البراق النذير: زمن البعاعيت
تاريخ النشر: 31st, August 2023 GMT
اندهش مذيع قناة الجزيرة الأستاذ أحمد طه من مفردة (بعّاتي) التي استخدمها “سفير سوداني” في مقابلة تحشيدية، في وصفه لحميدتي حين أراد التأكيد على وفاته مع إلحاح المذيع على أن الرجل حي يرزق..
أحاول هنا أن أضع مساهمة متواضعة لتوضيح من أين أتت هذه الكلمة في الدارجة العربية السودانية، بعيداً عن الحوار التلفزيوني الذي أتى بهذه الكلمة على لسان رجل يفترض أنه دبلوماسي!
مفردة بعّاتي مشتقة من كلمة بعث يبعث ومبعوث في العربية الفصحى، وقد تحوَّر حرف الثاء في لسان أهل السودان لحرف تاء، فأصبحت بعت يبعت أي أرسل يرسل، ومنها جاءت بعّاتي في صيغة المبالغة أي من تكرر بعثه وعودته من جديد، وهي تشير لشخص خرافي خارق القدرات، يموت ويبعث في الحياة الدنيا لأكثر من مرة، وهناك الكثير من قصص الأطفال وحكاوي الكبار الذين يظنون في روايات البعَّاتي والسحَّار وترب البنية وخلافهم ويؤكدون أن بها بعض الحقيقة.
هناك عدد من الحروف تم تحويرها في الدارجة السودانية مثل حرف الضاد والذال والطاء وكذلك حرف الثاء الذي هو محور هذا المنشور. ومن الكلمات التي حوّر السودانيون حرف الثاء فيها لحرف تاء على سبيل المثال لا الحصر:
كلتوم وهي كلثوم في اللغة العربية الفصحى وتعنى الممتلئ الوجه والخد
وبحت ويبحت وبحات من الكلمة بحث يبحث وبحاث وباحث
وكلمة تار وهي من كلمة ثأر
والتريا وهي الثُريا
وحُترب وهي من حثرب أي بمعنى الماء الذي تعكر أو هو ما يبقى في أسفل الإناء أو القدر
حتَّهُ حتاً، وحِتة وحتت، ونحن نستخدمها في السودان لوصف الجزء أو القطع الصغيرة من الشيء أو ما تناثر منه وهو في اللغة العربية الحُث بضم الحاء أي المدقوق من مادة ما أو بقايا التبن والقش.
مفردة بعَّاتي تستخدم بالفعل في قصص الأطفال ككائن تخيفهم به الأمهات ويبتزهم الأهل من أجل فعل شيء يمتنعون عن فعله، وكان ذلك رائجاً في زمن مضى، ولكن يجوز عطفاً على حالنا اليوم أن نستخدم هذه المفردة في سياقات أخرى، فالبعَّاتي كائن يرتبط بالشر والأذى وهو معروف في حكايات الأطفال بقيامه بأفعال مُضرة تجاه من هم حوله، فهو يقتل الأطفال وذويهم ويقتل في بعض الحالات أطفاله هو وأهله ويخرِّب المدينة..
البراق النذير
المصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
وداعاً أيها الشاعر الذي أزعج الظالمين والقتلة والفاسدين كثيراً ..!
بقلم: فالح حسون الدراجي ..
غيب الموت نهار اليوم الخميس، الشاعر البابلي الجميل موفق محمد بعد أزمة صحية لم تمهله طويلاً للأسف ..
أكتب هذا المقال وطعم الفجيعة المر يملأ فمي، وسواد الحزن يغطي كل مسامات روحي، ليس لأن بيني وبين هذا الشاعر الجميل وداً فحسب، إنما لأن القصيدة العراقية فقدت شاعراً استثنائياً لا يتكرر، وحين أقول ( شاعراً لايتكرر)، فإنا أعني وأقصد تماماً ما أقول..
فهذا الشاعر الذي يكتب بشكل ولون مميز وخاص، سواء من الناحية اللغوية، أو الفنية، أو الأسلوبية، حتى لتحار في نوعية قصيدته: أهي قصيدة عاملة وشعبية أم قصيدة فصحى؟
وفي هذا اللون لا يتشابه معه سوى الشاعر الراحل گزار حنتوش..
أما عن جرأة موفق محمد
وشجاعة قصيدته، فحدث بلا حرج، ولا تسألني عن تفرده وتميزه في قول ما يريد قوله دون خوف من أحد، أو التفكير بالنتائج، وما يترتب على ما سيقوله من نقد قاس ولاذع بحق السلطة الحاكمة، وفساد الطبقة السياسية، أو بحق من يراه سبباً في دمار العراق وإفقار شعبه الأبي.
وفي هذه الجرأة أجزم أن موفق محمد كان يغرد وحده بعيداً عن الأسراب الشعرية والفنية الأخرى.
وهنا سأعترف لموفق محمد وأقول له، كثيراً ما كنت أتساءل مع نفسي متعجباً : ألا يخاف هذا الرجل على حياته وهو يعنف الحيتان بكل هذا التعنيف، ويرزل الأقوياء بكل هذه الرزالة..
ألا يخشى ( الكاتم) مثلاً، حين يتحدى عصابات الشر كل هذا التحدي، أو حين ينتصر للفقراء والمظلومين والمحرومين والمهمشين ضد جميع مستغليهم، وهو الذي لا يملك في بيته حتى (مسدس فالصو )، فمن أين تأتيه كل هذه القوة وهذا الجبروت الشعري والعناد الطبقي، من من يأتي العزم وتأتي الخسارة لهذا الفقير، اليتيم، الأعزل واليساري الذي ليس معه غير حب الفقراء وثقته بنفسه، وإيمانه بقضيته العادلة.. وأقصد قضيته الوطنية والتقدمية ..؟
كيف يخرج هذا الشاعر عن جادة زملائه الشعراء، فيكتب كل ما يريد بلا خوف ولا حرج حتى، لاسيما في قصائده ( الخاصة حداً) ، ولماذا لا يخاف هذا المجنون على حياته وحياة عائلته، وهو يمسح كل يوم الأرض – شعراً – بالأقوياء الظالمين والقتلة والمجرمين والمستبدين، ويجلدهم بقصائده ولسانه اللاذع .. كيف يجرؤ هذا الكائن الرقيق على الوقوف عارياً إلا من ورقة توت الشعر، فيتبول على رؤوس ووجوه الفاسدين بلا استثناء، بدءاً من أبطال صفقة القرن وليس انتهاء بمن وقف خلفهم من الزعماء والقتلة العتاة دون ان يرمش له جفن، كيف.. وهو الذي لا تقف خلفه سلطة ولاحزب مسلح أو ميليشيا أو قبيلة أو حتى أصدقاء متنفذون،
كيف بربكم كيف ؟
اليس لهذا الشاعر الباسل الحق في ان يبكيه الفقراء والشعراء والمظلومون.. ؟لقد اردت الحديث فقط عن هذه الجزئية المهمة في شعره وفي شخصيته، وهي حتماً جزئية متماسكة مع جزئيات أخرى في حياته ومزاجه وثقافته وتفكيره، وإلا ما مان سيمضي في هذا الطريق الخطير والصعب كل هذه السنين الطويلة.. نعم لقد أردت الحديث اليوم عن جرأته الفذة، وعن جسارته الشعرية الاستثنائية دون غيرها، لأنها الميزة التي تستحق الحديث أكثر من غيرها.. وأظن ان الناس الذين بكوا اليوم موفق محمد حزناً على رحيله وفراقه أولاً، بكوا عليه أيضاً لأنهم أدركوا بحساسيتهم المدربة والمجربة أن لا شاعر غيره سيفعل فعله، ولا أحد غيره سيشتم علناً القتلة، أو شاعر مثله ينال من الفاسدين ويفضحهم شعراً ونثراً ونكاتاً حتى !!
لذلك وجدت إن التعريف بتاريخ ومنجز هذا الشاعر غير ضروري اليوم بقدر الضرورة التي يوفرها التذكير بجرأته وبسالته وانحيازه الصارخ للفقراء، كما اعتقد أن الرجل ليس محتاجاً للتعريف بمنجزه الإبداعي ، فمن كان مثله لايحتاج قطعاً إلى تعريف.
أخيراً أقول ومعي جميع الشعراء والفقراء والمحرومين: وداعاً موفق محمد، وداعاً أيها الشاعر الشجاع الذي سيفتقده المظلومون كثيراً، ويفرح لرحيله الظالمون كثيراً ..