علي بن سالم كفيتان

هل غيَّر التوجه الاقتصادي الجديد قناعات الماضي بأن تصل التنمية مهما كانت تكلفتها إلى المناطق البعيدة وإلى الحلل والقرى والواحات والأرياف والمناطق الحدودية؟ وأن يُحافظ على هذا التواجد في كل ربوع عُمان، وذلك من مُنطلقات عدة؛ أبرزها: رفع مستوى الرفاه للإنسان أينما وُجِد في هذا الوطن، وترسيخ وجود العُمانيين في كل شبر من أرض عُمان، لحماية الأمن والسلم الاجتماعي، وعدم منح مساحات يُمكن أن يتحرك فيها العابثون.

وقد يغفل بعض المُخطِّطِين المُنكبِّين على حساب التكلفة المالية، عن أهمية وجود الإنسان وعن التكاليف غير المباشرة؛ ففي حال هجرة السكان لحللهم وقراهم وأريافهم وانتقالهم إلى البوابات الكبرى، ستكون هناك تبعات تفوق توفير بضعة آلاف من الريالات، وهي قيمة نقل الطلبة مثلًا؛ كونها لا تتطابق مع المعيار المالي المُجرَّد المُطبَّق في المدن، إضافة إلى إعادة النظر في جدوى بعض المدارس، مُقارنة بعدد طلابها؛ مما قد يقود تدريجيًا إلى غلق تلك المدارس، وهذا يعني دفع السكان إلى الانتقال أو العودة لمجتمع الحقل ورعي الماشية، ومن ثم عودة الأمية والبطالة في هذه المجتمعات التي تمسَّكت ببقائها في مناطق أصبحت غير جاذبة للعيش، وهذا بدوره ربما يقود لوقوع جرائم أو الانزلاق إلى مستنقع الأفكار غير السوية، فهل نحن مدركون لهذه التكاليف على المدى البعيد والمتوسط؟!

والثورة المحاسبية التي اكتشفناها مؤخرًا تقود الى الضبط المالي الصارم لكل شيء تقريبًا، لكنها تغفل جوانب أخرى قد تؤدي لانهيار كل ما جمعنا في أبواب أخرى تم إغفال حسابها ضمن دراسة الجدوى المحاسبية تلك. وهنا نُورِد أمثلة لتقريب الأفكار؛ إذ قبل فترة تواصل معي رجل لا تربطني به صلة من قبل، من قرية بلد سيت بوادي بني عوف التابعة لولاية الرستاق، بعد أن كتبتُ مقالًا عن زيارتي للقرية الحالمة في مطلع تسعينيات القرن الماضي برفقة رجل إنجليزي واصفًا طبيعة أهلها وكرمهم وتمسكهم بحقولهم في قلب ذلك الجبل الرمادي الشاحب، ووصفتُ بلد سيت بقلب أخضر صغير ينبض في جسد ذلك الجبل القاسي الذي لا تكاد ترى فيه علامة للحياة. أذكرُ أنَّ المتصل هنأني على هذا المقال واشتكى لي من انتقال أهل القرية إلى مدن الساحل المفعمة بالتنمية والخدمات، وتراجع الاهتمام بالحقول مع رحيل الشُيّاب الأولين، وتقلُّص أعداد الطلبة لأسباب كثيرة؛ أبرزها: وعورة الطريق، وضعف الخدمات. فكيف لنا اليوم أن نقارن تكلفة نقل الطلبة في هذه الواحة النادرة مع مدن كبرى مثل مسقط أو صحار؟ ونقرر جدوى التعليم من عدمه من الناحية المحاسبية البحتة. لا ريب أن هذا يُعد ظلمًا عظيمًا لكل التضحيات التي بذلها الأجداد لإبقاء نبض الحياة في هذا الطرف القصي من عُمان.

الأمر ذاته وصلني من أهالي قرية "دهق" الرابضة على سفح جبل القمر، بولاية ضلكوت في محافظة ظفار، بالقرب من الحدود مع اليمن، عندما أُغلقت مدرستهم قبل عام للأسباب المحاسبية ذاتها، رغم أن الأهمية الأمنية للولاية والانتقال الكبير لسكانها إلى ولاية صلالة حتى المتبقين الذين أصروا على التمسُّك بقُراهم أجبرتهم الحسبة الاقتصادية على الانتقال؛ فالمدرسة لم تعد ذات جدوى اقتصادية. لكن متى كان بناء المدارس والنهوض بالتعليم يُقاس بمسطرة الربح والخسارة؟! لهذا يجب إعادة النظر في مثل هذه الإجراءات وقياس تبعاتها من كل الجوانب وليس فقط من الناحية المالية، وخاصة في الحلل والقرى والأرياف والمناطق الحدودية، التي تتمتع بحساسية عالية، وتُشكِّل هجرة أهلها خسارةً كبيرة لكل ما تم بناؤه منذ نصف قرن، وجعل عُمان أيقونة التفرد بصمود الإنسان في بيئته، حتى أصبحت تلك القرى والحلل الصغيرة مزارات سياحية نُفاخر بها دول العالم.

لم أكن مُتفِقًا مع إلغاء نيابات ومراكز إدارية في جبال ظفار، وفقًا لذات الحسبة الاقتصادية البحتة، وإغفال الجوانب الأخرى المُهمة، التي كانت تُشكِّلُها، ووردني هذا الأسبوع اتصال من أهالي منطقة "ألسان" حول نقل عدد من أبنائهم من مدارسهم في الريف إلى المدينة، على أساس بعد وقرب المدارس عن سكنهم، والتوفير في وسائل النقل، وفق حسبة عدد الكراسي مع عدد الطلبة في كل حافلة، وقد لا يعلم من دعم هذا القرار أن سكان أرياف ظفار ينتقل معظمهم في الخريف إلى السهول وخاصة مربو الإبل والأغنام، ويعودون إلى الأرياف بعد انحسار الموسم الماطر، وقد تكون لهم مساكن في السهل والجبل؛ نظرًا لحركة ترحالهم الدورية مع مواشيهم منذ الأزل. هؤلاء الطلبة لم يذهبوا للمدارس حتى اليوم، ولم توافق مدرستهم الأم "ألسان" على استقبالهم؛ كونهم نُقلوا إلى مدارس المدينة. فمن المسؤول عن تعطيل تعليم هؤلاء الطلبة لأكثر من شهر واستمرار محنتهم؟ هل عُدمت الحلول وغابت المرونة لصالح المال؟

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

ضمن فعاليات المنتدى الأول للصحة والحج.. فريق نسائي سعودي يبتكر حلولاً ذكية لإدارة الحشود

البلاد ــ مكة المكرمة
حصد فريق نسائي سعودي المركز الأول في هاكاثون منتدى الصحة والأمن في الحج 2025، عن مسار ابتكار الحلول الذكية لإدارة الحشود والرعاية الصحية. ويأتي هذا التتويج ضمن فعاليات المنتدى الأول للصحة والحج، الذي نظمه مستشفى قوى الأمن بمكة المكرمة بالتعاون مع الإدارة العامة للخدمات الطبية بوزارة الداخلية.
وقد ابتكر الفريق، تحت اسم “رقّيم”، مشروعًا رقميًّا يُعنى بحوكمة بيانات الحج وتحليل البيانات الضخمة متعددة المصادر، بدعم من تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي. ويسهم المشروع في تمكين الجهات المعنية من التنبؤ بالمخاطر واتخاذ قرارات استباقية عبر محاكاة سيناريوهات متعددة، بما يتماشى مع مستهدفات رؤية المملكة 2030 نحو التحول الرقمي وتعزيز جودة الخدمات المقدمة لضيوف الرحمن.
ويقدم مشروع “رقّيم” نموذج توأم رقمي متكامل، يتيح حوكمة وتحليل البيانات المتعلقة بالحج، مع تقديم حلول ذكية ومستدامة تسهم في تحسين جودة الخدمات ورفع معايير الأمن والسلامة، في إطار رؤية وطنية طموحة لتمكين التقنية في خدمة ضيوف الرحمن.
ويُعدّ هذا الإنجاز تجسيدًا ملموسًا لقدرات الشباب السعودي في تسخير التقنيات الحديثة لخدمة القطاعات الحيوية، وترسيخًا لمكانة المملكة كمركز رائد في الابتكار والتحول الرقمي.
واللافت أن فريق “رقّيم” حقق هذا الإنجاز للعام الثاني على التوالي، ويتكوّن من نخبة من الكفاءات النسائية السعودية:الدكتورة هوازن بدوي: أستاذ مساعد في الذكاء الاصطناعي التطبيقي بجامعة أم القرى، وأول سعودية متخصصة في التوائم الرقمية للإنسان والمدن الذكية،مرام آل رمان: متخصصة في الذكاء الاصطناعي – جامعة أم القرى، ومتدربة في مركز معلومات الحج والعمرة بشركة “علم”،مرام الشهري: تعمل بمكتب إدارة المشاريع الرقمية بشركة “علم” – مركز معلومات الحج والعمرة،رواف الفرشوطي،متخصصة في التصميم الداخلي والنمذجة ثلاثية الأبعاد،ريماس اللهيبي: متخصصة في الذكاء الاصطناعي – جامعة أم القرى، ومتدربة بوزارة الحج والعمرة،ربى الغامدي: أخصائية التحول الرقمي وتجربة المستخدم بهيئة تطوير منطقة مكة المكرمة.

مقالات مشابهة

  • أطباء الإمارات تطلق المرحلة الثانية لمشروع قسطرة القلب المتنقلة في القرى المصرية
  • ضمن فعاليات المنتدى الأول للصحة والحج.. فريق نسائي سعودي يبتكر حلولاً ذكية لإدارة الحشود
  • المدارس الحكومية تبدأ مراجعات شاملة لمقررات امتحانات نهاية العام
  • ????هل تصالح المجتمع مع المتعاونين..؟
  • كيف تسهم عودة الكفاءات من مسقط في إحياء القرى العُمانية؟
  • أوسيمين يوافق على عرض الهلال
  • تكليف “المعيقلي” بإلقاء خطبة عيد الأضحى المبارك بالمسجد الحرام
  • «المداواة» تقر الانتقال من السوق الموازية إلى السوق الرئيسية «تاسي»
  • العميد العايش لـ سانا: تم التوافق أيضاً على السعي لحل المشاكل العالقة في ملف الامتحانات والمراكز الامتحانية، بما يضمن حقوق الطلبة وسلامة العملية التربوية، كما تم بحث آليات تسهيل عودة المهجّرين إلى مناطقهم، والعمل على إزالة المعوقات التي تعيق هذه العودة
  • محافظ البحيرة تتفقد الوحدات الصحية بـ «ديبي وإدفينا» لمتابعة مستوى الخدمات الطبية المقدمة للمرضى