جريدة الوطن:
2025-05-23@22:47:51 GMT

الكلمة أم الطلقة؟

تاريخ النشر: 21st, August 2023 GMT

الكلمة أم الطلقة؟

بالتوازي مع الحروب التي يشعلها في مناطق مختلفة من العالَم والحروب بالوكالة فإنَّ الغرب يعمل حاليًّا على إنتاج كميَّة هائلة من الرؤى والأفكار التي تقلب الواقع رأسًا على عقب وتنقل للعالَم صورًا مضلِّلة جدًّا عن مجريات الأحداث، وأكاد لا أصدِّق وأنا أقرأ مقالات ومنشورات تتحدث عن منطقتنا وبلدنا وكأنَّهم يتحدثون عن منطقة افتراضيَّة من نسْج خيالهم لا يعرفها أحد في الجغرافيا التي يشيرون إليها، وهذه ليست مسألة بسيطة للمرور عليها بهذه العجالة؛ لأنَّها استراتيجيَّة مخطَّطة ومعتمدة منذ عقود وقَدْ آتَتْ أُكُلَها للذي صمَّمها وتبنَّاها ولكن لا بُدَّ للمتضررين مِنْها وهم شعوب آسيا وإفريقيا بالدرجة الأولى من أن يتوقفوا عِند هذه الظاهرة ويولوها ما تستحقُّ من التفكير والاهتمام والجهد.


وعلى سبيل المثال لا الحصر، كنتُ أقرأُ منذُ أيَّامٍ مقالًا في «الناشنال إنترست» بعنوان «صعود نظام ديكتاتوري في الشرق الأوسط» بتاريخ 8/8/2023 يبدأ المقال بمحاولات الغرب نشْرِ الديمقراطيَّة في العالَم العربي من خلال أحداث الربيع العربي ويعترف ضمنًا أنَّ الغرب كان وراء هذه الحركات «الديمقراطيَّة» التي تمَّ قمعها والاحتفاظ بالنُّظم الديكتاتوريَّة، وينعَى حظَّ الغرب وديمقراطيَّاته؛ لأنَّ التنافس بَيْنَ الغرب الديمقراطي من جهة والشرق الديكتاتوري (الصين وروسيا) من جهة ثانية قَدْ وفَّر لهذه البلدان علاقات وغطاء لدكتاتوريَّاتهم بحيث لَمْ يعودوا مضطرِّين للتجاوب مع جهود الغرب للتحوُّل الديمقراطي في بلدانهم. وطبعًا اللغة تحكم على أنَّ كُلَّ الغرب ديمقراطي وكُلَّ الشرق ومَن يلوذُ به ديكتاتوري طبعًا ما لَمْ تكُنْ حكومة البلد تابعة للغرب ومُطبِّقة لسياساته حينها فقط تتحوَّل الحكومة الشرقيَّة من دكتاتوريَّة إلى ديمقراطيَّة مهما كانت قمعيَّة. ويأسف كاتب المقال أنَّه وبسبب حاجة أوروبا لمصادر الطَّاقة بعد القطيعة مع روسيا فإنَّها مُجبَرة على أن تغضَّ النظر عن تجاوزات الديمقراطيَّة وحقوق الإنسان في هذه البلدان ويستنتج أنَّ دَوْر الغرب سيكُونُ محدودًا في الشرق الأوسط.
وأنا أقرأُ هذا التنظير الذي يعاني انزياحًا كاملًا عن الوقائع والحقائق ويترجم نُموَّ الوعي في هذه البلدان وانتفاضتها الهادئة على الاستعمار الغربي بكافَّة أشكاله على أنَّه فشل للديمقراطيَّة وانتصار للديكتاتوريَّة، وأسمع أخبار الإرهاب في الشمال الشرقي من سوريا يضرب حافلة للجيش العربي السوري، وبالطبع فإنَّ هذا الإرهاب يعمل هناك في قاعدة التنف وفي مُخيَّم الهول بعد أن حَظِيَ برعاية كاملة من القوات الأميركيَّة التي تنهب النفط السوري لتغطية عمليَّاتها في دعم الإرهاب وتسليحه وتمويله. هؤلاء الإرهابيون هم الذين تبنَّاهم الغرب «الديمقراطي» لينشروا الدمار والخراب في بلداننا ولينتجوا «الديمقراطيَّة» التي يحبُّ الغرب ويشتهي هو والتي تضْمَن له السيطرة على بلداننا ونهْبَ ثرواتنا واستغلال مواردنا كما مردَ على ذلك الاستعمار الغربي في آسيا وإفريقيا منذ قرون. وحتى في تونس يقول الكاتب بدأ الحُكم ديمقراطيًّا (أي في ظلِّ حركة النهضة) ثم تراجعت الديمقراطيَّة هناك؛ لأنَّها انقلبت على الإخوان المُسلِمين، وهم كما هو معروف أدوات الغرب في نشر «الديمقراطيَّة» التي يدَّعي بها الغرب. في هذا الوقت الذي أقرأ رؤيتهم المعكوسة لِمَا يحدث في منطقتنا ترسل تركيا قوَّات المرتزقة التابعين لها إلى منطقة التنف المحتلَّة من قِبل الولايات المُتَّحدة لدعم البؤرة الإرهابيَّة التي أقامتها القوَّات الأميركيَّة منذ سنوات هناك لإغلاق الحدود مع العراق والأردن كما تستقدم القوَّات الأميركيَّة العتاد والجنود لقطع عُرى التواصل بَيْنَ العراق وسوريا وحرمان الشَّعبيْنِ من أهم علاقة مُجتمعيَّة واقتصاديَّة وثقافيَّة وتاريخيَّة يتمتعان بها ويحرصان على تعزيزها. حين شارفت القوَّات السوريَّة وحلفاؤها على تحرير منطقة التنف من الإرهاب استخدمت الولايات المُتَّحدة طيرانها لقصف قوَّاتنا ومساندة الإرهابيِّين هناك.
لقَدْ أصبح واضحًا اليوم أنَّ رُعاة «الربيع العربي» الذي بَيَّنَت الأحداث أنَّه عنوان مزيَّف للحرب الغربيَّة الإرهابيَّة ضدَّ العرب ومموِّليه هم الولايات المُتَّحدة وحلفاؤها والذين حاولوا جاهدين أن يسلِّموا مفاتيح سوريا وليبيا والوطن العربي بِرُمَّته لأدواتهم من الجماعات الإسلاميَّة والمتأسلمة، وحين فشلت أدواتهم في تحقيق الأهداف المرسومة لهم استقدموا القوَّات الأميركيَّة إلى شمال شرق سوريا والقوَّات التركيَّة إلى الشمال الغربي بذرائع وحجج واهية هدفها الأساسي هو نهب ثرواتنا وإضعاف الدولة الوطنيَّة والأمْرُ ذاته ينطبق على العراق، وهذا وحده يفسِّر تمترس الإرهاب في المناطق الحدوديَّة بَيْنَ سوريا والعراق لسنوات. وبعد تضحيات السوريِّين والعراقيِّين وإلحاق الهزيمة بمعظم الإرهابيِّين تتقدم اليوم القوَّات التركيَّة والأميركيَّة لاستكمال المُهمَّة التي عجز الإرهابيون عن تحقيقها في السيطرة على الأرض وآبار النفط ومنع التواصل بَيْنَ العراق وسوريا والذي هو مطلب وحاجة أبديَّة للبلدَيْنِ والشَّعبيْنِ حالت دُونَها العزيمة الغربيَّة التاريخيَّة لمنع هذا التواصل الذي يمنح البلدَيْنِ منعة وقوَّة عزَّ نظيرها.
بَيْنَما يتحدَّث الكاتب في «الناشنال إنترست» عن أسفه لعدم تَمكُّن الغرب من نشْرِ الديمقراطيَّة تتمُّ إثارة ضجَّة في الولايات المُتَّحدة بسبب وضع كتاب للأستاذة جاسبير بور في مقرَّرات كُلِّيَّة الآداب في جامعة برينستون حيث يتحدَّث الكتاب عن قتل «إسرائيل» للفلسطينيِّين وتشويه أجسادهم للمتاجرة بأعضائهم، ويستنكرون تدريس مِثل هذا الكتاب، مع أنَّ «إسرائيل» قتلت هذا العام فقط أكثر من مئتَي فلسطيني شابٍّ بطلقات في الرأس أو القَلْب متعمِّدة القتل. فالديمقراطيَّة تسمح بالقتل والتهجير للعرب، ولكنَّها لا تسمح بأن توضعَ هذه الجرائم وتوثَّق وتطِّلع عليها الأجيال. لقَدْ درجوا على ارتكاب جرائمهم ضدَّ العرب وتزوير التاريخ وكتابته من وجهة نظرهم بحيث تبقى صورتهم التي لا يشوبها عيب. أمَّا اليوم وقَدْ بدأت الشعوب تعي أهمِّية الكلمة وأهمِّية التوثيق وأهمِّية تسجيل الأحداث، وليس فقط صنعها، بدأوا حملة مركَّزة لدحض رواية جزء بسيط من الجرائم التي يرتكبها العدوُّ الصهيوني وأدواته في فلسطين والجولان وكفر شوبا وحيثما حلَّت قوَّاته الآثمة.
أشعرُ وأنا أقرأُ مِثل هذه المقالات أنَّنا بحاجة لأن يكُونَ لدَيْنا جيش من الكتَّاب والإعلاميِّين الذين يعكفون على تسجيل وتوثيق كُلِّ حدَثٍ، وأن نغزوَ الغرب بنسختنا نحن عن الحقيقة وعمَّا يجري في بلداننا، وعن تقييمنا للأحداث وللعَبَث الذي تسببوا به في حياتنا وحاضرنا ومستقبل أجيالنا. علَّ هذا هو ما يتوجَّب على شعوب آسيا وإفريقيا أن تُوليَه الأهمِّية القصوى اليوم وهو حشد النخب الفكريَّة لِتكُونَ لسان حال ما يجري بدلًا من تداول هذه الشعوب للنسخة المزوَّرة من الأحداث الصادرة عمَّن يستهدفنا تاريخيًّا ويهندس مصطلحاته لِيغزوَ عقول الناشئة ويتركَ المتضرِّرين ليس فقط ضحايا احتلاله وجيوشه وإنَّما أيضًا ضحايا تزويره للأحداث وكتابته لتاريخ هذه الأحداث. لقَدْ تمكَّن الغرب من نهب إفريقيا وآسيا لقرون من خلال استخدام المُفكِّرين والباحثين والمُخطِّطين، والعمل على إفقار وتجهيل الشعوب المستضعفة، ولذلك ليس من المسموح نشْرُ الوعي والفكر؛ لأنَّهم يعلمون أنَّ الكلمة قَدْ تكُونُ أهمَّ من الطلقة، وأنَّ كتابة التاريخ لا تقلُّ أهمِّية عن صناعته؛ فهل تعي شعوبنا هذه المعادلة وتتوقف عِندها مليًّا وتتعلَّم من الخصوم والأعداء؟
أ.د. بثينة شعبان
كاتبة سورية

المصدر: جريدة الوطن

كلمات دلالية: الولایات الم ت

إقرأ أيضاً:

وهل يعود “قطار الغرب” التائه في الأرجاء؟!

الجميل الفاضل ترى، هل بإعلان الدعم السريع انتهاء معاركه مع الجيش – إن صح ما أوردته قناة “الشرق” – يكون “قطار الغرب” قد غادر بلا عودة محطة الخرطوم، عاصمة ما يُعرف بدولة (56)؟ الخرطوم، تلك المدينة التي قال عنها شاعر “قطار الغرب”، محمد المكي إبراهيم: “هذه ليست إحدى مدن السودان من أين لها هذه الألوان؟ من أين لها هذا الطول التيّاه؟ لا شكّ أن قطار الغرب الشائخ تاه.” سألنا: قيل لنا الخرطوم، هذه عاصمة القطر على ضفاف النيل تقوم: عربات، أضواء، وعمارات. وحياة الناس سباق تحت السوط. هذا يبدو كحياة الناس، خيرٌ من نومٍ في الأرياف يُحاكي الموت. ما أتعسها تلك الأرياف، ما أتعس رأساً لا تعنيه تباريح الأقدام. لكن، هل يعود هذا القطار التائه ليحط رحاله أخيرًا في نيالا “البحير”، كما يظن البعض؟ نيالا، التي كان لها بالفعل بحيرٌ ناءٍ صغير، لكن بلا نهر. وكان لها قطارٌ يرتجّ يتمطّى على القضبان، يدمدم في إرزام، يسمّى هنا “المشترك”، قطار متنازع عليه، تغنّى له الشاعر الكردفاني ذاته، باعتباره قطارًا للغرب بأسره قائلا: “ها نحن الآن تشبّعنا بهموم الأرض، وتخلخلنا وتعاركنا بقطار الغرب. إني يا أجدادي، لستُ حزينًا مهما كان، فلقد أبصرتُ رؤوس النبت تصارع تحت الترب، حتماً ستُطلّ بنور الخِصب ونور الحب.” وقال بفراسةٍ رملية، يتمتع بها القابعون وراء التلال والكُثبان: “وقطار الغرب يدمدم في إرزام، تتساقط أغشية الصبر المُترهّل حين يجيء، ألوان الجدة في وديان الصبر تُضيء، والريح الناشط في القيعان يمر، يا ويل الألوية الرخوة، يا ويل الصبر.” أما الآن، فهل بات ريح الحرب الناشط في القيعان يمر؟. وهل ألوان الجدة في وديان صبر أهل السودان قد آن لها أن تُضيء؟. قيل – والعهدة على الراوي – إن قوات الدعم أعلنت، من طرف واحد، انتهاء المعارك، استعدادًا للانتقال إلى مرحلة “تأسيس الدولة السودانية الجديدة”، في حين أعلن الجيش سيطرته الكاملة على الخرطوم، عاصمة السودان الكولونيالي، بما فيها قصر غردون، رمز الحقبة الاستعمارية. على أية حال، لعامين أو يزيد، عاش السودان اضطرابًا غير مسبوق جرّاء هذه الحرب، أفضى في النهاية إلى ما يُشبه توازنًا في الرهق، أنتج شكلًا من أشكال هذا الاتزان القلق. فيا ويل “الألوية الرخوة”، ويا ويل الصبر. الوسومالجميل الفاضل

مقالات مشابهة

  • كيف يخطط الغرب؟!
  • محمد سلماوي في الثمانين.. فارس الكلمة الحرة وظلّ نجيب محفوظ
  • وهل يعود “قطار الغرب” التائه في الأرجاء؟!
  • عياد رزق: مشروعا قانوني الانتخابات الجديد يعززان المسار الديمقراطي
  • مُطيع .. في سيرة وزير خارجية اليمن الديمقراطي
  • هل باع الغرب إسرائيل؟
  • حزب الجيل الديمقراطي يدفع بـ 84 مرشحًا في الانتخابات البرلمانية القادمة
  • الاتحادي الديمقراطي الأصل يدعو لتشكيل الحكومة المدنية سريعا
  • حزب السادات الديمقراطي يستعد لانتخابات 2025 بخطة داعمة للشباب
  • في أربيل.. اجتماع بين الديمقراطي الكوردستاني والاتحاد الوطني لبحث تشكيل الحكومة الجديدة