عربي21:
2025-05-24@01:15:14 GMT

الاستقرار.. من المنظورين السياسي والطبي

تاريخ النشر: 31st, December 2024 GMT

يحلو لي تشبيه الوضع السياسي للحكومات في عالمنا العربي بالحالة الصحية لمريض وضعوه في غرفة الإنعاش وهو يعاني من أمراض شتى، وكلما سئل أهله عن حالته قالوا لهم الحمد لله الحالة مستقرة.. هذا المريض غير قادر على أداء أي مهمة، وكلما أراد النهوض من فوق سريره في غرفة الإنعاش أو العناية المركزة يسقط على الفور فيضغط على زر استدعاء الطبيب أو التمريض كي يسعفوه، وكل ما يمكنهم فعله ساعتها هو إعادته إلى السرير وتكرار النصيحة له بالقول: "يا حاج قلنا لك ألف مرة لا تتحرك من السرير وحدك لأنك تحتاج إلى المساعدة".



معظم حكومات العالم العربي تعيش في غرفة العناية المركزة تحت إشراف الطبيب الغربي الذي يقوم بدوره في تعليق المحاليل الطبية المغذية له مع بعض المسكنات والمقويات، لكي يبقى أطول فترة ممكنة على قيد الحياة، وكلما زاره أقرباءه للاطمئنان عليه قال لهم الطبيب: "زي ما نتوا شايفين المريض عايش وحالته مستقرة والحمد لله".

معظم حكومات العالم العربي تعيش في غرفة العناية المركزة تحت إشراف الطبيب الغربي الذي يقوم بدوره في تعليق المحاليل الطبية المغذية له مع بعض المسكنات والمقويات، لكي يبقى أطول فترة ممكنة على قيد الحياة
صحيح أن المريض عايش ولكن على المحاليل والمقويات.. صحيح أن المريض على قيد الحياة، ولكنه لا يتحرك ولا يمشي ولا حتى قادر على تمييز ما يدور من حوله.. صحيح أن المريض على قيد الحياة، ولكن بقاءه على هذه الحالة مكلف بالنسبة لأهل بيته؛ فلا هو ميت فيدفنوه ولا هو حي كما بقية الأحياء يمارس دوره في الحياة.

وأخطر ما في الأمر هو التعبير الشائع "حالته مستقرة يا فندم"، وطبيا حين توصف حالة مريض في غرفة الإنعاش بأنها مستقرة فإن ذلك يعني أنه لا جديد، وأن كلمة مستقرة تعني بالضبط كلمة "بيموت" وإن طالت حالة الاستقرار تلك، فطالما المريض في الإنعاش فهذا يعني خطورة الحالة وطالما طالت مدة بقائه فيها فهذا يعني أن الحالة تتدهور، فما فائدة القول بأن الحالة مستقرة؟

في السياسة يطيب للقادة الفسدة والمستبدين المقارنة بين الفوضى والاستقرار، فإما الاستقرار الذي يعني البقاء في غرفة الإنعاش أو الفوضى التي هي في رأيهم انهيار الدولة بكل ما فيها ومن عليها. لا يوجد لدى الساسة العرب حلول وسطى أو أخرى لأنهم يتاجرون بكلمة الاستقرار التي تعني أنه لا داعي لفتح بطن المريض وإن كانت هناك فرص للعلاج، ويفضلون بقاء الدول في غرفة الإنعاش حتى يأتي أمر الله.

معظم الدول العربية تحتاج إلى جراحة في أقرب وقت، وهي بالرغم من خطورة التدخل الجراحي بشكل عام لكن أحيانا ما تكون الجراحة وحدها هي الحل الناجع والبديل الصائب لمثل تلك الحالات؛ التي وإن بقيت "مستقرة" لسنوات في غرفة الإنعاش فلن تعود مرة أخرى للحياة بشكل طبيعي.

معظم الدول العربية بحاجة إلى عملية فتح بطن بعد أن أثبتت كل الفحوصات أن معظم الأجهزة الحيوية فيها تعاني، وأن هناك انسدادا في الشرايين الرئيسية للقلب وانسدادا معويا حادا وحصوة مرارية وفشلا كلويا، ناهيك عن مشكلات التنفس والرئتين. فكل الأجهزة عاطلة عن العمل، وفوق ذلك وقبله فإن المخ مشتت لا يستطيع التفكير إلا في شيء واحد هو كيفية إنقاذ النظام والحفاظ على مقام الحاكم بأمره.

الثورة تشبه الجراحة التي تجرى لإنقاذ حياة المريض، صحيح أن الجراحة أو الثورة تحمل مخاطر عدة لكنها قادرة إن تمت بنجاح على أن تعيد المريض إلى الحياة بصورة أفضل بدلا من إبقاء الوضع "المستقر" على ما هو عليه؛ لأن الاستقرار هنا يعني المكوث في غرفة الإنعاش أو العناية المركزة لمدة لا يُعلم مداها، والنتيجة معروفة وهي "البقاء لله".

والثورات مثل الجراحة من زاوية تصنيفها، فهناك ثورات سلمية وأخرى خشنة وثالثة مسلحة، وفي الجراحة هناك عمليات جراحية بسيطة وأخرى متوسطة وثالثة تحتاج إلى مهارة كبرى وخبرة كبرى وقلب جراح ميت؛ يعني أنه لا يهتز كما شباب الجراحين عند رؤية أول قطرة دم عند بداية شق بطن المريض.

الثورات السلمية أُفشلت رغم أنها بسيطة وسريعة ونسبة التعافي منها عالية جدا، لكن أهل المريض رفضوا التعافي المبكر للدولة لأن ذلك يعني تكرار النموذج في أماكن أخرى، كما أن التداوي بالثورة السلمية سيصبح "ترند"، لذا قرروا تفضيل البقاء في الإنعاش تحت وهم الاستقرار على التعافي بالجراحة التي لا تُسيل كثيرا من الدماء، يعني تفضيل الموت البطئ لأن تعريض الدولة للجراحة يحمل مخاطر على الورثة بينما بمقدورهم توزيع الثروة بحجة أن المريض مات دماغيا.

الثورات السلمية أُفشلت رغم أنها بسيطة وسريعة ونسبة التعافي منها عالية جدا، لكن أهل المريض رفضوا التعافي المبكر للدولة لأن ذلك يعني تكرار النموذج في أماكن أخرى، كما أن التداوي بالثورة السلمية سيصبح "ترند"، لذا قرروا تفضيل البقاء في الإنعاش تحت وهم الاستقرار على التعافي بالجراحة التي لا تُسيل كثيرا من الدماء، يعني تفضيل الموت البطئ
ولأن القوم انقلبوا على التغيير السلمي عبر صندوق الانتخابات أو من خلال الثورة السلمية وظنوا أنه بمرور الوقت فإن الشعوب سوف تتأقلم وتتعايش وتحتمل وتصبر من أجل الحفاظ على المريض حيا ولو في غرفة الإنعاش، فقد جاءتهم الثورة المسلحة والتي كان البعض يراها البعض أكثر خطورة من الثورة السلمية، ولكن فوجئ العالم بنجاح ثورة مسلحة في سوريا، بينما وفي اليوم الأول للثورة السلمية في مصر (كانون الثاني/ يناير 2011) تجاوز عدد الشهداء الألف مواطن، وتجاوز عدد شهداء الانقلاب (تموز/ يوليو 2013) الذين قتلوا في اعتصام رابعة والنهضة وفي المجازر التي قام بها الجيش عند الحرس الجمهوري 1 و2 وعند المنصة وفي شارع رمسيس وفوق كوبري 6 أكتوبر وفي العريش والمنصورة وفي محطة مصر؛ الآلاف من الرجال والنساء.

حين رفعت الثورة السورية السلاح في وجه الحاكم الظالم ظن الناس أن الثورة قتلت في مهدها لأنهم اعتقدوا أن تحالف الشر بين الحاكم الظالم والقاتل وبين دول الجوار التي ساندته بالمال والعتاد والرجال؛ سوف يبقيه أمد الدهر، ولكن تبين للجميع أن استمرار الثورة وصمودها كان سببا كافيا لردع كل من تسول نفسه عن الاستمرار في دعم النظام، لذلك ومع أول طلقة في اتجاه تحرير المدن السورية تخلى الجميع عن بشار وحتى جيشه هرب معه، كما هربت المليشيات والمستشارون الأجانب وتجمدت الطائرات الروسية في مرابضها ولم تتحرك لإنقاذ حاكم دمشق؛ لأنهم فهموا الرسالة: "الثوار جاءوا ولن يعودوا وأنتم سوف تذهبون ولن تعودوا، فاخرجوا سالمين قبل أن تعودوا في صناديق".

هل تصلح الحالة الثورية السورية للتطبيق في بلدان أخرى؟ الإجابة نعم مع بعض التعديلات المناسبة والظروف المؤاتية، فالواضح أن النظم المستبدة مريضة وتعاني وتضع هذه النظم مصيرها من مصير الأوطان وتروج لأكذوبة أن المطلوب هو هدم البلاد وإشاعة الفوضى، بينما المطلوب هو تغيير النظام بالطرق المعتادة، فإن لم يستجب هذا النظام أو ذلك فإن للشعوب القدرة واليد التي تحمي بها البلاد والعباد والدول من الانهيار إن بقي الحاكم منفردا وحيدا يعزف أنشودة الخراب والدمار ويصدر لشعبه أنشودة "إما أنا أو الفوضى".

نعم يمكن تحديث التطبيق الثوري السوري في البلاد التي شاع فيها الظلم وبات شائعا فيها بناء السجون وتفضيل ذلك على بناء المستشفيات والجامعات والمدارس، في مثل هذه الدولة لا يمكن الحديث عن الاستقرار لأن الدولة باتت في غرفة الإنعاش، والاستقرار هنا يعني الموت التدريجي الذي لن يكتشفه أحد إلا بعد أن يأكل النمل منسأة الحاكم وتظهر صورة الدولة على حقيقتها؛ من خراب وتراجع وتخلف ودمار وسجون منتشرة في كل مكان ولصوص مال وشبيحة ومقار أمن ومخابرات ونقاط تفتيش ومراكز تعذيب، فهل ترك الحكم "المستقر" لآل الأسد شيئا يستحق الذكر أو التمجيد غير ما ذكرنا؟

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه العربي الثورة سلمية سوريا الأسد سوريا الأسد ثورة عرب سلمية مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة من هنا وهناك اقتصاد سياسة من هنا وهناك صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة العنایة المرکزة فی غرفة الإنعاش الثورة السلمیة على قید الحیاة أن المریض صحیح أن

إقرأ أيضاً:

أحزاب العراق: تضخم الأعداد يهدد استقرار النظام السياسي

23 مايو، 2025

بغداد/المسلة: يشهد العراق تضخمًا غير مسبوق في عدد الأحزاب السياسية، إذ أعلنت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات تسجيل 343 حزبًا رسميًا حتى مايو 2025، متجاوزًا عدد مقاعد مجلس النواب البالغ 329.

ويبرز هذا الرقم الهائل، إلى جانب 60 حزبًا قيد التأسيس، أزمة بنيوية في النظام الحزبي، تثير تساؤلات حول جدوى هذه التعددية وتأثيرها على الموازنة العامة والاستقرار السياسي.

ويظهر هذا التضخم الحزبي، الذي بدأ يتبلور بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003، كيف تحولت الديمقراطية من أداة للتمثيل الشعبي إلى ساحة للتفتت والمصالح الضيقة.

ويعود تاريخ هذه الظاهرة إلى الانتخابات الأولى عام 2005، حيث سجلت 66 تحالفًا انتخابيًا، لكن قلة منها حصلت على أكثر من 10% من الأصوات، مما كشف عن هشاشة القواعد الجماهيرية.

وتكرر هذا النمط في انتخابات 2010 و2014 و2018، حيث لم يحقق أي حزب تمثيلًا شاملًا في جميع المحافظات، وبقيت الأحزاب محصورة في دوائر طائفية أو إثنية.

ويعكس هذا التشرذم ضعف قانون الأحزاب الصادر عام 2015، الذي سمح بتأسيس أحزاب دون معايير صلبة للتمويل أو البرامج السياسية.

وتكشف إحصائيات المفوضية أن 118 حزبًا فقط أبدت رغبتها بالمشاركة في الانتخابات المقبلة، بينما يبقى أكثر من ثلثي الأحزاب المسجلة غير فاعلة، مما يشير إلى أن العديد منها مجرد واجهات لتحقيق مكاسب مالية أو نفوذ سياسي.

وتفاقم هذا الوضع مع نظام الدوائر المتعددة، الذي يتيح لكيانات صغيرة الفوز بمقاعد بأصوات محدودة، مما يؤدي إلى برلمان متشظٍ يصعب فيه تشكيل أغلبية متماسكة.

ويؤدي هذا التضخم إلى ضغوط مالية هائلة، إذ تخصص الموازنة منحًا مالية للنواب تصل إلى 250 مليون دينار لكل نائب، فضلاً عن دعم الأحزاب من المال العام، مما يثقل كاهل الاقتصاد العراقي.

ويعزز هذا النظام الفساد، حيث تستخدم الأحزاب المال السياسي لشراء الولاءات، كما أشارت تقارير الشفافية الدولية إلى انتشار الفساد بنسبة تزيد عن 60%.

ويقوض هذا الواقع الديمقراطية، إذ تحولت الأحزاب إلى أدوات نخبوية تفتقر إلى الديمقراطية الداخلية، كما أشار تقرير مركز البيان عام 2021. ويبرز مثال مشابه في انتخابات مجالس المحافظات 2023، حيث هيمنت الأحزاب التقليدية  على المقاعد، مما عزز المحاصصة الطائفية.

 

 

المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.

About Post Author زين

See author's posts

مقالات مشابهة

  • أحزاب العراق: تضخم الأعداد يهدد استقرار النظام السياسي
  • وفد المملكة في مؤتمر دولي حول فلسطين: نسعى لإحداث تغيير لا رجعة فيه يفضي للتسوية السلمية لحل القضية
  • هشام زعزوع: عملت وزيرًا للسياحة في أصعب فترة واستقلت مرتين بسبب الإخوان
  • نائبة: التعديلات الانتخابية تدعم الاستقرار السياسي وتحمي الأمن القومي
  • البحوث الفلكية: زلزال كريت لم يحدث تأثيرأ على مصر والأوضاع مستقرة
  • العيدروس يهنئ قائد الثورة ورئيس المجلس السياسي بالعيد الوطني الـ 35
  • "كابيتال إنتليجنس" ترفع تصنيف "العز الإسلامي" مع نظرة مستقبلية مستقرة
  • كرواد: سنواصل التظاهرات الشعبية السلمية لتحقيق مطالب الناس وإيجاد حل سلمي للأزمة
  • تقرير: واشنطن والقاهرة تبحثان احتواء فوضى طرابلس.. وتأكيد على الحل السياسي
  • بيان «أمريكي- تركي» مشترك يؤكد الالتزام برؤية سوريا مستقرة وآمنة