأخرًا.
على امتداد مسيرتي كصحفي استقصائي، وجّهت تركيزي النقدي نحو السلطات التي تتمتع بصلاحيات غير خاضعة للمساءلة وموارد غير محدودة، والمتمثلة فيما يُعرف بـ"أجهزة الاستخبارات"؛ تلك التي نادرًا ما تواجه عواقب ملموسة على أخطائها الجسيمة، أو تجاوزاتها الصارخة الخارجة عن إطار القانون.
وغالبًا ما تخلّف تلك الأخطاء والتجاوزات عواقب إستراتيجية وإنسانية عميقة وطويلة الأمد، ومع ذلك، فإن الجواسيس والمؤسسات الغارقة في السرية التي يعملون ضمنها نادرًا ما تُواجه بالقيود أو المساءلة؛ بل على العكس، كثيرًا ما يُكافَؤُون بتخصيص مزيد من الموارد، بدلًا من محاسبتهم أو كبح جماحهم.
إعلانوعوضًا عن كبح جماح هذه الأجهزة، واصل رؤساء من الحزبين الجمهوري والديمقراطي تغذية آلة الأمن القومي بلا تردد أو توقف.
فلزمن طويل، تصرفت أجهزة الاستخبارات كما لو كانت دولة داخل الدولة، محصّنة من المساءلة بذريعة الحفاظ على الأمن القومي، ومدعومة بتواطؤ إعلامي مستتر. تمارس الكذب دون خشية، وتسرب المعلومات بشكل انتقائي للصحفيين المقرّبين منها حين يخدم ذلك مصالحها، وتدمّر حياة الأفراد تحت ستار "سري للغاية".
أما الرقابة، فلطالما كانت مجرّد نكتة. والمساءلة باتت من نصيب كاشفي الفساد وحدهم، الذين يُلاحَقون ويُزجّ بهم في السجون أو يُنفون، بدلًا من أن يُكافَؤُوا على شجاعتهم.
بطريقته المرتبكة والمتقلبة، يفعل ترامب ما لم يتمكّن أو لم يرغب باراك أوباما وجو بايدن في فعله: إنه يشدّ فرامل الطوارئ لإيقاف قطار منفلت.
ورغم محدودية تمرّده، فإنه يستحق الالتفات إليه، ليس لأنه يمثل مشروع إصلاحٍ مبدئيٍّ، فهو بعيد عن ذلك، بل لأنه، بدافع غريزي أو انتقامي، يضع هيبة مؤسسات طالما كانت بمنأى عن المساءلة أمام اختبار تأخر كثيرًا.
في هذا السياق، وجدتُ في قرار البيت الأبيض الشروعَ في تقليص حجم جهاز الأمن القومي الأميركي المتضخم، خطوةً جديرة بالترحيب، وبداية تحمل في طياتها بوادر واعدة.
ففي أوائل شهر مايو/ أيار، أُعلن عن قرارَين، أرى أنهما أثارا قلقًا ملحوظًا داخل إدارة مكافحة المخدِرات (DEA)، ومكتب التحقيقات الفدرالي (FBI)، ووكالة الاستخبارات المركزية (CIA)، كما استدعى الإعلان ردود فعل هستيرية متوقعة من حلفائهم المقرّبين في وسائل الإعلام، الذين سارعوا إلى التنديد بهذه "التخفيضات" باعتبارها تهديدًا خطيرًا لأمن الولايات المتحدة، وتشجيعًا محتملًا لأعدائها.
تفيد التقارير بأن فريق ترامب يعتزم التقدّم بطلب إلى الكونغرس لتقليص ميزانيات إدارة مكافحة المخدرات (DEA)، ومكتب التحقيقات الفدرالي (FBI)، ومكاتب إنفاذ القانون التابعة لوزارة العدل، بمقدار 585 مليون دولار في عام 2026.
إعلانأما التحذيرات التي صدرت- وكأنها نذر لنهاية العالم- فهي لا تقل عبثية عن الدمى المتحركة التي أطلقتها، خاصة أن هذه الوكالات ستظل تحتفظ بنصيب وافر من مليارات الدولارات المخصصة لها لمواصلة "مكافحة" الجريمة والإرهاب، سواء على الصعيد المحلي أو الدولي.
ورغم محدودية هذا التقليص، فإنه يُعد إشارة إيجابية على أنّ وتيرة الزيادات السنوية الروتينية في الميزانيات قد تكون وصلت أخيرًا إلى منعطفٍ حاسمٍ.
ينبغي لرجال ونساء مكتب التحقيقات الفدرالي أن يشعروا بالامتنان؛ لأن هذه التخفيضات لم تكن أوسع نطاقًا وأشد عمقًا، خاصة في ضوء قناعة ترامب بأن المكتب كان سببًا رئيسيًا في العديد من الأزمات القانونية الكبيرة التي واجهها، قبل أن تقرر المحكمة العليا المنقسمة منحه حصانة شبه كاملة من الملاحقة القضائية.
ورغم أن دوافع هذا التقليص قد تكون ضيقة الأفق ومحدودة النطاق، فإن خفض ميزانية المكتب، التي طالما اتسمت بالتضخم، يمثل خطوة أولى ضرورية طال انتظارها على طريق كبح البيروقراطية الأمنية المتفشية في الولايات المتحدة.
وفي هذا المسار الذي يُنذر بتحول واعد، يعتزم ترامب وفريقه تقليص آلاف الوظائف ضمن ما يُعرف بـ"مجتمع الاستخبارات" الأميركي المتوسع، بما في ذلك إلغاء نحو 1200 وظيفة في وكالة الاستخبارات المركزية خلال السنوات المقبلة.
وكما كان متوقعًا، قُوبلت هذه الأنباء بعاصفة من العويل الهستيري، خصوصًا من قِبل الديمقراطيين وبعض أعضاء "مجتمع الاستخبارات" السابقين، الذين تملأ وجوههم الشاشات الأميركية بوصفهم "خبراء" أو "مستشارين" في الأمن القومي، ويحظون غالبًا بمعاملة مفرطة في الاحترام من قبل مقدمي البرامج في شبكتي CNN وMSNBC.
المفارقة اللافتة أن الديمقراطيين في الكونغرس كانوا، في وقت مضى، يتولّون رئاسة جلسات استماع كشفت بوضوح عن ازدراء "مجتمع الاستخبارات" الصارخ للدستور الأميركي وللحقوق التي يُفترض أنها مصونة ومقدسة.
إعلانأما تلك الحقبة من المسؤولية والمساءلة، فقد أصبحت جزءًا من الماضي، ولن تعود على ما يبدو.
الديمقراطيون المتحفظون، إلى جانب الصحفيين الذين يُعرفون بانتمائهم إلى التيار "التقدمي" ويملؤون شبكات الأخبار وصفحات الرأي في نيويورك تايمز وواشنطن بوست، باتوا اليوم يدافعون عن أجهزة الاستخبارات ومهامها "الأساسية"، في مواجهة رئيس يتبنى مقاربة غير تقليدية تهدف إلى فرض قيود طال انتظارها على وكالة الاستخبارات المركزية.
يا لها من مفارقة تُجسد كيف تغيرت الأزمنة وتبدّلت المواقف!
من اللافت أن بعض النخب الليبرالية، التي باتت تتجاهل إرثًا طويلًا من الانتهاكات، ربما تحتاج إلى تذكير بأن وكالة الاستخبارات الأميركية دأبت على تضليل السياسيين والصحفيين ضمن ما يشبه نهجًا مؤسسيًا معتادًا. لقد قوضت ديمقراطيات في الخارج، ولا تزال مؤامراتها السرية، الملطخة بالدماء، حاضرة في الذاكرة الجماعية، من سانتياغو إلى غواتيمالا سيتي وما بعدها.
ومن المؤسف أن نشهد بعض الشخصيات الديمقراطية المخضرمة- ممن أمضوا سنوات إدارة بوش وهم ينددون بالتنصت غير المشروع ومواقع الاحتجاز السرية- وقد باتوا اليوم يتعاملون بردود فعل مبالغ فيها لمجرد طرح فكرة مفادها أن وكالة الاستخبارات وأجهزتها الشريكة قد تجاوزت حدود القوة المعقولة، وأصبحت تتصرف بغطرسة وخطورة تستدعي التوقف والتقييم.
أما مكتب التحقيقات الفدرالي- ذاك الذي لا يزال يُعامل كمؤسسة شبه مقدسة تحمل إرث إدغار هوفر- فيا للعجب!
فهؤلاء العملاء المحترمون ذوو الياقات المشدودة هم أنفسهم من سعوا إلى تقويض سمعة مارتن لوثر كينغ الابن، وتسللوا إلى حركات السلام، وأطلقوا حملات مراقبة جماعية بحق المسلمين بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول.
أما الأصوات الإعلامية التي تدافع عنه بإصرار، فيبدو أنها تغض الطرف عن حقيقة جلية: أن المكانة التي يتمتع بها المكتب اليوم لم تترسخ إلا عندما بات تصويره كخط دفاع في مواجهة الترامبية يخدم مصالح سياسية بعينها.
إعلانهذا هو التناقض الجوهري في سلوك المؤسسة الليبرالية: فهي تُظهر تفضيلًا واضحًا للنظام على حساب العدالة، وللسلطة على حساب الحقيقة. طالما أن "الأشخاص المناسبين" هم من يملكون أدوات القمع والمراقبة، فإنها لا تتردد في الهتاف دعمًا لهم.
أما في أوتاوا ولندن وكانبيرا، فغالبًا ما نجد أن السياسيين القادمين تحت شعارات الشفافية والإصلاح، سرعان ما ينصاعون لمنطق السلطة بمجرد دخولهم دهاليز الحكم. يبدؤون بترديد الإيجازات الأمنية، وتكرار المصطلحات التقنية، وتبرير أساليب المراقبة، وكأنهم ابتلعوا اللغة والمنهج. فالمنظومة أكبر من أن تُواجه، غامضة إلى حد الإرباك، ومتجذّرة بعمق يصعب اقتلاعه.
ورغم عيوبه الصارخة ومظاهر سلوكه المثيرة للجدل، فإن ترامب في هذه الحالة تحديدًا كسر أحد التابوهات الراسخة في النظام السياسي.
إن كبح جماح الأجهزة الأمنية وأدوات المراقبة ليس أمرًا مستحيلًا، لكنه يتطلب إرادة حقيقية، وحسمًا في الموقف، وإدراكًا بأن سلطتها تستند إلى مجموعة من الأساطير: أسطورة الضرورة، وأسطورة الاستمرارية، وخرافة أن تلك السلطة أمر طبيعي أو حتمي.
هذه الأساطير قابلة للتفكيك، ويجب تحديها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline