المنصات الرقمية للتمويل الأصغر الإسلامي وإعادة إعمار غزة
تاريخ النشر: 22nd, October 2025 GMT
شهدت الأيام القليلة الماضية انتهاء الحرب على غزة بعد عامين من العدوان الذي لم يُبقِ حجرا على حجر، تاركة وراءها جراحا عميقة ودمارا شاملا طال كل جوانب الحياة. ومع انقشاع دخان الحرب، ووقف أصوات القصف التي كانت تملأ السماء، برزت مهمة أخرى لا تقل صعوبة ولا قدسية: مهمة إعادة الإعمار وبناء الحياة من جديد. لقد طويت صفحة الحرب -وإن لم تُنسَ فلها ما بعدها- لتُفتح صفحة أخرى عنوانها الصمود والإعمار، إعمار الإنسان الذي أنهكه العدوان وإعمار البنيان الذي هدمه الاحتلال.
وإذا كان وقف الحرب في غزة تم في التاسع من تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، فإنه قبل ذلك التاريخ بأقل من أسبوعين وفقني الله تعالى وفريق عمل مجتهد لتنظيم مؤتمر عن "إعادة الإعمار في الاقتصاد الإسلامي بين التراث والمعاصرة" في جامعة إسطنبول صباح الدين زعيم التركية، شارك فيه أكثر من خمسين عالما وباحثا، وكان محور المؤتمر إعادة إعمار غزة التي ابتليت فصبرت وضربت أروع الأمثلة في الثبات والرباط في ظل محيط عالمي ما بين متآمر ومتخاذل.
إنه حتى منتصف تشرين الأول/ أكتوبر 2025 بلغ عدد الشهداء نحو 67،938 شهيدا، بينما تجاوز عدد الجرحى 170 ألفا، وتحوّل أكثر من 1.9 مليون فلسطيني إلى نازحين داخليين، يشكّلون ما يقارب 90 في المئة من سكان القطاع. وقد أعلنت الأمم المتحدة رسميا المجاعة في قطاع غزة في الثاني والعشرين من آب/ أغسطس 2025، بعد أن سجّلت منظمة الصحة العالمية وفاة 361 شخصا، بينهم 130 طفلا، بسبب سوء التغذية ونقص الدواء والماء.
وفي خضم هذه المأساة، دُمّر أكثر من سبعين ألف مبنى بالكامل وتضرّر أكثر من 120 ألفا بدرجات متفاوتة، وأُصيبت أكثر من 91 في المئة من المدارس بأضرار جسيمة، فيما يعمل اليوم فقط قرابة 14 مستشفى من أصل 36. أما الخسائر الاقتصادية فتُقدّر وفق التقارير الأممية والبنك الدولي بنحو 52 إلى 70 مليار دولار، وفي رأينا أنها تتجاوز المائة مليار دولار، وهي أرقام تعكس حجم المأساة وضخامة التحدي الذي يواجه غزة في رحلة إعادة الإعمار.
وأمام هذا الواقع، فإن المساعدات الطارئة لا يمكنها أن تفي باحتياجات السكان، فما هي إلا أمور إسعافية، ومن ثم تبدو أهمية التخطيط للانتقال من الإغاثة إلى التمكين، ومن الاعتماد على المساعدات إلى بناء اقتصاد قادر على النهوض الذاتي. وهنا يبرز دور التمويل الأصغر الإسلامي كخيار عملي وإنساني للمساهمة في تحقيق هذه الغاية. فالتمويل الأصغر الإسلامي ليس مجرد وسيلة مالية، بل هو رؤية حضارية متكاملة تستمد روحها من مقاصد الشريعة الإسلامية التي تجعل من المال وسيلة للإعمار لا وسيلة للاستغلال.
ويقوم هذا التمويل على صيغٍ شرعية غير ربحية (خيرية) وأخرى ربحية ولكنها بربحية متواضعة لاستدامة التمويل، وما يهمنا في وضع غزة هو الصيغ التمويلية الخيرية من زكاة وصدقات وقرض حسن، وتوجيه ذلك التمويل نحو المشروعات الصغرى التي لا يتجاوز عدد العاملين فيها أربعة أشخاص، بهدف تحويل الأسر المتضررة إلى أسر منتجة، تُسهم في الاقتصاد المحلي وتحقق الاستكفاء لنفسها، بل وتمد يدها بالخير لمن حولها.
ومع التحول الرقمي الهائل الذي يشهده العالم، باتت المنصات الرقمية للتمويل الجماعي (Crowdfunding) تمثل ثورة في جمع الموارد واستخدامها. وهذه المنصات، حين تلتزم بضوابط الشريعة الإسلامية وتُدار برؤية تنموية، يمكن أن تصبح أداة فاعلة في إعادة إعمار غزة عبر تعبئة التمويل الشعبي من مختلف أنحاء العالم الإسلامي. فبضغطة زر، يستطيع أي مسلم أو مؤسسة خيرية المشاركة في تمويل مشروع أصغر في غزة، من زكاته أو صدقاته، ضمن منظومة رقمية شفافة تُعرض فيها المشاريع وتقاريرها وأثرها الإنساني والاقتصادي في الوقت نفسه.
وتقوم المنصة الإسلامية المقترحة على ثلاثة أسس رئيسة؛ أولها: المصداقية الشرعية التي تضمن أن التمويل يتم وفق الأحكام الإسلامية، وثانيها: الكفاءة الاقتصادية التي تربط المشروعات الصغرى في سلاسل إنتاجية متكاملة، وثالثها: الكفاءة الاجتماعية التي تعزز مبدأ التكافل والتوازن داخل المجتمع. كما تضم المنصة خمسة أطراف: الممولين من الأفراد والمؤسسات، والمستفيدين من أصحاب المشروعات الصغرى، والمنصة نفسها التي تربط الطرفين، ورقابة مالية وشرعية لضمان الشفافية، فضلا عن الرعاة الذين يقدّمون الدعم التقني والإعلامي والتسويقي.
وتتميّز المنصة باعتمادها على التحول الرقمي الكامل، من إدارة البيانات والتحليل إلى تنفيذ التمويل ومتابعة الأداء. كما يمكنها استخدام العملات الرقمية المشفرة الملتزمة بالضوابط الشرعية لتجاوز الحصار المالي، وتسخير الذكاء الاصطناعي في تقييم المشاريع واختيار الأنسب من حيث الجدوى والأثر الاجتماعي. ومن خلال هذه الآلية، يتحوّل التمويل من جهد موسمي إلى منظومة تنموية دائمة تسهم في بناء اقتصاد مقاوم، يستمد قوته من المجتمع.
ومع أهمية هذه المنصة فإنه لا يمكن أن نتجاهل ما تواجهه من تحديات سياسية وقانونية وفنية، لكنها في جوهرها تجسّد الاقتصاد المقاوم الذي يقوم على الاعتماد الذاتي والإنتاج المحلي والتعاون المجتمعي، ويحوّل المعاناة إلى طاقة بناء. فالإعمار لا يقتصر على إعادة الجدران، بل يبدأ بإحياء الإنسان نفسه، وتأهيله ليكون شريكا في التنمية وصانعا لمستقبله. ومن هنا، فإن نجاح هذه المنصة يتطلب إطلاق برامج تدريبية لريادة الأعمال والتقنية المالية داخل غزة، وتمكين الشباب والنساء من اكتساب مهارات العمل والإدارة والإنتاج.
إن المنصة الرقمية للتمويل الأصغر الإسلامي ليست مجرد مشروع مالي أو تقني، بل هي مشروع حضاري يجمع بين العلم والإيمان، بين الفقه والاقتصاد، بين التقنية والإنسان. إنها تجسيد لمبدأ "وتعاونوا على البر والتقوى"، وتحويل عملي لفكرة الاقتصاد الإسلامي إلى واقع رقمي حيّ يسهم في نهضة الأمة. ومن خلال هذه المنصات، يمكن لكل شخص في العالم أن يكون شريكا في إعمار غزة بضغطة زر، ليصبح التمويل الشعبي المتناثر طاقة جماعية تزرع الحياة من جديد.
إن انتهاء الحرب لا يعني نهاية المعاناة، لكنه يعني بداية الطريق نحو الأمل. ومن بين الركام ينهض الإنسان الفلسطيني حاملا معوله وإيمانه، ليثبت للعالم أن غزة لا تُهزم، وأن الإعمار الحقيقي يبدأ من داخل الإنسان قبل أن يمتد إلى الجدران. وهكذا تتحول المنصات الرقمية الإسلامية إلى جسرٍ بين التقنية والرحمة، بين المال والمقاصد الشرعية، بين الأمة وأهلها في فلسطين، لتكتب فصلا جديدا من فصول الصمود والثبات والبناء والكرامة.
x.com/drdawaba
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء غزة الإعمار التمويل المنصات غزة تمويل إعمار منصات قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الأصغر الإسلامی إعمار غزة أکثر من
إقرأ أيضاً:
مسؤول فلسطيني لـعربي21: نُعدّ خططا شاملة للتعافي وإعادة إعمار غزة
قال مدير عام دائرة حقوق الإنسان والمجتمع المدني في منظمة التحرير الفلسطينية، قاسم عواد، إن "السلطة تعمل على إعداد خطط فنية وقانونية شاملة لمرحلة التعافي وإعادة إعمار قطاع غزة، بالتنسيق مع شركاء دوليين وإقليميين"، مؤكدا أن الإعمار المنشود "لن يقتصر على إعادة بناء ما تهدّم، بل سيستند إلى رؤية تنموية شاملة تضمن سيادة القرار الفلسطيني، وتعيد الحياة والكرامة للمواطنين عبر مشاريع مستدامة تشمل البنية التحتية والاقتصاد المحلي والخدمات الحيوية".
وأضاف عواد، في مقابلة خاصة مع "عربي21"، أن "الوضع الإنساني في قطاع غزة لا يزال كارثياً وهشّا رغم توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في شرم الشيخ"، موضحاً أن الاتفاق "حدّ من بعض أشكال القصف المباشر، لكنه لم ينهِ الأزمة أو يعِد الخدمات الأساسية للسكان".
وشدّد مدير عام دائرة حقوق الإنسان والمجتمع المدني في منظمة التحرير الفلسطينية، على أن "أي تحسّن مؤقت يظل هشّا ومرهونا بفتح كامل للمعابر ووصول المساعدات والوقود وإعادة تشغيل البنية التحتية المنهارة".
وأشار إلى أن الاحتلال الإسرائيلي "لم يلتزم فعليا ببنود اتفاق وقف إطلاق النار"، مؤكدا أن ما يجري على الأرض "هو استمرار للإغلاقات والقيود والحرمان من المساعدات، وهو ما يُبقي حياة المدنيين رهينة التجويع والعقاب الجماعي"، مُحذرا من أن "قرار إغلاق معظم المعابر حتى إشعار آخر يُشكّل تهديدا مباشرا لحياة أكثر من مليوني إنسان، وقد يعيد بسرعة مشاهد المجاعة في مناطق واسعة من القطاع".
وأكد عواد أن التباين في الموقف الدولي من القضايا الإنسانية "يعكس خللا عميقا في ميزان العدالة"، متسائلا: "كيف يتحرك العالم بسرعة غير مسبوقة لاستعادة جثث الأسرى الإسرائيليين، بينما تُحتجز آلاف جثامين الشهداء الفلسطينيين في صمت رهيب؟"، لافتا إلى أن "الكرامة الإنسانية لا تتجزأ، وأي تعامل مهين مع جثامين الشهداء، مهما كانت هويتهم، يُعد جريمة حرب وانتهاكا صارخا للقانون الدولي الإنساني".
وتاليا نص المقابلة الخاصة مع "عربي21":
كيف تقيّمون الوضع الإنساني في قطاع غزة بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في شرم الشيخ؟ وهل هناك مؤشرات على تحسن ملموس في حياة المدنيين؟
أقيّم الوضع الإنساني في غزة بأنه لا يزال كارثيا وهشّا. وقف إطلاق النار حدّ من بعض أشكال القصف المباشر، لكنه لم ينهِ الأزمة أو يعيد الخدمات الأساسية. الحصيلة البشرية تراكمت لتصل إلى 68,216 شهيدا و170,361 حالة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وحتى الآن، بينما التدمير الممنهج طال أكثر من 80% من البنى المدنية (منازل، مدارس، مستشفيات).
هذه المعطيات تعني أن أي تحسّن مؤقت هش ومرهون بفتح كامل المعابر، وصول كميات كافية من الوقود والمواد الطبية والغذائية، وإعادة تشغيل البنى الأساسية. باختصار: لا تحسّن ملموس ومستدام طالما بقيت القيود على المساعدات وخدمات البنية التحتية مُدمّرة.
إلى أي مدى التزمت إسرائيل ببنود الاتفاق من حيث السماح بدخول المساعدات الإنسانية والإغاثية إلى جميع مناطق قطاع غزة؟
الالتزام شبه معدوم أو مشروط للغاية، بينما وُعد بزيادة تدفّق المساعدات، التطبيق العملي كان مقطوعا بإغلاقات متكررة للمعابر وشروط تفتيش وقيود على الوصول للمناطق المحاصرة. لذا، كانت النتيجة هي وصول محدود وغير عادل للمساعدات، وهذا ما يفسر استمرار حالات المجاعة والصعوبات في التوزيع رغم اتفاق التهدئة.
ما أبرز الخروقات الإسرائيلية التي رصدتموها منذ إعلان وقف إطلاق النار؟
أبرز الخروقات التي رصدناها: استهداف مناطق سكنية وتجهيزات مدنية، غارات موضعية، استمرار إغلاق المعابر ووقف إدخال المواد الحيوية، ومواصلة الاعتقالات واحتجاز الجثامين.
هل قمتم بتوثيق تلك الخروقات الإسرائيلية؟ وكم عددها الإجمالي حتى الآن؟
التوثيق جارٍ وممنهج. دائرة حقوق الإنسان جمّعت شهادات ميدانية، وقوائم شهداء ومصابين، وملفات مرفقة بالأماكن والتواريخ، كما تم التنسيق مع جهات طبية ومحلية ودولية لحفظ الأدلة.
الأرقام التفصيلية لكل اختراق تُعرض في الملاحق التوثيقية؛ لكن واقعيا الخروقات مستمرة ومتعددة يوميا ولا يمكن اختزالها في رقم واحد دون تحديث ميداني متواصل.
ما تقييمكم لموقف الوسطاء والدول الضامنة لاتفاق وقف إطلاق النار من الخروقات الإسرائيلية؟
الوسطاء والدول الضامنة أبدوا اهتماما ودخلوا على خط الدبلوماسية لاحتواء التوتر، لكن الضغط الحقيقي لفرض التنفيذ الكامل كان محدودا. التحركات الدبلوماسية غالبا ردّ فعلية، وتفتقر إلى آليات رقابية ورادعة تضمن التنفيذ الفوري. نرى تفاوتا في الإرادات؛ فهناك بعض الأطراف تضغط بجدية، وأخرى تبقى مكتوفة اليدين أو تقدم وعودا لم تُترجم عمليا.
كيف ترى قرار حكومة الاحتلال بإغلاق معظم معابر قطاع غزة حتى إشعار آخر؟ وهل من المحتمل أن تعود حالة المجاعة في غزة بعد قرار إسرائيل وقف إدخال المساعدات؟
قرار الإغلاق مرفوض تماما ومُجرّم إنسانيا، لأنه يُشكّل تهديدا مباشرا لحياة المدنيين، ويقود بسرعة إلى تدهور حاد في الأمن الغذائي داخل القطاع. إن منع دخول المساعدات والمواد الأساسية في ظل مستويات التخزين المنخفضة والدمار الواسع الذي طال البنية التحتية، يعني أن أي تكرار أو استمرار لهذا الإغلاق سيعيد، وبصورة سريعة، مشاهد المجاعة التي عاشها السكان في مراحل سابقة، خصوصا في شمال القطاع.
التحذير واضح لا لبس فيه: هذا القرار ليس مجرد إجراء إداري، بل هو فعل عقابي جماعي بحق أكثر من مليوني إنسان، ويُمثّل تسريعا لكارثة إنسانية تُرصد مؤشراتها الميدانية بالفعل. الإغلاق يعني عمليا حرمان السكان من الغذاء والدواء والماء والوقود، وهو ما يُهدّد بانهيار شامل للحياة المدنية ويضع المجتمع الدولي أمام اختبار أخلاقي خطير جدا.
كيف تفسّرون الاهتمام الإسرائيلي والدولي المكثف بقضية جثث الأسرى الإسرائيليين في ظل التجاهل الواضح لعشرات الآلاف من الشهداء الفلسطينيين وجثامينهم المُحتجزة لدى الاحتلال؟
هذا التباين يعكس خللا عميقا في ميزان القوى الدولي والإقليمي، وفي طريقة تعامل العالم مع القضايا الإنسانية تبعا لهوية الضحية؛ فحين يتعلق الأمر بإسرائيليين، تتحرك الآلة السياسية والإعلامية والدبلوماسية بسرعة لافتة تحت ضغط داخلي من مجتمعات تؤمن بضرورة حماية مواطنيها واستعادة جثامينهم.
أما في الحالة الفلسطينية، فإن معاناة آلاف الشهداء وجثامينهم المُحتجزة في الثلاجات أو "مقابر الأرقام" تُقابل بصمت وتجاهل رهيب، نتيجة غياب الضغط السياسي المُماثل وضعف التمثيل الدولي العادل للقضية الفلسطينية.
ومن منظور حقوقي وإنساني، فإن الكرامة الإنسانية لا تتجزأ، والتعامل المهين مع جثامين الشهداء - أيّا كانت هويتهم - يُشكّل جريمة حرب وانتهاكا صارخا للقانون الدولي الإنساني. على المجتمع الدولي أن يتعامل مع هذه المسألة بمعيار واحد، وألا يسمح بازدواجية المعايير التي تُفرغ مفاهيم العدالة من مضمونها الأخلاقي والإنساني.
لو تحدثنا عن الجهود التي تبذلها السلطة الفلسطينية من أجل إعادة إعمار قطاع غزة؟ وكيف تتصورون شكل الإعمار المستقبلي؟
السلطة الفلسطينية تعمل حاليا على إعداد خطط فنية وقانونية شاملة لمرحلة التعافي وإعادة الإعمار، بالتعاون والتنسيق مع شركاء دوليين وإقليميين، وبمراعاة المعايير الإنسانية وحقوق المتضررين فيما يتعلق بالأراضي والممتلكات والتعويضات.
الرؤية المستقبلية التي ندعو إليها تقوم على مبدأ الإعمار الشامل والمستدام، لا مجرد إعادة بناء ما تهدّم. أي أن الهدف ليس فقط ترميم الحجر، بل إعادة الحياة والكرامة للإنسان الفلسطيني عبر خطط متكاملة تشمل إعادة تشغيل الاقتصاد المحلي، وخلق فرص عمل، وبناء بنى تحتية متطورة للمياه والصرف الصحي والكهرباء والمستشفيات والمدارس.
كما نؤكد أن أي عملية إعمار لا بد أن تتم في إطار سيادة فلسطينية كاملة على القرار، وبمشاركة مجتمعية حقيقية تضمن الشفافية والمساءلة، وتمنع تكرار تجارب سابقة جرى فيها تجاوز أصحاب الحق. إعادة الإعمار يجب أن تكون مدخلا لتحقيق التنمية والتمكين، لا مجرد استجابة ظرفية للأزمة.
هل تلقت السلطة الفلسطينية وعودا دولية بإعادة إعمار غزة ضمن جدول زمني محدد؟ وما مدى التزام الدول المانحة بذلك حتى الآن؟
ثمة وعود وتعهدات ومؤتمرات تعهّدت بتوفير دعم مالي، لكن معظم التعهدات لم تتحول إلى تنفيذ ملموس أو التزامات عملية واضحة ذات جدول زمني محدد، أو رُبطت بشروط أمنية وسياسية. الالتزام العملي محدود ومتفاوت؛ التنفيذ يتطلب ضمانات واضحة وآليات رقابية لتثبيت التمويل وتحويله إلى مشاريع على الأرض.
في كثير من الحالات، جرى ربط تنفيذ الدعم بشروط سياسية وأمنية تتعلق بطبيعة الحكم في القطاع وضمانات الاستقرار ووقف إطلاق النار، وهو ما جعل عملية تحويل التعهدات إلى مشاريع ميدانية أمراً بطيئا ومتقطعا.
حتى الآن، يمكن القول إن الالتزام الفعلي من جانب الدول المانحة لا يزال محدودا ومتفاوتا؛ فبعض الأطراف اكتفت بتقديم ثمة مساعدات إنسانية عاجلة، بينما لم يُنفّذ الجزء الأكبر من التمويل المُخصّص لإعادة الإعمار. نجاح العملية يتطلب توفير ضمانات واضحة وآليات رقابية شفافة تضمن ثبات التمويل وتحويله إلى مشاريع حقيقية على الأرض، بما يخدم المتضررين مباشرة ويمنع أي تسييس أو تعطيل جديد للعمل الإنساني.
بحسب معلوماتكم، ما الجديد بخصوص المفاوضات المرتقبة، وهل ستبدأ المرحلة الثانية قريبا؟
الوسطاء الإقليميون والدوليون يواصلون حاليا مشاورات مكثفة تحضيرية لما يُعرف بالمرحلة الثانية من المفاوضات، والتي يُفترض أن تتناول ملفات شديدة الحساسية، من بينها قضايا تبادل الأسرى والترتيبات الأمنية وإدارة المعابر، إضافة إلى آليات إعادة الإعمار وضمانات تثبيت وقف إطلاق النار بشكل مستدام.
لكن رغم هذا الحراك، فإن البدء الفعلي بالمرحلة الثانية ما زال رهنا بمدى تنفيذ الالتزامات الواردة في المرحلة الأولى، وبمدى توفر الضمانات الأمنية والسياسية الكافية لمنع العودة إلى الحرب مُجدّدا. وحتى اللحظة، لا يوجد موعد نهائي أو جدول زمني مُعلن لانطلاقها، لأن الميدان ما زال متغيرا والمواقف متأرجحة.
بكلمة أخرى، يمكن القول إن العملية السياسية في حالة انتظار دائمة بين ما هو مُعلن دبلوماسيا وما هو ممكن واقعيا، ريثما تتضح موازين القوة وتتوفر الإرادة السياسية لإنجاح المسار التفاوضي على أسس أكثر ثباتا ورسوخا.
وفق تقديركم، هل سيصمد اتفاق وقف إطلاق النار؟ وهل تضمن خطة ترامب حقوق الفلسطينيين؟
صمود الاتفاق هشّ؛ لأنه يتطلب آليات تنفيذ ومراقبة مستقلة وضمانات دولية رادعة. أي اتفاق سيصمد فقط إذا التزمت الأطراف والتزاماتها بشكل جدي. أما أي "خطة خارجية" فلا يمكن أن تضمن حقوق الفلسطينيين إن لم تعالج عناصر جوهرية تتمثل في رفع الحصار، وإعادة إعمار تحت سيادة فلسطينية، وضمان حقوق اللاجئين، وحماية الحقوق السياسية. أي خطة تستثني هذه البنود لن تحقّق حقوق الشعب الفلسطيني.
كيف تتعاملون مع ملف الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين بعد اتفاق شرم الشيخ، خاصة أولئك الذين اعتُقلوا خلال الحرب؟
نعمل على توثيق مفصل لكل حالة اعتقال (أسماء، ومواعيد، وظروف)، وتجهيز قوائم ومذكرات لتقديمها إلى الآليات الدولية، والتواصل مع مؤسسات حقوقية أممية لحماية الأسرى وتأمين زيارات ومحاولات الوصول الطبي والقانوني. كما نعمل على بناء ملفات قانونية تستند إلى الشهادات والأدلة لمتابعتها أمام المحاكم والآليات الدولية.
ما هي أولويات دائرة حقوق الإنسان في هذه المرحلة؟ هل تركزون على التوثيق القانوني أم على الإغاثة الإنسانية المباشرة؟
الأولويتان متوازيتان ومتكاملتان: العمل الفوري على حماية المدنيين وتلبية احتياجاتهم الإنسانية، وفي الوقت نفسه توثيق الانتهاكات بشكل قانوني ومنهجي لضمان مساءلة مرتكبي الجرائم لاحقا. التوثيق يدعم الإغاثة ويؤسس للمحاسبة المستقبلية.
هل هناك تنسيق مع منظمات حقوقية محلية أو دولية لرفع دعاوى ضد الانتهاكات التي وقعت بعد وقف إطلاق النار؟
نعم، هناك تنسيق دائم مع منظمات محلية ودولية وشبكات توثيق لإعداد ملفات قانونية وشكاوى للهيئات الدولية، مع التركيز على حفظ الأدلة وحماية الشهود وتجهيز مذكرات قانونية متكاملة لرفعها أمام الآليات المعنية.
ما الدور الذي يمكن أن يلعبه المجتمع المدني الفلسطيني في مراقبة الخروقات والضغط من أجل احترام الاتفاق؟
دور المجتمع المدني حاسم حيث يركز الرصد الميداني الفوري، والتوثيق، وحماية الشهود والضحايا، وإطلاق حملات توعية محلية ودولية، وتنظيم ضغط دبلوماسي وشعبي على الوسطاء والدول الضامنة، ونحن نقترح تكوين منصات تنسيقية مشتركة لتبادل المعلومات بسرعة وحماية الناشطين من الاستهداف.
أخيرا، ما الرسالة التي توجهونها للمجتمع الدولي إزاء استمرار الانتهاكات الإسرائيلية بعد اتفاق شرم الشيخ، ولأبناء غزة الذين يعانون تداعيات العدوان الإسرائيلي؟
إلى المجتمع الدولي: كفّوا عن الصمت، وحوّلوا التعهدات إلى إجراءات ملزمة افتحوا المعابر فورا، وأطلقوا تمويلا عاجلا لإغاثة وإعادة إعمار مستقلة، وفّعلوا آليات محاسبة واضحة لمنتهكي القانون الدولي.
إلى أبناء غزة: نبعث لكم برسالة تضامن وصمود، ونؤكد أننا نتابع كل انتهاك، ونوثق الأدلة، ونعمل بكل قوة لدعم حقوقكم قانونيا وإنسانيا. شعبنا لن ينسى حقه في الحرية والكرامة وسنستمر بالمناصرة حتى تحقيق مطالبه.