بعد ستة عقود على اغتيال مالكوم إكس، يعود صدى كلماته ونضاله في شخص سياسي مسلم هو زهران ممداني، المرشح لمنصب عمدة نيويورك، الذي يجسد روح العدالة والمساواة التي دعا إليها مالكوم. كلاهما واجه ضغوطًا لتهميش هويته الدينية، لكنهما اختارا أن يجعلا منها مصدرًا للقوة، وأن يربطا بين النضال ضد العنصرية في أمريكا والمعركة العالمية ضد الاستعمار والهيمنة.



ويمثل ممداني تحديًا جديدًا للمؤسسة السياسية الأمريكية، بمواقفه الجريئة الداعمة لفلسطين وانتقاده العلني لدعم واشنطن لـ"إسرائيل"، في وقت تتغير فيه مواقف جيل كامل من الأمريكيين تجاه الصراع.

وفيما يلي النص الكامل لمقال الكاتبة التونسية والخبيرة في شؤون الشرق الأوسط سمية الغنوشي، المنشور عبر موقع "ميدل إيست أي".

في الولايات المتحدة، النضال من أجل العدالة لا يموت أبدًا. قد يُدفن أو يُمحى أو يُهمّش، لكنه ينهض دائمًا بأشكال جديدة، ووجوه جديدة، وأصوات جديدة.


رجلان تفصل بينهما أجيال لكنهما يقفان على أرضية أخلاقية واحدة، أحدهما رمز لحركة الحقوق المدنية، والآخر سياسي صاعد في نيويورك.

بعد ستة عقود على اغتيال مالكوم إكس، يواصل زهران ممداني، المرشح لمنصب عمدة مدينة نيويورك، تجسيد ذلك الإيمان العميق والصارم بالمساواة والعدالة والتحرر.

كان مالكوم إكس، شأنه شأن ممداني، مسلمًا يعتز بهويته. تشكّل تصوره المبكر للعالم في ظل الفصل العنصري، والقومية السوداء التي تبنّتها حركة “أمة الإسلام”، وهي حركة قلبت مفاهيم تفوّق العرق الأبيض، لكنها في الوقت نفسه قسمت العالم إلى أبيض وأسود، وظالم ومظلوم.

بالنسبة لرجل لم يعرف سوى وحشية قوانين “جيم كرو”، منظومة الفصل العنصري التي فُرضت في جنوب الولايات المتحدة أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، بدا كأنّ هذا الواقع قدر لا يمكن تغييره.

ثم جاءت رحلته إلى مكة. ما شاهده خلال مناسك الحج حطّم تلك الثنائية: “قد تندهشون من هذه الكلمات التي تصدر عني، لكن ما رأيته وعايشته في هذه الرحلة قد أجبرني على مراجعة الكثير من أنماط تفكيري السابقة، والتخلي عن بعض استنتاجاتي الماضية”.

في البلد الحرام، رأى مالكوم إكس ما كانت تصوّره الولايات المتحدة على أنه مستحيل: بشر من كل لون ولسان – شُقر بعيون زرقاء جنبا إلى جنب مع أفارقة سُود – توحدهم طقوس العبادة والكرامة الإنسانية والهدف المشترك.

قال واصفا ذلك المشهد: “لم أشهد قط مثل هذا الكرم الصادق، والروح الطاغية من الأخوّة الحقيقية… كنا جميعًا نؤدي الطقوس نفسها، ونُظهر روحًا من الوحدة والأخوّة لم أكن أتصور، بناءً على تجاربي في أمريكا، أنها يمكن أن توجد بين الأبيض وغير الأبيض”.

القمع الممنهج
لم يُعد الحج تشكيل رؤيته السياسية فحسب، بل غيّر كيانه أيضًا. عاد مالكوم إكس إلى الولايات المتحدة إنسانا آخر، حاملاً رؤية لا تقتصر على تحرير السود، بل تشمل كرامة الإنسان على نطاق أوسع: “تحتاج أمريكا إلى فهم الإسلام، لأنه الدين الوحيد الذي يقضي على مشكلة العنصرية في المجتمع الأمريكي”.

لم يعد مالكوم إكس يرى العنصرية مجرد خطيئة أمريكية داخلية، بل منظومة عالمية – شبكة استعمارية تربط نضال الأمريكيين من أصل إفريقي بنضالات الجزائريين والغانيين والفيتناميين والفلسطينيين.

وفي مقاله “منطق الصهيونية“، وصفها بأنها “شكل جديد من أشكال الاستعمار” – مشروع يُخفي نزع أراضي الآخرين خلف خطاب إنساني. لقد وصف واقعًا ظلّ القادة الأمريكيون يتجاهلونه عمدًا: القمع ليس محليًا، بل هو بنيوي وعالمي.

بعد ستة عقود، يقف سياسي شاب في أحد مساجد نيويورك ويتحدث بطريقة كان مالكوم إكس يعرفها جيدًا: “لن أغيّر ما أنا عليه. لن أغيّر طريقتي في الأكل. لن أغيّر الدين الذي أعتز بالانتماء إليه. لكن هناك أمر واحد سأغيّره: لن أبحث عن نفسي في الظلال بعد الآن”.

عندما دخل زهران ممداني عالم السياسة لأول مرة، طُلب منه أن يُخفي هويته الدينية حتى لا ينظر إليه المجتمع الأمريكي كـ”مسلم متشدد”. هي دروس استوعبها كثير من المسلمين في الغرب: اطلب أقل، توقّع أقل، وكن ممتنًا للفتات.

لكن، مثل مالكوم إكس، رفض ممداني التهميش. لم ينظر إلى هويته الدينية بوصفها عبئًا، بل مصدرًا للقوة.

وقال في مقطع فيديو نُشر مؤخرًا على وسائل التواصل الاجتماعي: “حلم كل مسلم هو أن يُعامل كما يُعامل أي نيويوركي آخر. لقد طُلب منا لفترة طويلة أن نرضى بأقل من ذلك، وأن نقبل بما يُلقى إلينا من فتات، لكن ذلك انتهى”.

تهديد وجودي
عُرف زهران ممداني، الاشتراكي الديمقراطي البالغ من العمر 34 عامًا، منذ فترة طويلة بأنه شجاع ومثير للجدل. منذ أيام دراسته الجامعية، كان مناصرا صلبا لحقوق الفلسطينيين، وقد دعم حملات المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، وهو موقف لا يزال جوهريًا في رؤيته السياسية.
أدان ممداني علنًا تواطؤ الولايات المتحدة في العنف الإسرائيلي، وصرّح بأنه في حال توليه منصب العمدة، سيسعى إلى اعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إذا وطأت قدماه مدينة نيويورك، وهو موقف رمزي أشعل حماس مؤيديه وأثار غضب خصومه.


كان رد الفعل عنيفًا. ففي المرحلة الأخيرة من السباق الانتخابي، ضخّت الشركات الكبرى والمؤسسات العقارية مبالغ طائلة، تجاوزت 22 مليون دولار، في محاولة يائسة من أثرياء المدينة لوقف حملة يعتبرونها تهديدًا وجوديًا لنفوذهم.

ما يمثّله ممداني لا يقتصر على تحدي صورة إسرائيل أو زعزعة المنطقة الآمنة التي اعتادها التيار الديمقراطي. إنه يجسّد تحولًا في نظرة الجيل الجديد لإسرائيل، والذي لم عد يراها لا كحليفٍ محاصر، بل كدولة مارقة، وينظر للفلسطينيين على أنهم الطرف المقهور في معادلة القوة الغاشمة. ورغم الحملة التي شنها ضده أصحاب المليارات وجماعات الضغط العقارية، فإن تحالفه اتسع ولم يتقلص.

جسّد مالكوم إكس توجهًا سياسيًا لم تستطع المؤسسة الأمريكية تحمله: مزيج من الإسلام ورؤية راديكالية عالمية مناهضة للاستعمار. لم تكن نزعة التمرّد وحدها هي ما أخافهم، بل وضوح رؤيته الأممية. عبّر مالكولم إكس عن ذلك قائلا: “لا يمكن أن يوجد نظام رأسمالي دون عنصرية.”
لم يكن اغتياله عام 1965 مجرد استهداف لشخصه، بل محاولة لإجهاض حركة تتحدى تفوّق العرق الأبيض والإمبريالية والهيمنة الرأسمالية من جذورها.

يواجه ممداني اليوم نوعًا مختلفًا من الاستهداف، يعتمد على الاغتيال المعنوي. تُشنّ ضده حملة تشويه متواصلة تحاول وصمه بالتطرّف، وتحويل تضامنه مع فلسطين إلى عبء، ومعتقده إلى سلاح يُستخدم ضده.
هكذا تتصرّف السلطة حين تشعر بالتهديد، إذا لم تستطع احتواء الحركة، ستحاول سحقها. وإذا لم تتمكن من إسكات الرسالة، ستعمل على تشويه حاملها. القوى التي أخافها مالكوم إكس، تخشى اليوم من نسخته المعاصرة – مسلم يفتخر بدينه، أمميّ شرس، يؤمن بالعدالة، ولا يخشى مواجهة الإمبراطورية.

اتساع الفجوة
تتجاوز الرهانات حدود مدينة نيويورك. فالمدينة التي تضم أكبر تجمع يهودي خارج إسرائيل تحوّلت إلى ساحة لمساءلة أعمق، لا تتعلق فقط بالسلطة والمبادئ، بل أيضًا باتجاهات آراء اليهود الأمريكيين.
كشف استطلاع رأي حديث أن 43 بالمئة من الناخبين اليهود في نيويورك سيصوّتون لممداني، من بينهم 67 بالمئة ممن تتراوح أعمارهم بين 18 و44 عامًا، وهو تحولٌ في موقف جيل كامل كان يصعب تصوّره قبل بضع سنوات.

على المستوى الولايات المتحدة، تُظهر استطلاعات الرأي اتساع الفجوة: غالبية اليهود الأمريكيين باتوا يعتقدون أن إسرائيل ارتكبت جرائم حرب في غزة، مع ارتفاع عدد من ينظرون إلى الصراع من منظور حقوقي، وليس من منظور عرقي.

تتابع وسائل الإعلام الإسرائيلية المشهد عن كثب. في أحد المقالات التحليلية، ورد أن هذه الانتخابات – بعيدًا عن أي تغيير في طابع المدينة – قد تكشف “ما إذا كان دعم إسرائيل يُعد عبئًا أم ميزة في الولايات المتحدة، وما إذا كان انتخاب ممداني سيمثّل الاتجاه الذي سيسلكه قادة الحزب الديمقراطي مستقبلاً” في العلاقات الأمريكية الإسرائيلية. حتى غياب موقف موحّد وعلني من القيادات اليهودية ضد ممداني، اعتُبر تحولًا لافتًا عن التقاليد السائدة منذ زمن.

عندما ألحّت وسائل الإعلام على ممداني مرارًا ليُعلن موقفه من حق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية، أجاب بوضوح: “لا أشعر بالارتياح في دعم أي دولة تقوم على تسلسل هرمي للمواطنة على أساس الدين أو أي معيار آخر. أعتقد أن المساواة، كما هي مكفولة في هذا البلد، يجب أن تُكرّس في كل دول العالم. هذه هي قناعتي”.

نبض التمرّد والتحرر
كان مالكوم إكس من أوائل القادة السود البارزين الذين تحدثوا عن فلسطين بكل شجاعة. في عام 1964، زار غزة، والتقى بقيادات فلسطينية، وكتب مقالته الشهيرة “منطق الصهيونية”. رأى في النضال الفلسطيني ما رآه في ألاباما: احتلال وعنف ومحو للإنسانية. وقد كتب قائلا: “الاحتلال الحالي لفلسطين العربية لا أساس له من الناحية التاريخية أو القانونية”.

كان ممداني بدوره واضحًا في التعبير عن الموقف الذي يرواغ فيه الآخرون، حيث قال: “تحوّلت غزة يوما بعد يوم إلى مكانٍ لم يعد فيه التعبير عن الحزن يجدي نفعا”، وأدان حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين.

بينما يتردد السياسيون في إظهار مواقفهم، يُسمّي ممداني الأشياء بأسمائها. وبينما يلجأ الآخرون إلى المرواغة، يقف هو على أرضية أخلاقية واضحة. يستحضر ممداني في صراحته شجاعة مالكوم إكس.

بالنسبة لمالكوم إكس وممداني، لم تكن أفريقيا مجرد أرض للأجداد، بل رؤية للعالم. شكّلت رؤية مالكولم إكس للوحدة الأفريقية أساسًا لنزعته الأممية، وساهمت رحلاته إلى غانا ومصر ونيجيريا في تعميق فهمه للاستعمار كنظام عالمي.


أما ممداني، فقد ورث منظورًا مشابهًا من والده محمود ممداني – المفكر البارز الذي أصبحت أعماله حول الاستحلال الاستيطاني والسلطة ما بعد الاستعمارية من المراجع الأساسية -، ومن تاريخ عائلي موثّق في كتاب “من مواطن إلى لاجئ“، الذي يتناول مفاهيم الهجرة والإمبراطورية والانتماء كوقائع ملموسة، وليست تصورات مجردة.

من كان يتخيّل أنه في الذكرى المئوية لميلاد مالكوم إكس، والذكرى الستين لاغتياله، ستكون مدينة نيويورك على أعتاب انتخاب أول عمدة مسلم في تاريخها؟

قال مالكوم إكس ذات مرة: “إن لم تكن مستعدًا للموت من أجلها، فاحذف كلمة حرية من مفرداتك”. ويقول ممداني: “سأجد ذاتي في النور”.

رجلان.. وفترتان.. وتيار واحد يجمعهما: نبض التحرر العنيد والمتمرّد.

هذه ليست حياة جديدة تُبعث في حركة مضت. إنها الحركة ذاتها – لم تكتمل، ولم تنكسر، وهي تمضي قدمًا.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة صحافة عربية صحافة إسرائيلية مالكوم إكس زهران ممداني نيويورك الولايات المتحدة الولايات المتحدة نيويورك مالكوم إكس زهران ممداني صحافة صحافة صحافة سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الولایات المتحدة مدینة نیویورک زهران ممدانی د مالکوم إکس

إقرأ أيضاً:

ترامب: الولايات المتحدة ستجري تجارب نووية إذا قامت دول أخرى بذلك

ترامب: الولايات المتحدة ستجري تجارب نووية إذا قامت دول أخرى بذلك

مقالات مشابهة

  • الولايات المتحدة تدعم رفع عقوبات قانون قيصر عن سوريا
  • ترامب: الولايات المتحدة ستجري تجارب نووية إذا قامت دول أخرى بذلك
  • الولايات المتحدة تخطط لسحب بعض قواتها من 3 دول أوروبية
  • مختص يكشف أبرز الفرص التي يمكن أن يتيحها الذكاء الاصطناعي للاقتصاد السعودي
  • التواصل الاجتماعي وأمور أخرى.. هذه أسرار تقدم ممداني بانتخابات نيويورك
  • الرئيس الصيني: يمكن العمل مع الولايات المتحدة لإنجاز المزيد من الأمور العظيمة والملموسة للعالم
  • رئيس وزراء قطر: عقد محادثات بين الولايات المتحدة وإيران يمكن أن تؤدي إلى اتفاق أفضل
  • تنحي محامي أحد المتهمين بقضية شهيد الشهامة بالغردقة: وجدت في نفسي ما لا يمكن إسكاته
  • الولايات المنقسمة العربية