العدالة الانتقالية في ضوء الشريعة.. رؤية تأصيلية
تاريخ النشر: 30th, October 2025 GMT
مرت بلادنا العربية -ولا تزال- بمرحلة تاريخية مفصلية، بدأت مع اندلاع ثورات الربيع العربي عام 2011، تلك الثورات التي شكلت لحظة فاصلة في الوعي السياسي والاجتماعي، وعبرت عن رفض شعوب المنطقة لأنظمة مستبدة مارست أشكالا متعددة من القهر والظلم، بما في ذلك التعذيب المنهجي والانتهاكات الصارخة للحقوق الأساسية للإنسان، وقد اتسمت هذه المرحلة بتناقضات كبيرة؛ فبينما حققت بعض هذه الثورات انتصارات نسبية على صعيد المطالب الشعبية، واجهت أخرى عراقيل أدت إلى تعثرها أو عودة أشكال الاستبداد بصورة جديدة.
ومن النتائج المباشرة لهذه التجارب ظهور حاجة ملحة ووجودية لدى المجتمعات العربية إلى آليات انتقالية، تهدف إلى إخراج المجتمع من حالة الفوضى والاضطراب. فالانتقال إلى حالة من الاستقرار والأمن لم يعد خيارا، بل ضرورة أساسية لتأهيل المجتمع للانطلاق نحو تحقيق الأهداف التي خرج الشعب وناضل وضحى من أجلها، وهي أهداف ترتبط بالحرية والحقوق والكرامة الإنسانية وأهداف المجتمع وغاياته وهويته، وبإرساء قواعد العدالة والإنصاف التي تعيد بناء الثقة بين الدولة والإنسان والمجتمع.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2العبودية الناعمة ووهم الحرية في عصر العلمنة الحديثlist 2 of 2ساري حنفي: الليبرالية الرمزية تقوض العدالة وعلمانية فرنسا ضد الأديانend of listوبهذه الصورة، لم يعد انتصار الثورة مجرد حدث سياسي، بل صار مرحلة انتقالية خطيرة تتطلب أدوات واضحة لإدارة ما بعد النزاع، تعالج آثار الانتهاكات، وتسد الفجوات الاجتماعية والسياسية، وتضع المجتمع على طريق إصلاح شامل، يتجاوز مجرد إعادة تشكيل المؤسسات إلى إعادة بناء النسيج الاجتماعي والضمير الجمعي. وهنا تتجلى أهمية دراسة النماذج الفكرية والشرعية التي يمكن أن توفر إطارا متينا لهذه المرحلة، بما يضمن ألا يكون تحقيق العدالة والمصالحة على حساب القيم والأخلاق، بل أن يكون انطلاقها منها بوصفها أساسا لا غنى عنه لإعادة إنتاج مجتمع متوازن ومستقر.
والعدالة ليست ترفا نظريا، بل شرط وجودي لاستعادة التوازن المفقود في بنية المجتمعات. فكل حرب تخلف وراءها شروخا في الذاكرة والضمير، وكل استبداد يترك فراغا أخلاقيا لا يرمم بمجرد إسقاط نظام أو تغيير سلطة. من هنا تتجه الأنظار إلى منظومات العدالة الانتقالية التي طورها الفكر الغربي بوصفها أداة لإعادة بناء الثقة وجبر الضرر ورد الاعتبار للضحايا، غير أن سؤال الملاءمة يفرض نفسه بإلحاح: هل تصلح هذه الآليات التي نشأت في بيئة علمانية لها فلسفتها الخاصة في الإنسان والدولة، لأن تطبق في مجتمعات تستمد قيمها من الوحي ومقاصد الشريعة؟
إعلانفي مواجهة هذا السؤال العميق، يأتي كتاب "العدالة الانتقالية من منظور إسلامي" للدكتور سامر محمد البكري الذي نشرته دار الفكر في دمشق، ليقدم طرحا تأصيليا جريئا، يعيد من خلاله تعريف العدالة في سياقها الشرعي والحضاري، ويناقش حدود التوافق والتعارض بين النموذج الغربي والمنظور الإسلامي. فالكتاب لا يكتفي بتفنيد المصطلحات أو نقد الممارسات، بل يسعى إلى تأسيس رؤية متكاملة تعيد الاعتبار للعدالة بوصفها قيمة إيمانية قبل أن تكون آلية قانونية، وتضع المصالحة في موضعها الأصيل ضمن مشروع إصلاحي أشمل، يستهدف ترميم الإنسان والمجتمع معا.
يقدم الدكتور سامر البكري في كتابه معالجة علمية عميقة لإحدى أكثر القضايا الفكرية والحقوقية إلحاحا في واقعنا المعاصر: كيف يمكن للمجتمعات العربية والإسلامية أن تستعيد توازنها بعد عقود من الصراعات والأنظمة القمعية، من غير أن تستعير أدوات غريبة عن منظومتها القيمية؟
وينطلق المؤلف من رؤية نقدية متأنية، فيقارن بين مفهوم العدالة الانتقالية كما صاغته التجربة الدولية الحديثة -المنبثقة في أصلها من خلفية علمانية أوروبية- وبين المفاهيم الإسلامية الأصيلة التي تشكل أركان النظام الأخلاقي والحقوقي في الإسلام، مثل العدل والصلح والعفو.
ولا يضع هذه المفاهيم في مواجهة تقابلية فحسب، بل يبين من خلال تحليل تاريخي ومقاصدي أن الفكر الإسلامي قد قدم خلال قرونه الطويلة نموذجا متكاملا لتحقيق العدالة بعد الفتنة أو الظلم، يقوم على إصلاح القلوب قبل الاقتصاص من الأجساد، وعلى ترميم الجماعة قبل معاقبة الأفراد.
ويرى البكري أن المجتمعات المسلمة لا تحتاج إلى إعادة اختراع العدالة، بل إلى إحياء تصورها الأصيل الذي يجمع بين المحاسبة والعفو، وبين إقامة الحق وإحياء الروح، وبين الإنصاف القانوني والإصلاح الأخلاقي. فالعدالة في الشريعة ليست مرحلة انتقالية ظرفية، بل مبدأ دائما يحكم حركة المجتمع في السلم كما في الصراع. ومن هذا المنطلق يعيد المؤلف قراءة أركان العدالة الانتقالية الحديثة: المحاسبة، وجبر الضرر، والإصلاح المؤسسي، وضمان عدم التكرار في ضوء مقاصد الشريعة.
الفكر الإسلامي قدم خلال قرونه الطويلة نموذجا متكاملا لتحقيق العدالة بعد الفتنة أو الظلم، يقوم على إصلاح القلوب قبل الاقتصاص من الأجساد، وعلى ترميم الجماعة قبل معاقبة الأفراد
ليست مجرد أسلمة للمفاهيمويبرز في هذا العمل تميز منهجي واضح: فالبكري لا يكتفي بالتنظير أو الدعوة العامة إلى "أسلمة" المفاهيم، بل يقدم تفكيكا دقيقا للبنية الفلسفية التي تستند إليها العدالة الغربية، ليظهر أن مأزقها الأكبر يكمن في مرجعيتها. إذ إن العدالة في التصور المادي الحديث غايتها حفظ النظام واستقرار الدولة، في حين غاية العدالة في التصور الإسلامي إصلاح الإنسان وإقامة الحق على وجهه؛ ولذلك لا يمكن استيراد الأولى دون إخضاعها لمعيار الثانية.
ويمتاز الكتاب بأسلوبه الذي يجمع بين الصرامة الفقهية والدقة القانونية، وبين العمق المقاصدي والرؤية الواقعية. فهو يخاطب في آن واحد الباحثين في الفقه والفكر السياسي، وصناع القرار المعنيين بإعادة بناء المجتمعات الخارجة من النزاعات. ويقدم لهم إطارا نظريا يمكن أن يتحول إلى نموذج تطبيقي، يقوم على التوازن بين المحاسبة والصفح، وبين العدل والرحمة، بين حفظ الحقوق وبناء السلم الأهلي.
إعلانهذا العمل، في جوهره، دعوة إلى مراجعة فكرية شاملة لما استقر في أذهان كثير من النخب من أن النماذج الغربية تمثل نهاية الطريق والغاية المرجوة في بناء العدالة. إنه يذكر بأن لكل أمة فلسفتها في النظر إلى الإنسان والجماعة، وأن العدالة التي تنفصل عن روح الشريعة لا تلبث أن تتحول مع مرور الوقت إلى آلة باردة تكرس المظالم من حيث يفترض بها أن تزيلها.
ولعل أبلغ ما يلخص هذه الرؤية قول المؤلف إن "كل حل لا يتفق مع شريعتنا ما هو إلا حل موهوم، وإن بدا واقعيا…".
إن السؤال المركزي الذي يدور حوله الكتاب ويسعى للإجابة عنه هو: هل يمكن لهذه الآليات الغربية، بما تحمله من فلسفة وقيم، أن تتوافق مع المرجعية الإسلامية؟ وهل هي الأنسب لتحقيق المصالحة والعدل في مجتمع له قيمه ومبادئه الدينية والثقافية الخاصة، أم أن هناك بدائل أصيلة مستمدة من الشرع الحنيف، قد تكون أكثر انسجاما وفاعلية في معالجة آثار الانتهاكات وإرساء دعائم الأمن الاجتماعي والتنمية المستدامة؟
وهذه التساؤلات ليست مجرد أسئلة نظرية، بل هي محور حيوي للبحث، لأن الإجابة عنها تحدد المنهج الذي ينبغي أن يسلكه المجتمع في الانتقال من مرحلة الفوضى إلى مرحلة البناء والتعافي، وتكشف مدى الحاجة إلى صياغة آليات عدل ومصالحة مستندة إلى مقاصد الشريعة، قادرة على تحقيق التوازن بين الحق الفردي والجماعي، وبين العدالة والرحمة، وبين الماضي المؤلم والمستقبل المنشود.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: غوث حريات دراسات فكر العدالة الانتقالیة العدالة فی
إقرأ أيضاً: