مختصون: التطور الرقمي خطر يطمس المهارات الناعمة للشباب
تاريخ النشر: 7th, November 2025 GMT
يفتقد كثير من شبابنا اليوم المهارات اليدوية والحياتية "المهارات الناعمة " ، التي كانت تُكسب الإنسان حسّ الاعتماد على الذات، بعدما أثّرت التقنية على أسلوب حياتهم وأشغلتهم وقتًا أطول في استخدامها، هذا الانشغال بالعالم الرقمي جعل الشباب أكثر ارتباطًا بالشاشات وأقل ممارسة للتجارب الواقعية. ومن هذا المنطلق، تناولت "عُمان" التحول الاجتماعي والفكري من خلال آراء المختصين وتجربة شبابية تعبّر عن الإبداع العملي، وتؤكد أهمية استعادة التوازن بين المهارة التقنية والعمل اليدوي في حياة الجيل الجديد.
وفي هذا السياق وضح سعيد بن سليمان الجابري مدرب بجامعة التقنية والعلوم التطبيقية بنزوى أن التحول الرقمي الذي يشهده العالم أنشأ جيلاً جديدًا تختلف أدواته وتتغير معه مفاهيم العمل والتعلّم والتفاعل، وهو الجيل الرقمي الذي نشأ في بيئة تتدفق فيها المعلومات بسرعة الضوء ويتعامل مع التقنية كما كان الجيل السابق يتعامل مع الورق والقلم.
وبيّن أن هذا الجيل يمتلك مهارات فكرية متقدمة وقدرة كبيرة على التواصل والمعرفة، لكنه في المقابل بدأ يفقد تدريجيًا صلته بالممارسة الواقعية والمهارات الحياتية البسيطة التي تُكسب الإنسان حسّ الاعتماد على الذات والقدرة على الإنجاز الملموس.
الواقع العملي
ويرى الجابري أن الإنسان في الماضي كان يتعلم من التجارب اليومية المباشرة، فيصنع بيده، ويُصلح، ويزرع، ويبتكر حلولًا من أبسط الأدوات، بينما أصبحت التطبيقات الرقمية اليوم هي البديل الجاهز لكل تلك الممارسات.
وأوضح أن هذه التطبيقات رغم ما تقدمه من سهولة وسرعة، فإنها تُضعف قيم الجهد والصبر والتجريب، وهي القيم التي تُبنى عليها الشخصية المتزنة القادرة على الإبداع والفعل. وأضاف أن الثورة الرقمية غيّرت سلوك الإنسان وطريقة تفكيره بصورة غير مسبوقة؛ إذ أصبح الجيل الجديد يعيش في فضاءٍ افتراضي يقدّم له كل ما يحتاجه من دون جهدٍ يُذكر، فالتقنية أصبحت الوسيط في كل مجالات الحياة من التعليم إلى الترفيه والتسوق وغيرها. وبيّن أن هذا الانغماس في العالم الرقمي أوجد حالة من الانفصال عن الواقع العملي، وأدى إلى تراجع المهارات اليدوية والحياتية التي كانت في الماضي جزءًا من التربية الأسرية والمجتمعية.
وأشار المدرب سعيد لجابري إلى أن الجيل الرقمي يتمتع بقدرات ذهنية عالية وسرعة في التعلّم والتحليل بفضل التقنية، لكنه يواجه تحديًا في تحويل المعرفة النظرية إلى ممارسة فعلية، فالتعلّم عبر الشاشات لا يمنح الإنسان خبرة الحواس ولا يكسبه مهارة التعامل مع المواقف الواقعية التي تحتاج إلى صبر ومرونة وتجريب. وذكر أن هذه الحالة أفرزت فجوة واضحة بين الكفاءة النظرية التي يمتلكها الشباب والكفاءة العملية التي يتطلبها سوق العمل والمجتمع.
وأكد بأن هذه الفجوة ليست أمرًا محتومًا، بل يمكن تحويل التقنية ذاتها إلى جسرٍ لسدّها، من خلال توظيفها كأداة لتنمية المهارات العملية لا كبديل عنها. وأوضح أن من الضروري إعادة النظر في المناهج التعليمية لتحقيق التوازن بين المهارات الرقمية والمهارات الحياتية، فالمستقبل يتطلب جيلاً قادرًا على دمج الذكاء التقني بالحس العملي، فالمهندس لا بد أن يلمس ما يصممه، والمبرمج يحتاج إلى فهم طريقة عمل الأجهزة التي يبرمجها، والمعلّم عليه أن يربط الدرس النظري بتطبيقٍ واقعي يُحفّز فضول طلابه.
وبيّن سعيد بن سليمان الجابري أن الثورة الرقمية غيّرت شكل المعرفة لكنها لا ينبغي أن تغيّر طبيعة الإنسان، فالمعرفة الحقيقية لا تقاس بسرعة الوصول إلى المعلومة بل بقدرة الفرد على توظيفها لصنع شيء حقيقي. وختم قائلاً: "إن بناء المستقبل لا يتحقق بالمعرفة وحدها، وإنما بالقدرة على تحويلها إلى فعلٍ ملموس، فالتنمية الحقيقية تبدأ حين يصبح الجيل الرقمي قادرًا على استخدام التقنية ليصنع، لا ليستهلك فقط".
انعكاسات نفسية
بدورها، تحدثت إيمان بنت عبدالله الكيومية، أخصائية إرشاد وتوجيه بمركز الإرشاد الطلابي بجامعة السلطان قابوس عن تراجع ممارسة المهارات اليدوية لدى الجيل الرقمي، مشيرة إلى أن عدداً من الطلبة أصبحوا يعتمدون على الحلول الرقمية الجاهزة في إنجاز المهام اليومية البسيطة، مثل تنظيم أغراضهم الدراسية أو إعداد وجباتهم أو حتى استخدام الورقة والقلم، الأمر الذي قلل من فرص التجربة والمبادرة لديهم.
وأوضحت أن التقنية سهلت الحياة لكنها في المقابل أضعفت الاحتكاك الواقعي وأثّرت في بناء الكفاءة الذاتية، حيث أصبح بعض الشباب أقل قدرة على مواجهة المواقف التي تتطلب جهداً عمليًا أو مبادرة شخصية. كما بيّنت أن من أبرز المؤشرات النفسية المرتبطة بذلك القلق عند مواجهة المواقف الجديدة، وسرعة الإحباط، وضعف الصبر على إنجاز المهام، إلى جانب الميل إلى التسويف وطلب المساعدة قبل التجربة الذاتية.
وأضافت أن غياب الممارسة العملية يقلل من شعور الفرد بالكفاءة والسيطرة، ويؤثر في ثقته بنفسه وقدرته على التكيف مع الحياة العملية، بينما تسهم التجارب الواقعية – مهما كانت بسيطة – في بناء الثقة بالنفس وتعزيز الاعتماد على الذات.
كما أشارت إلى أن الاعتماد الكبير على التقنية أدى إلى ضعف التفاعل الاجتماعي الحقيقي بين الشباب، إذ أصبح التواصل في المشاريع الجامعية والعمل الجماعي يتم عبر الشاشات بدلاً من اللقاء المباشر، مما أسهم في زيادة الشعور بالعزلة وفقدان دفء العلاقات الإنسانية.
وبيّنت أن للأسرة دورًا محوريًا في تنمية المهارات الحياتية، فحين تُقدَّم الحلول الجاهزة للأبناء بدافع الحب فإن ذلك يضعف استقلاليتهم، بينما المشاركة الأسرية في المهام اليومية تغرس روح المسؤولية وتمنح الأبناء تمكينًا حقيقيًا. كما يمكن للمدارس والجامعات تعزيز هذا الجانب عبر التعليم التطبيقي والمشاريع الميدانية وورش العمل التي تتيح للطلبة ممارسة التعلم الواقعي.
وأكدت إيمان الكيومية أن التحدي الأكبر أمام الأخصائيين هو مقاومة الطلبة لفكرة التغيير واعتيادهم على الحلول السريعة، لافتة إلى أهمية دمج الإرشاد النفسي بالبرامج العملية لتشجيع الطلبة على التجربة والتعلم من الخطأ، مع إمكانية توظيف التقنية لدعم المهارات اليدوية وليس استبدالها، مثل استخدام الطباعة ثلاثية الأبعاد أو الواقع المعزز أو التطبيقات التعليمية العملية.
وختمت الكيومية بقولها إن مراكز الإرشاد يمكن أن تؤدي دورًا محوريًا في تحقيق التوازن بين الرقمنة والمهارات الحياتية من خلال الجلسات الإرشادية وحلقات العمل التي تمزج بين الجانب النفسي والتطبيقي، ليصبح النجاح في نظر الطلبة نابعًا من الانسجام بين الفكر والممارسة، وتصبح المهارات اليدوية جزءًا أصيلاً من هويتهم الجامعية.
رؤية مجتمعية
من جانبه، عبّر عبدالله بن حمدان الناعبي ولي أمر عن ملاحظته للتطور المتلاحق للتكنولوجيا وتغلغل الأجهزة الذكية في تفاصيل الحياة اليومية، موضحًا أن الجيل الجديد، الذي يُعرف بـ"جيل التقنية"، أصبح يعتمد اعتمادًا شبه كامل على الأدوات الرقمية حتى في أبسط المهام الحياتية التي كانت في الماضي جزءًا من المهارات الأساسية لكل فرد.
وبيّن أن هذا الجيل يتمتع بقدرات عالية في التعامل مع الحواسيب والهواتف الذكية وإتقان التطبيقات الإلكترونية، غير أن الكثيرين منهم يفتقرون إلى مهارات بسيطة كانت تُعدّ من أساسيات الحياة، مثل إصلاح الأعطال المنزلية، أو ممارسة الزراعة، أو إعداد الطعام دون الاعتماد على الأجهزة الإلكترونية.
وأشار الناعبي إلى أن ضعف المهارات الحياتية لدى الشباب يرتبط بالاعتماد المفرط على التقنية الحديثة التي باتت تؤدي معظم المهام بدل الإنسان، مما قلّل من فرص التعلم العملي والتجربة الذاتية. وأضاف أن الشاب اليوم، بدلًا من أن يُمسك أداة لإصلاح عطل بسيط في المنزل، أصبح يلجأ إلى مقطع فيديو على الإنترنت، وكذلك الحال في الطبخ أو الزراعة أو الحرف اليدوية التي كانت تُورّث من جيل إلى آخر عبر الممارسة والتجربة المباشرة.
وتطرّق إلى أن استمرار هذا النمط من الاعتماد الكامل على التكنولوجيا قد يؤدي إلى فقدان الحس العملي والقدرة على الاكتفاء الذاتي، وهو ما يجعل الأجيال القادمة أكثر هشاشة في مواجهة المواقف التي تتطلب مهارات يدوية أو فكرية غير رقمية.
وأوضح الناعبي أن الحل لا يكمن في رفض التقنية، بل في تحقيق التوازن بين المعرفة الرقمية والمهارات الحياتية، من خلال دمج برامج تعليمية وتدريبية تشجع على التعلم العملي مثل الزراعة، والصيانة، والطهي، والحرف اليدوية، بما يسهم في إعداد جيل قادر على الجمع بين الذكاء التقني والمهارة الواقعية.
وختم عبدالله الناعبي بالإشارة إلى أن السؤال الذي يفرض نفسه اليوم هو: هل يستطيع جيل التقنية أن يستعيد مهارات الأجداد في زمن أصبحت فيه التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي يحددان ملامح الحياة اليومية؟
تجربة مُلهمة
وبعد التطرق والحديث مع المدربين وذوي الاختصاص حول أهمية المهارات الحياتية ودور العمل اليدوي في بناء شخصية متوازنة قادرة على مواجهة متطلبات الحياة الحديثة، أردنا بثَّ روح الشغف لدى شباب اليوم من خلال تسليط الضوء على إحدى التجارب الشبابية الملهمة، وهي تجربة عبدالكريم بن علي العبري التي عكست حب العمل اليدوي وروح الإبداع والمثابرة.
حيث جسّدت تجربته نموذجًا مُلهمًا للشباب في كيفية تحويل الهواية إلى مهارة منتجة، إذ وجد في النجارة وصناعة التحف الخشبية شغفه الحقيقي الذي منحه التوازن النفسي والإحساس بالإنجاز. بدأ رحلته من الصفر، متعلمًا عبر مقاطع "اليوتيوب" وبالممارسة الذاتية داخل ورشته الصغيرة في منزله، فأتقن صناعة العصي، والطاولات، والمجسمات الخشبية التي تحمل طابعًا عمانيًا أصيلًا.
وأوضح عبدالكريم أن المدارس والمراكز الشبابية يمكن أن تؤدي دورًا محوريًا في غرس حب العمل اليدوي لدى الأجيال الجديدة، من خلال إضافة مواد تطبيقية بسيطة في المناهج تُعرّف الطلبة بأساسيات الحِرف مثل النجارة واللحام والنسيج، معتبرًا هذه الخطوة "شرارة الانطلاق" التي تفتح أمامهم طريق الإبداع العملي وتبني شخصيات قادرة على الإنتاج والاكتفاء الذاتي.
وبيّن أن المهارة اليدوية ضرورة لأنها تمنح الإنسان متنفسًا لتفريغ ضغوط الحياة والعمل، وتخلق توازنًا نفسيًا وسلوكًا إيجابيًا يبعد الشباب عن الفراغ والمشكلات اليومية. وأشار إلى أن الحرف اليدوية تمثل كذلك وسيلة للحفاظ على التراث العُماني، مؤكدًا أن الاستيراد يفقد المنتجات طابعها المحلي وهويتها الأصلية، بينما الحرفة الوطنية تبقي الموروث حيًا بروح المجتمع وذوقه.
ولفت إلى أن المجتمع العماني ما زال يُقدّر المنتج المحلي ويفضّله على المستورد، مشيرًا إلى أن الطاولات المصنوعة من أخشاب مثل "الشريش" و"العتم" و"العلعلان" تُمنح قيمة أعلى من غيرها لأنها تحمل بصمة عمانية. لكنه في الوقت نفسه يرى أن الشباب يحتاجون إلى تعلم مهارات التسويق والمعرفة بالأدوات الحديثة لضمان استمرارية مشاريعهم.
واعتبر أن التقنية داعم لا بديل للعمل اليدوي، موضحًا أنها ساعدته في التعلم والتسويق لكنها لا يمكن أن تحل محل اليد التي تصنع بروحها، فلكل قطعة يدوية بصمة مختلفة تنبض بجهد الإنسان وإحساسه. وختم حديثه بقوله إن النجاح الحقيقي يبدأ حين يعمل الشاب فيما يحب، مؤكدًا أن الحرف اليدوية ليست مهنة فحسب، بل أسلوب حياة يُعيد الإنسان إلى جوهره وإلى معنى الإنجاز الحقيقي.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: المهارات الحیاتیة المهارات الیدویة الاعتماد على الجیل الرقمی العمل الیدوی التوازن بین التی کانت من خلال التی ت إلى أن
إقرأ أيضاً:
الإعلاميين العرب تنظم ندوة حول «دور القوة الناعمة في دعم الترابط العربي»
تنظم رابطة الإعلاميين العرب، ندوة تحت عنوان «دور القوة الناعمة في دعم الترابط العربي»، وذلك يوم الأحد الموافق 9 نوفمبر في تمام الساعة الخامسة مساءً، بمقر نقابة الصحفيين - شارع عبد الخالق ثروت - قاعة طه حسين -الدور الرابع.
ودعت الرابطة جميع الصحفيين والإعلاميين للمشاركة في تلك الندوة.
وتضم رابطة الإعلاميين العرب 15 دولة عربية وتعمل علي تحقيق التواصل والتفاهم في مجال الإعلام وجمع أبناء المهنة تحت هدف واحد.
اقرأ أيضاًيستحقون تلك المكانة.. «السينمائيين» تهنئ الفنانين والإعلاميين المعيّنين بمجلس الشيوخ
«الأعلى للإعلام» يناقش سبل تطوير المحتوى في وسائل الإعلام وتدريب الإعلاميين
نقابة الإعلاميين تطلق استراتيجيتها للسيطرة على فوضى السوشيال الميديا