تونس مريضة بملفاتها القديمة والجديدة، ففي اللحظات التي كان رئيس الجمهورية يتجول في شوارع مدينة بنزرت الواقعة في شمال البلاد احتفالا بعيد الجلاء، كانت مدينة قابس الواقعة في الجنوب تعيش تحت وقع مواجهة عنيفة بين سكانها المعروفين بالطيبة والوداعة وبين أجهزة الأمن المكلفة بمحاربة الشغب. في ذلك اليوم تظاهر أربعون ألف مواطن أو يزيدون، يطالبون بحقهم في بيئة سليمة وغير مميتة.

ورغم الطابع السلمي لهذه للمسيرة، أفسدها وابل القنابل المسيلة للدموع التي أطلقت دون تميز بين الرجال والنساء، ولم تستثن الأطفال والشيوخ، وهو ما كاد أن يؤدي انعدام الثقة بين الأهالي الجهة والسلطة الأمنية والسياسية. فما القصة؟

بدأت الحكاية في عهد الرئيس بورقيبة حين تم إنشاء مجمع كيميائي مختص في تحويل الفوسفات إلى حامض فوسفوري في مدينة قابس الجميلة، وكان ذلك إنجازا رائعا استقبله السكان بكل تفاؤل، واعتبروه من بين إنجازات مرحلة ما بعد الاستقلال. لكن مع توالي الإنتاج تبين أنه مع كل طن من مادة الفوسفات يتم إلقاء خمسة أطنان من الفسفوجيبس التي يتم رميها في مياه البحر. ويقول الخبراء إن تفتيت هذه المادة له تداعيات خطيرة وسامة على الطبيعة بجميع مكوناتها، وكذلك على الكائنات الحية وفي مقدمتها السكان. واستمرت هذه العملية عشرات السنين، الى أن تفشى السرطان وغيره من الأمراض، فقرر أهل المدينة وضع حد لهذه الوحدات التي تفترسهم يوما بعد يوم، رغم الدخل الوفير الذي تقدمه لميزانية الدولة.

رغم أن الرئيس قيس سعيد غير مسؤول عن هذه الأزمة التي ورثها عن الحكومات السابقة، لكن المواجهة الأمنية قلبت المزاج العام وخلقت حالة من التوتر الشديد بين سكان الجهة ورئاسة الجمهورية. كما جنح الإعلام الرسمي نحو التشكيك في الدوافع الكامنة وراء هذا التحرك الاحتجاجي، والادعاء بوجود أطراف معارضة وخارجية تعمل على تأجيج الأوضاع من أجل المسّ بالنظام القائم. ومن الغريب أن بعض المعلقين السياسيين الموالين للسلطة يحاولون الزعم بأن الاسلاميين عملوا على توظيف هذه الاضطرابات من أجل عودتهم إلى الواجهة، رغم أن كل ما يجري يدل على كونها احتجاجا عفويا ومحليا وله أسبابه الموضوعية.

رغم هذه الادعاءات لم يتغير المشهد القائم، حيث تم اعتقال العشرات من المحتجين، وتعرض بعضهم للتعذيب حسبما أكدته الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وهيئة المحامين ومؤسسات المجتمع المدني. مع ذلك صمد الأهالي وبقوا يطالبون بتفكيك وحدات الإنتاج المتسببة في التلوث القاتل، ويرفضون المزيد من التأجيل والتسويف. لهذا قرر رئيس الدولة تشكيل لجنة للبحث عن حلول، لكن المحتجين لم يقنعهم هذا الأسلوب في التعامل مع الأزمة العميقة، وأصروا على النزول إلى الشارع كوسيلة وحيدة للتعبير عن الغضب، وقرروا "مقاطعة أعمال اللجنة" المكلفة "بالقيام بالإصلاحات ومحاولة إعادة تهيئة المجمع الكيميائي المهترئ"، ورأوا في ذلك "ضربا من ضروب التسويف والترقيع، وهي سياسات لا تواجه الأزمة بل تحاول التعتيم عليها"، حسب البيان الذي صدر عن أبناء الجهة. ونظرا لخطورة الوضع، عبّر العديد من أنصار الرئيس سعيد الذين دافعوا عنه قبل توليه الرئاسة وبعدها، عن خيبة أملهم.

ما يحدث في قابس يشبه ما حدث في مناطق أخرى في البلاد، فالأزمات المتتالية هي نتيجة فشل النمط التنموي الذي تم اعتماده منذ الستينات والسبعينات من القرن الماضي. والأكيد أن من أهم العوامل التي تفسر اضطراب السلطة وعدم قدرتها على اتخاذ إجراءات عميقة وجذرية، هو الوضع المالي والاقتصادي المتردي الذي تعاني منه الحكومة. يضاف إلى ذلك أن التخلي عن هذه المؤسسة الاقتصادية من شأنه خلق ثقب أسود في الميزانية، وإحالة عدد كبير من العمال على البطالة. لهذا تحاول السلطة الاستنجاد بالصين عسى أن تساعدها من أجل الوصول إلى حل.

تواجه السلطة حاليا اتساع رقعة الاحتجاج الذي أصبح شبيها برقعة الزيت، بعد أن تم التنسيق بين عديد الجمعيات التي نظمت احتجاجا أمام المقر المركزي للمجمع الكيمياوي في العاصمة، وطالبت بإطلاق سراح المساجين. كما قرر فرع الاتحاد الشغل بقابس تنظيم إضراب عام جهوي، وأُطلقت الدعوات من أجل تنظيم مسيرات احتجاجية بكامل الجمهورية. وهذا النمط من التضامن تخشاه السلطة وتدينه، لأنه يعيد إلى الأذهان ما حدث قبل خمسة عشر عاما، وأدى إلى انفجار الأوضاع بين 26 كانون الأول/ ديسمبر و14 كانون الثاني/ يناير. وهو سيناريو يحلم بتكراره عدد واسع من خصوم الرئيس قيس سعيد، وقد أشار إلى ذلك بنفسه حين وصف خصومه من جديد بـ"المناوئين والمتآمرين الذين يتخبطون ويتلونون، حيث تغدق عليهم أموال من الخارج حتى يكونوا أبواقا مهجورة".

لكن في المقابل، يعتقد هؤلاء الخصوم بأن التحركات الاجتماعية الكبرى يمكن أن تخلف وراءها آثارا من شأنها تغيير ملامح الأوضاع القائمة. ومن أجل الوصول إلى هذه النتيجة، تراهم يدفعون نحو تعميق التناقض بين السلطة والمواطنين عسى أن تحصل القطيعة، ويتغير المشهد برمته.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه تونس قيس سعيد الاحتجاجي تونس احتجاج أزمات قيس سعيد اقتصاد سياسة صحافة صحافة سياسة اقتصاد سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة من أجل

إقرأ أيضاً:

محمد كريشان وفلسطين

في مداخلته خلال الجلسة الاحتفائية التي نظمتها مؤسسة بيت الزبير مساء الأحد الماضي احتفاءً بالعُمانيين المشاركين في أسطول الصمود العالمي، استحضر الإعلامي محمد كريشان زيارته اليتيمة لغزة عام 1998 في أجواء مختلفة تمامًا، إذْ كان أهلها مستبشرين بعهد جديد يدشنه افتتاح مطار غزة، برعاية الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، ثم حضور الرئيس الأمريكي بيل كلينتون الذي شارك في قص الشريط في المطار في 14 ديسمبر 1998. والحقيقة أن فلسطين كانت دائمًا في القلب من اهتمامات كريشان وانحيازاته، بدءًا من تسمّره لسماع أخبار حرب 67 في راديو أبيه، وهو في عمر الثامنة، ومرورًا بتعمّده إغاظة معلمة اللغة الفرنسية «مدام سوليي» عندما طلبت منه جملة مفيدة فأجابها: «الحرب بدأت لتحرير فلسطين»، وليس انتهاء بتقديمه برنامَجَي «غزة ماذا بعد؟» و«مسار الأحداث» اللذين كانت قناة «الجزيرة» تواكب بهما أحداث «طوفان الأقصى»، ولذا فإنه لم يكن مُستغرَبًا أن يخصص لفلسطين فصلًا كاملًا في كتابه: «وإليكم التفاصيل».

في هذا الكتاب يروي كريشان أنه حين كبر الفتى محمد ودخل الجامعة كانت كل بحوثه ومقالاته في الكلية عن القضية الفلسطينية، فأول ملفّ صحفي جمّعه من قصاصات الصحف والمجلات كان عن الصهيونية كحركة استيطانية عنصرية، وأول مقال له وهو لا يزال طالبًا في الجامعة نُشِرَ على صفحة كاملة من جريدة «الصباح» التونسية عام 1978 كان عن رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيجن، وكيف أن منحه جائزة نوبل للسلام في ذلك العام يعد جريمة لا تغتفر. والحقّ أن الظرف التاريخي خدمَ الإعلامي التونسي كثيرًا، فقد تزامن تفَتُّقُ وعيه السياسي، وبدايات دراسته للإعلام وعمله بالصحافة، مع أحداث سياسيّة كبرى سيكون لها ما بعدها في التاريخ العربي؛ بدءًا من زيارة السادات للقدس، ثم توقيعه معاهدة السلام مع إسرائيل، وانتقال مقرّ جامعة الدول العربية إلى تونس، ومرورًا بخروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان واستقرارها في الجمهورية التونسية، ما أتاح للصحفيّ الشاب في صحيفة «الرأي» أن يكون في قلب الأحداث، فكانت كل رحلاته إلى الخارج مرتبطة باجتماعات منظمة التحرير الفلسطينية، وسافر غير مرة إلى الأردن والجزائر لتغطية اجتماعات المجلس الوطني الفلسطيني.

ما يُسجّل لكريشان في هذه المرحلة المبكرة من عمره المهني أنه تنبأ من خلال أحد مقالاته في جريدة «الرأي» بمجزرة «حمام الشطّ» التي ارتكبتْها إسرائيل في تونس عام 1985، وأدت إلى استشهاد خمسين فلسطينيًّا وثمانية عشر تونسيًّا، عدا عشرات الجرحى والخسائر المادية الجسيمة. فقد نشر على صدر الصفحة الأولى من الصحيفة مقالًا بعنوان: «إسرائيل تخطط لضرب القيادة الفلسطينية في تونس»، جمع فيه تصريحات مختلفة لمسؤولين إسرائيليين ومعلقي صحف تمهّد كلها للعُدوان الذي حدث بعد ذلك بأسبوع، وتحديدًا في الأول من أكتوبر 1985، ولم يكتفِ كريشان بهذا، بل وفّر أيضًا لصحيفته الأسبوعية المستقلة سبقًا صحفيًّا بتغطيته وزميل له تفاصيل هذا الحدث ونشرها في الصفحة الأولى من «الرأي» بعد ساعات فقط من حدوث المجزرة تحت عنوان: «طائرات إسرائيلية تهاجم تونس وتدمّر مقر القيادة الفلسطينية»، سابقًا بذلك وسائل الإعلام الرسمية من تلفزيون وإذاعة ووكالة أنباء، التي لم تكتفِ بالتأخر في تغطية الخبر، بل كانت تغطيتها باهتة وغير دقيقة.

على مدار عمله الصحفي والإذاعي والتلفزيوني كوّن محمد كريشان علاقات وروابط متينة بالمسؤولين الفلسطينيين، توّجها بعلاقة مميزة مع الرئيس الراحل ياسر عرفات، الذي حاول كريشان إجراء حوار معه في تونس خلال فترة الثمانينيات دون نجاح كبير يذكر، إلى أن نجح في مطلع التسعينيات في محاورته بصفته مراسلًا لإذاعة «مونتي كارلو» الفرنسية آنذاك، قبل أن يسافر معه في الطائرة الخاصة المقلة له إلى واشنطن للتوقيع على اتفاق أوسلو في سبتمبر من عام 1993. كان عرفات ــ كما يصفه كريشان في كتابه ــ يبدي من الود والترحاب تجاه زائريه ما يجعل هذا الزائر يعتقد أنه أحد معارفه القديمة جدًّا، أو أن له من الودّ الخاص ما ليس لغيره. ويستذكر الإعلامي التونسي مقابلته مع أبو عمّار على الهواء في قناة «الجزيرة» في أحد أيام حصاره المرير في رام الله، الذي بدأ نهاية 2001 واستمر ثلاثة أعوام متواصلة حتى وفاته/ استشهاده عام 2004. في تلك المقابلة استفزّ كريشان عرفات بسؤال مفاده أن البعض يقول إن ما جرى في ذلك الوقت من خروج عناصر «الأمن الوقائي» من مقرهم في رام الله، ووضع أنفسهم تحت تصرف قوات الاحتلال الإسرائيلي، قد يشكّل مثالًا يمكن أن ينسج على منواله أبو عمار. هنا ردّ عرفات بالقول: «احنا كنّا بنحارب في المغارات. أنت نسيت يا محمد؟ آه يا محمد!». يعلق كريشان مازحًا على هذه العبارة: «خرجتُ وقتها من الاستديو وأنا أمازح زملائي في غرفة الأخبار، وأقول لهم: أتذكّر فعلًا تلك اللحظات العصيبة مع عرفات في المغارة، كنتُ أحاول جاهدًا شدّ أزره ورفع معنوياته بعد أن كان يرتعد خوفًا»، وإذا كان زملاؤه قد انفجروا ضحكًا، فإن كريشان نفسه سينفجر بالبكاء بعد فترة قصيرة حين يرى عرفات شاحبًا وهزيلًا يوزع قبلاته على من حوله قبل دخوله المروحية التي أقلّته من رام الله إلى عَمّان، ومنها إلى باريس، في آخر رحلة له في حياته. يقول كريشان: «بكيتُه بحرقة، كما لم أبكِ أي سياسيّ آخر، فقد ارتبط عندي بكل ما كان لي من تعاطف مع فلسطين».

هذا التعاطف لمسناه في تغطياته وبرامجه المختلفة على قناة الجزيرة، طوال مسيرته الإعلامية، وفي مقالاته الأسبوعية في صحيفة «القدس العربي»، ولذا لم يكن مفاجئًا تعبيره في أمسية بيت الزبير عن الغُصة التي يشعر بها الآن وهو يشاهد غزة وقد تحولت إلى ركام.

سليمان المعمري كاتب وروائي عُماني

مقالات مشابهة

  • مجمع كيميائي يتحول لكارثة بيئية.. كيف علق تونسيون؟
  • الرئيس التونسي يوجه رسالة لـ«المتآمرين المأجورين من الخارج»
  • تونس.. إضراب عام في قابس احتجاجاً على «التلوث البيئي»
  • اعتقال عشرات المحتجين في قابس جنوبي تونس
  • محمد كريشان وفلسطين
  • الرئيس التونسي: معالجة التلوث في مدينة قابس تتطلب حلولًا غير تقليدية
  • اعتبر الاحتجاجات "مقاربة تقليدية".. الرئيس التونسي: نعمل لإيجاد حلول عاجلة لتلوّث "قابس"
  • مخاوف إسرائيلية من استفادة حماس من نشر قوة متعددة الجنسيات في غزة
  • مخاوف من جائحة محتملة في الصين