الثعلب الماكر في الأسطورة السومرية
تاريخ النشر: 30th, October 2025 GMT
آخر تحديث: 30 أكتوبر 2025 - 10:43 صداريو رادلي ترجمة واعداد: مي اسماعيل في دراسة نُشِرت مؤخرا بصحيفة “العراق” الأكاديمية؛ قدمت عالمة الآشوريات الدكتورة “جانا ماتوزاك” أول ترجمة وطبعة نقدية كاملة لرقيم سومري كان موضع تجاهل لفترة طويلة؛ مسلطة الضوء على سردية اسطورية كُتِبت منذ نحو 4400 عام. الرُقيم الطيني المعني هنا يحمل رقم “Ni 12501”، من مدينة “نيبور” القديمة التي تنتمي لفترة العصر المبكر للأسرة الثالثة- ب؛ نحو 2540- 2350 ق.
م.؛ وهي حقبة تكوينية لحضارة وادي الرافدين.
ورغم أن اكتشاف الرُقيم حدث منذ القرن التاسع عشر؛ لكن لم يتم نشر محتوياته ولا تحليله ملياً. يعود جزء من هذا الاهمال الى حالة الرُقيم؛ فهو مُهشم ولم يسلم الاّ نحو الثلث من النص الأصلي؛ مما زاد من صعوبة ترجمته. وكان التباس الترقيم من العقبات الاخرى؛ فحينما جرى اقتباس جزء من نصوص الرُقيم على غلاف كتاب لعالم السومريات الشهير “صموئيل نوح كرامر” الصادر عام 1956؛ فشل هذا الاخير بتضمين رقم تسجيله في المتحف، ولم يحدده إلا في منشور لاحق بعد خمس سنوات. رغم حالته المهشمة؛ الا ان الرُقيم “Ni 12501” يعرض لمحات نادرة من المخيلة الأسطورية السومرية؛ خاصة في سردياتها التي تتضمن آلهة مميزة وعناصر فريدة لم نشاهدها مسبقا في الآثار المكتشفة التي وصلت الينا. السياق التاريخي والديني كُتِب الرُقيم “Ni 12501” بحدود عام 2400 ق.م.؛ خلال عصر كانت فيه بلاد سومر تتألف من دويلات مدن مستقلة عن بعضها، يحكم كلا منها مؤسساتها الخاصة القائمة حول وجود إلهٍ حامي.. كما تشرح د. “ماتوزاك” قائلة: “كان لكل دولة- مدينة إلهها الراعي الموحد؛ وكان له بدوره اسرة بأكملها وموظفون”. في مدينة نيبور كان “انليل-Enlil” هو ذلك الاله؛ رأس الهرم الالهي السومري، الذي يهيمن معبده على الحياة الدينية للمدينة. رغم أن دويلات المدن السومرية كانت مستقلة سياسياً، لكنها كانت تشترك باللغة والتقاليد الإدارية والهيكلية الدينية.. بالطبع كانت هناك بعض الاختلافات؛ مثل تنوع لهجات اللغة السومرية والآلهة المحلية. لكن الآلهة الاساسية (مثل انليل و”إيشكور- Ishkur”) كانت معروفة على نطاق واسع. وإذ يبدو ان الرقيم موضع البحث كان جزءًا من تقليد يخص مدينة نيبور؛ لكنه ينطبق على الاطار الاوسع للهيكلية الدينية ببلاد النهرين. السردية: إيشكور في العالم السفلي كان إيشكور (ويُعرف أيضا باسم “أداد”)؛ إله العواصف والمطر والرعد في بلاد ما بين النهرين القديمة. كان واهبا للحياة ومدمرا في آن واحد.. مسؤولاً عن أمطار الربيع التي تُخصب الأرض والزراعة، وعن العواصف المدمرة. بينما كان والده “انليل” إلهاً رئيسياً لبلاد ما بين النهرين.. إله الرياح والهواء والعواصف. إعتبرته العديد من الأساطير ملك الآلهة، وكان يُبجَّل لقوته وسلطانه، ويُنظر إليه على أنه القوة وراء الخلق والدمار. شملت إمبراطوريته الزراعة والحضارة والقدر، وتمركزت عبادته في مدينة نيبور. يعني اسمه “سيد الريح”، وكانت النسمات اللطيفة والعواصف المدمرة تُعتبران تعبيراً عن قوته. يتحدث نص الرقيم عن اسطورة يصبح خلالها إيشكور إله العواصف محاصراً في العالم السفلي “كور” (أو في حدود كونية أكثر غموضاً؛ كما ورد في النصوص القديمة). فيعقد والده “انليل” اجتماعاً للآلهة، باحثا عن متطوعٍ ينزل الى العالم السفلي لإستعادة ولده. ومن بين جميع الآلهة الحاضرة؛ لم يتقدم سوى الثعلب للقيام بالمهمة الخطيرة.. بمهارة واستعراضٍ للمكر، يتمكّن الثعلب من الوصول إلى العالم السفلي عن طريق قبول الطعام والشراب المُقدّمَين إليه (دون تناولهما)؛ بل يخزنهما في وعاء، مُتجاوزا بذلك القواعد المُلزِمة للعالم السفلي. هنا تنتهي القصة فجأةً بسبب تلفٍ الرقيم، ويبقى من غير المؤكد ما إذا كان الثعلب سينجح بإنقاذ إيشكور في خاتمة المطاف.. ومع ذلك، وحتى في حالتها المتهرئة؛ تُردِد تلك الأسطورة صدى مواضيع باتت مشتركة في تقاليد الحقب المتأخرة لبلاد ما بين النهرين والشرق الأدنى الأوسع: النزول الجريء إلى العالم السفلي، والمحتال الذكي، واستعادة النظام والتراتبية على يد منقذ غير متوقع! السمات والرمزيَّة بدأ السرد بوصف لوحة فنية زاهية للوفرة الزراعية: “مياه متلألئة”، وأنهار زاخرة بالأسماك، وأبقار متعددة الألوان يملكها إيشكور؛ قبل أن يصير مآلها الى الخراب.. بأسر إيشكور تتلاشى الوفرة الزراعية، وتصبح ماشيته الملونة وأنهاره المليئة بالأسماك مثل ذكريات بعيدة.. يولد الأطفال لكنهم يُجرفون إلى العالم السفلي.. في غيابه؛ يذبل العالم.. يبدو أن أسر إيشكور يتزامن مع توقف الخصوبة الطبيعية؛ وهو موضوع يُمثّل مجازياً باختطاف الأطفال على يد “الكور”، ربما تلميحاً إلى حلول الجفاف والمجاعة. قد يرمز هذا الانتقال من الوفرة إلى القحط، متبوعاً بالعودة المأمولة لإله العاصفة، إلى أسطورة زراعية تحدث بصورة دورية؛ مرتبطة بالإيقاع الموسمي للأمطار وتجدد المحاصيل. ويتوازى هذا النمط مع تقاليد قديمة أخرى تتعلق بموت الآلهة ثم عودتهم. تُمثل شخصية الثعلب، التي جرى تصويرها هنا بجرأةٍ ودهاءٍ في آنٍ واحد؛ أقدم مثال معروف لهذا الحيوان كشخصيةٍ ماكرة في أساطير بلاد ما بين النهرين. يظهر ذكاء الثعلب هنا، واستعداده للقيام بما لا تستطيع الآلهة الأخرى القيام به، وبصورةٍ أدبية أوسع نطاقا مما كان عليه الحال عند تقديم شخصياتٍ متواضعةٍ أو هامشيةٍ تُحقق أهدافاً إلهيةً؛ وهو نمطٌ سيكون مرئيا في أساطير اخرى حول العالم. المغزى والإرث الحضاري قالت د. “ماتوزاك” في تحليلها: “كان نص رقيم نيبور ذي الرقم “Ni 12501” هو السردية الوحيدة التي لعب فيها الاله إيشكور دورا رئيسيا”. ورغم ظهوره في مواضع أخرى منها- الترانيم وقوائم الآلهة؛ لكنه لم يشغل (إلا نادرا) المكانة المركزية التي ظهر بها هنا. وهذا ما يزيد من قيمة الرقيم؛ إذ أتاح للدارسين النظر عبر نافذة نادرة على تطور تراتبية الآلهة السومرية وصنع الأساطير في ذلك العصر. اضافة لذلك؛ تعكس السردية مجموعة من الواقعيات الحضارية.. فلأن المطر لم يكن كافياً لإدامة الزراعة في جنوب وادي الرافدين؛ بات اللجوء الى أنظمة ري مكثفة امراً ضروريا. وحين تكون القنوات ( وليس السُحُب) هي التي تجلب المياه إلى المحاصيل؛ يمكن القول أن مكانة إيشكور ستُمثل عدم القدرة على التنبؤ بالموسم في الطبيعة. لذا قلل هذا الأمر من أهمية إيشكور نسبياً مقارنةً بآلهة العواصف في أراضي تغذيها مياه الأمطار. مع ذلك، إستمر وجوده الأسطوري مرتبطاً بالخصوبة والوفرة؛ وربما الخوف من شحّ المواسم. ولعل وجود إيشكور في مركز السردية هنا يدلُ على تقاليد عبادة إقليمية أو محلية في نيبور؛ وبذا يُعد الاهتمام الذي حظي به هنا بقدرٍ واضح من التركيز أمراً جديداً. حينما اختفى إيشكور في العالم السفلي؛ يحل الجفاف والموت. وهنا يتكرر نمط رحلة الإله الأسير الذي تُبشّر عودته بالتجدد في الأدب الرافديني، ويتردد صداه في أساطير لاحقة عن ديموزي وإينانا؛ أو تموز وعشتار. هذا التكرار يشي بأن أسطورة الثعلب الماكر والاله الأسير قد تردد صداها لأبعد من المدينة التي أبدعتها. قد تكون المدن السومرية المختلفة تعيش استقلالا سياسيا عن بعضها؛ لكنها تشترك عموما بتقاليد الاسطورة والمعتقدات. وبذا (كما ترى د. ماتوزاك) لا يوجد سبب للاعتقاد بأن الناس قد يعترضون على تلك المعتقدات بأي شكل من الأشكال. بحثا عن صورة متكاملة للأساطير السومرية رغم فقدان الجزء الأكبر من نصوص الرقيم قيد البحث وسياقه الأساسي؛ لكنه قطعة قيمة من الصورة الأكبر لأُحجية أدبيات وادي الرافدين القديمة. فالصور التي رسمها النص (عن الأسر في العالم السفلي والإنقاذ الالهي والوفرة الزراعية وشجاعة البطل الماكر) تتردد عبر القرون في الأساطير السومرية والأكدية أيضا. وسبق ان لاحظ عالم السومريات “صموئيل ن. كرامر” تشابهاً بين هذا الثعلب وآخر ورد في أسطورة إنكي ونينخورسانا،؛ وهي أسطورة تعود للألفية الثانية قبل الميلاد. يُشدد العمل اللغوي الدقيق للدكتورة ماتوزاك (من حيث التعامل مع بنية اللغة وتطورها التاريخي. المترجمة) على الأهمية المستمرة لإعادة النظر والكشف عن القطع الأثرية المهملة أو التي لم تحظَ بما يجب من دراسة؛ خاصة تلك التي ما زالت تقبع في مستودعات المتاحف دون نشرٍ كاملٍ لمحتواها. ومثال الرقيم “Ni 12501” لا يُحيي جزءًا من رواية القصص الاسطورية فحسب؛ بل يعيدُ ايضا التوكيد على الكيفية التي يمكن بها للرقيمات المهشمة أن تُغني فهمنا لوجهة نظر العالم القديم. سبقت اسطورة إيشكور والثعلب الماكر خرافات الكاتب وروائي القصص اليوناني “إيسوب- Aesop “ بما يُقارب الثلاث ألفيات. يُنسب الى إيسوب (الذي عاش خلال سنوات 620- 564 ق. م. تقريبا) عدد من الخرافات التي تُعرف الآن باسم “خرافات إيسوب”، وهي قصص قصيرة يدور اغلبها حول حوارات الحيوانات، وصار بعضها نواة للعديد من قصص الاطفال التي تتضمن حكما تعليمية وأخلاقية.
المصدر: شبكة اخبار العراق
كلمات دلالية: فی العالم السفلی ما بین النهرین التی ت
إقرأ أيضاً:
الدقم.. المدينة التي تُصنع لتُعاش
سهام بنت أحمد الحارثية
harthisa@icloud.com
تشهد الدقم اليوم لحظة فارقة في مسيرة تطورها؛ إذ لم تعد تُرى كمنطقة اقتصادية فحسب؛ بل كمفهوم متكامل يجسّد مستقبل المدن في سلطنة عُمان، فمن خلال الرؤية الطموحة التي تقودها الحكومة، والدعم المتواصل من مؤسسات الاستثمار الوطنية والخاصة، تتحول الدقم تدريجيًا إلى مدينة متكاملة للحياة والعمل والاستدامة؛ حيث تلتقي الصناعة بالطبيعة، والاقتصاد بالابتكار، والإنسان بالفرص.
ما تحقق في البنية الأساسية خلال السنوات الماضية من الميناء والمصفاة والمطار والمنطقة الصناعية يمهّد اليوم لمرحلة أكثر عمقًا تتعلق بالإنسان نفسه. الدقم لم تعد وجهة للصناعات الثقيلة فقط؛ بل أصبحت محورًا للتنمية المتوازنة التي تجمع بين المعيشة الذكية، والسياحة المتكاملة، والاقتصاد الأخضر، وهو ما يجعلها نموذجًا وطنيًا لتطبيق رؤية "عُمان 2040" على أرض الواقع، خصوصًا في ربط التنمية الاقتصادية بجودة الحياة.
ويأتي تركيز "منتدى الدقم الاقتصادي 2025" في نسخته الثانية، على محور السياحة المتكاملة وتطوير أنماط الحياة؛ ليؤكد أن المدينة تتجه نحو صناعة التجربة السياحية الشاملة، وليس مجرد إنشاء المنشآت؛ فالدقم تمتلك مقومات فريدة من نوعها: سواحل خلابة تمتد على عشرات الكيلومترات، طبيعة بحرية نادرة، ومناخ معتدل، وهي عناصر يمكن أن تجعل منها وجهة عالمية للسياحة البيئية والبحرية والعلاجية وسياحة الأعمال.
لكن ما تحتاجه المرحلة المقبلة هو بناء منظومة متكاملة من المشاريع العقارية والسياحية التي تخلق مجتمعات نابضة بالحياة، يعيش فيها السكان والزوار في انسجام مع البيئة المحلية والثقافة العُمانية الأصيلة.
وبصفتي مطوّرة عقارية، أرى أن مستقبل الدقم الحقيقي يكمن في تحويلها إلى مدينة تُصمَّم لتُعاش لا لتُزار فقط.
المشروعات القادمة يجب أن تتجاوز مفهوم المباني إلى خلق أنماط حياة جديدة تتسم بالحداثة والراحة والاستدامة فتطوير الواجهات البحرية، والمناطق الترفيهية، والمجتمعات الصديقة للمشاة، والمنتجعات البيئية، سيجعل من الدقم مدينة متكاملة تجذب المقيمين والمستثمرين والزوار في آنٍ واحد.
وتُعد مشاريع الطاقة النظيفة والهيدروجين الأخضر من أهم التحولات التي ستعيد رسم ملامح الدقم خلال العقد المقبل؛ فوجود مشروعات كبرى في هذا المجال يعزز من مكانة الدقم كمنصة إقليمية للابتكار البيئي والصناعات المستدامة، ويجعلها متوافقة مع توجهات الاقتصاد العالمي نحو الحياد الكربوني. وهذا يفتح أمام المستثمرين والمطورين فرصًا جديدة لتصميم مشاريع سياحية وصناعية تتكامل مع منظومة الطاقة النظيفة وتُجسّد مفهوم "المدينة الخضراء".
إنَّ مستقبل الدقم لن يُقاس بعدد المصانع أو الموانئ فقط؛ بل بقدرتها على تحقيق توازن بين الاستثمار وجودة الحياة. ومع تنامي الاهتمام العالمي بالمدن الذكية والمستدامة، أرى أن الدقم تملك كل المقومات لتكون أول مدينة عمانية تعكس هذا المفهوم بشكل عملي مدينة تجذب الاستثمار لا بحجمها فقط، بل بقيمتها، وبقدرتها على أن تكون بيئة حقيقية للحياة والإبداع.
وفي العقد المقبل، ستتحول الدقم- إن شاء الله- من مشروع تنموي إلى رمزٍ لعُمان الحديثة؛ مدينة توازن بين الإنسان والمستقبل، بين البحر والصحراء، وبين الطموح والواقعية.
إنها ليست وجهة اقتصادية فحسب؛ بل حلم وطني يُبنى بخطى ثابتة نحو الغد.