الشباب والتمكين الاقتصادي
تاريخ النشر: 1st, November 2025 GMT
د. صالح الفهدي
كان لافتًا وجود أطفالٍ هم في الحقيقة روَّادُ أعمالٍ صغار، وهم يتحدَّثون إلى الجمهور عن تجاربهم في إنشاء المشاريع، ولكن لم يكن ذلك مفاجئًا؛ إذ إنَّ أغلبهم كانَ من ولاية نزوى، وقد أتاح لي وجودي بينهم الاستماعَ إلى تجاربهم وقصصهم، وذلك في إطار فعالية نظَّمتها دائرة الشراكة وتنمية المجتمع بالمديرية العامة للتنمية الاجتماعية بمحافظة الداخلية.
الفكرةُ في حدِّ ذاتها رائعة: أن يتحدَّث صنَّاع محتوى إيجابي، أو نرى أطفالًا صغارًا وهم يتحدَّثون عن مشاريعهم التجارية. وإذ قلتُ بأنَّ أغلب الأطفال الذين تحدثوا عن مشاريعهم من نزوى وأن ذلك لم يكن مفاجئًا لسببِ ما عُرف عليه أهُل نزوى من مزاولة التجارة بأنفسهم، لهذا ينشأ أبنائهم على عادات آبائهم وأجدادهم، وقد وجدوا أن التجارة مصدرَ رزقٍ وفيرٍ، كما أنها توفِّر حريَّةً ماليةً وسيعة.
طُلبَ مني أن ألقي كلمةً تحدَّثتُ فيها عن السعادة التي غمرتني وأنا أستمع لأعمارٍ صغيرةٍ استطاعت أن تحسِّن الوضع المعيشي لأُسرها، وهي لم تبلغ بعد سنَّ الحلم، وتمنيت أن يجول هؤلاء الأطفال أرجاء السلطنة ليتحدثوا عن تجاربهم وقصصهم كي يُلهموا الآخرين بما يحملونه بين جوانحهم من طاقة إيجابية، ترى البياض الواسع المليء بالفرص.
بعد نهاية الفعالية جاءني أحد هؤلاء الأطفال أصحاب المشاريع فقال لي: لقد تحدَّثتَ بأنَّ على كل صاحب موهبة أن يستثمر في موهبته، فلماذا لا يركِّز التعليم على ذلك؟ واستطرد سائلًا: لماذا لا نجد موادًا دراسية تهتمُّ بتنمية المواهب والقدرات؟ لقد فتَحَتْ تساؤلاته ما كنتُ أكرِّره من أن التعليم يجب أن يُلامس الواقع، ويواكب مقتضياته، ويتوافق مع متغيِّراته، ولا يجب أن يظل رهينًا لنظام جامد دون تغيير عقودًا طويلة.
إنَّ مسألة تمكين الشباب لا تبدأ في مرحلة متأخرة؛ بل هي مما يعزَّز في مراحل مبكرةٍ من التعليم، وذلك عبر الاعتناء بالمواهب والقدرات وتحفيز التفكير، والإبداع، وتحمل المسؤولية، ولا جدال في أن المدرسة هي التي تصقلُ المواهب، وتعزز الطاقات والمهارات، وتسهم في تشكيل التوجُّه، والميول.
وغاية التعليم ليس أن يُحشى ذهنُ الطالب بالمعلومات حشوًا، فتظل في ذهنه حبيسة لا يعرف كيف يترجمها إلى الواقع، فالكثير من البشر يملكون المعرفة النظرية ويتحدثون بها حتى تقول لو أنَّ هؤلاء قرروا فتح مشاريع لنجحوا فيها نجاحًا باهرًا، ولكن ذلك ليس صحيحًا، إنَّما من يمارسُ التجربة في الواقع هو أدرى به، ولذلك يقول المثل الشعبي "اسأل مجرِّب ولا تسأل طبيب" والمقصد ترجيح صاحبُ التجربة وليس التقليل من شأنِ الطبيب إن نظرنا إلى الشقِّ الإيجابي في المثل.
قُلتُ في كلمتي وأنا أمسكُ بيدي ورقةً: "أن الشهادة ورقة تدلُّ على أنك متعلم، ولا تدلُّ على أنك فاهم" فالفهم الحقيقي يظهرُ في الاحتكاك بالواقع، وما لم يمزج التعليم النظري بالعملي، وما لم يُعتنى بالمهارات الحياتية والريادية مثل مهارة التواصل، والقيادة، واتخاذ القرار، وحل المشكلات، وما لم يُدرَّب الطلاب على مهارات الذكاء العاطفي فإن التعليم لن يحقِّق غاياته في تشكيل شخصية تستطيع أن تحوِّل المعلومة إلى معرفة فيما يُعرف بـ"اقتصاد المعرفة".
ذات مرَّة تحدَّثتُ إلى جهةٍ أطلقت مسابقة لإجراء بحوث زراعية، فقلتُ لهم: لِمَ بحوث؟ لِماذا لا تكون الأعمال المقدَّمة مشاريع حقيقية على أرض الواقع؟ مثل أن تكون المشاريع زراعية حتى وإن كانت تجارب زراعية لا تتعدَّى مساحة مترٍ مربِّع واحد، فذلك ما يُلهم المشاركين أفكارًا ذات اتصالٍ بالواقع.
الطلَّاب حين يدمجون في أعمال ترتبط بواقع المجتمع وسوق العمل، تتولَّدُ لهم أفكار خلَّاقة، ويكتشفون مهارات مخفيَّة فيهم، بل واتجاهات وميول مختلفة في مستقبلهم المهني. وفي هذا السياق، تدرسُ ابنتي في جامعة مسقط؛ حيث يقتضي نظام الجامعة أن يقضي الطلبة السنة الثالثة في تدريبٍ عمليٍّ بتنسيقٍ مع الجامعة، وهي فكرةٌ تتوافق مع طرحي الدائم حول إدماج المُتعلِّم في سوق العمل، حتى يستلهم الأفكار، ويكتشف ذاته، ويحدِّد نقاط القوة والضعف في مهاراته الشخصية.
في عالم اليوم يجب أن ينطلق التمكين الحقيقي من تحرير العقول، وتوجيهها نحو التفكير النقدي والإبداعي؛ فليس الهدف أن يحفظ الطالب المعلومة، بل أن يفكر فيها ويعيد إنتاجها. ويتحقق ذلك حين تُربط المناهج بحياة الطالب اليومية، فيشعر أن ما يتعلمه له أثر في بيئته ومجتمعه، وأن المعرفة ليست غاية في ذاتها؛ بل وسيلة للبناء.
ولكي تعزَّز قيم الهوية والانتماء الوطني، فإنَّ من المُهم أن يُتاح للطلبة فرص المشاركة في الأنشطة التطوعية والمبادرات الوطنية، وأن يُربط التعليم بخدمة المجتمع، عبر مشاريع بيئية أو ثقافية أو اجتماعية، ومحصَّلة ذلك أنَّه حين يعرف الطلبة تاريخهم ويعتزون بتراثهم، يصبحون أكثر استعدادًا لخدمة وطنهم، وتحمُّلًا للمسؤوليات والواجبات بهمَّةٍ عاليةٍ، وروح وثَّابة.
الشاهدُ أن التمكين هو عملية تأسيسية تنطلقُ في مراحل مبكرة، وفق سياقات تعليمية وعمليَّة تأخذُ في اعتبارها تعزيز القدرات الشخصية، واكتشاف المواهب، وتنمية المهارات. هذه العملية ستضمن نشوء جيلٍ قادرٍ على صنع القرار، وتحديد الاتجاه، وإنتاج المعرفة.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الرياضة الافتراضية.. سلاح جديد ضد الوحدة
بين ضغوط العمل من المنزل وازدحام الشاشات، وجد كثيرون أنفسهم في عزلة غير مقصودة. لكن التكنولوجيا، التي كانت سببًا في هذا البُعد، عادت لتُقدّم الحل عبر الرياضة الافتراضية (Virtual Fitness)، التي تمزج الحركة بالمتعة، واللياقة بالتواصل، لتصنع تجربة تجمع الجسد بالعالم من جديد.
من الصالة الواقعية إلى الصالة الافتراضيةعلى عكس ألعاب الإنترنت الجماعية التقليدية على الحواسيب أو أجهزة التحكم، تُتيح ألعاب الواقع الافتراضي الاجتماعية للاعبين التفاعل داخل عالم رقمي مشترك باستخدام مزيج من نظارات الواقع الافتراضي (Head-Mounted Display)، والصوت، وأدوات التحكم، مما يوفر مستوى أعمق من الانغماس والتجربة الحسية.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2من أجل ساقين أكثر قوة.. امنح عضلاتك الضامة الاهتمام الذي تستحقهlist 2 of 2لماذا تشعر بالوخز والصداع والتشنجات أثناء التمارين؟ وهذا ما يجب فعلهend of listوتتطلب هذه الألعاب من اللاعب ارتداء نظارة خاصة وأجهزة تتبّع دقيقة لحركات الجسد، ليتمكّن من تحريك شخصية الأفاتار (Avatar) الخاصة به، والتفاعل في بيئةٍ افتراضية بالكامل، باستخدام حركاته الواقعية وكأنّه يعيش التجربة فعليا.
منصات افتراضية تُحاكي المجتمعتُعَدّ من أشهر هذه المنصّات زويفت (Zwift) وسوبرناتشورال (Supernatural) وفيت إكس آر (FitXR)، وهي تطبيقات تُمكّن المستخدمين من الدخول إلى عالم رياضي ثلاثي الأبعاد، حيث يمكنهم الركض بين جبال الألب أو ركوب الدرّاجات وسط مدينة خيالية مزدحمة بالمشاركين من مختلف أنحاء العالم.
وتجمع هذه المنصّات بين عناصر اللعب والرياضة والتواصل الاجتماعي، إذ تُكافئ المشاركين على إنجازاتهم، وتُتيح لهم الدردشة الصوتية وتبادل التشجيع والنصائح، مما يجعل التجربة أقرب إلى نادٍ اجتماعي رقمي نابض بالحيوية.
وتقول عالمة النفس الأميركية كارول كافانو في دراسة نشرتها جامعة ستانفورد عام 2024: "الرياضة الافتراضية لا تُحسّن اللياقة البدنية فحسب، بل تخلق روابط اجتماعية رقمية تُشبه الصداقات الواقعية في أثرها النفسي".
الصحة النفسية واللياقة الرقميةوفقًا لدراسة صادرة عن جامعة أكسفورد حول العلاقة بين اللياقة الرقمية والصحة النفسية، تبيّن أن ممارسة التمارين عبر التطبيقات الافتراضية ساعدت على تقليل مشاعر الوحدة بنسبة 25% لدى المشاركين الذين يمارسونها بانتظام.
إعلانويؤكد الباحثون أن الدمج بين النشاط الجسدي والتفاعل الاجتماعي داخل المنصّات الافتراضية يخلق تجربة علاجية مزدوجة؛ فهي من جهة تعزز إنتاج هرمونات السعادة (الإندورفين)، ومن جهة أخرى توفّر دعمًا عاطفيًّا غير مباشر من خلال التواصل الجماعي والتشجيع المتبادل.
وفي دراسة أخرى، وُجد أن التمارين الجماعية في بيئات الواقع الافتراضي تُحفّز مشاعر الانتماء حتى لدى الأشخاص الانطوائيين أو أولئك الذين يعملون من المنزل لفترات طويلة.
وتقول الباحثة جيليان بيرس، من فريق الدراسة: "الرياضة الافتراضية لا تُعيد بناء العضلات فحسب، بل تُعيد بناء العلاقات أيضا".
يخوض عدد من كبار السن في بريطانيا تجربة جديدة تهدف إلى مكافحة الشعور بالوحدة والعزلة، وذلك عبر دخولهم إلى عوالم رقمية تفاعلية باستخدام تقنيات الواقع الافتراضي، ضمن تجربة بحثية تقودها جامعة شيفيلد هالام بالتعاون مع مؤسسة "إيج يو كيه شيفيلد"، تحت اسم مشروع "بلانت ويلبينغ".
وفي إطار هذه التجربة، يرتدي المشاركون نظارات الواقع الافتراضي للمشاركة في أنشطة اجتماعية وترفيهية متنوعة، مثل الرقص أو لعب الورق (الكوتشينة)، داخل بيئة رقمية مصمَّمة لتمنحهم إحساسًا بالحضور والتفاعل الحقيقي.
وتقول تيريزا باركر، الرئيسة التنفيذية لمؤسسة إيج يو كيه شيفيلد، إن هذا المشروع يحمل إمكانية إحداث نقلة نوعية في أساليب تعزيز الصحة النفسية ورفع جودة الحياة لكبار السن، من خلال خلق مساحة اجتماعية آمنة تمكّنهم من التواصل والمشاركة بعيدًا عن الشعور بالعزلة أو الانعزال.
ما الذي يجعل هذه الرياضة أكثر من مجرد تمرين رقمي؟السر في البعد الاجتماعي الذي تمنحه، فالتطبيقات الحديثة صُممت لتشبه مجتمعات صغيرة، يمكن للمستخدمين فيها الدردشة والمشاركة في تحديات أسبوعية وتلقّي التشجيع والنصائح من آخرين حول العالم. هذا التفاعل، رغم أنه يتم عبر الشاشة، يُولّد شعورًا بالرفقة والانتماء في زمن تزداد فيه العزلة الرقمية.
ولا يقتصر الأمر على مواجهة الوحدة، بل يمتد إلى الهوية الرقمية ذاتها؛ فجيل الألفية "الميلينيال" و"جيل زد" نشآ في بيئة يرون فيها التفاعل الافتراضي جزءا طبيعيا من حياتهم اليومية.
يقول أليكس مورغان، أحد مدربي منصة فيت إكس آر: "الشباب لا يبحثون فقط عن جسم صحي، بل عن مجتمع رقمي يشعرون فيه بأنهم مرئيون ومفهومون".
لهذا، تمنحهم هذه المنصّات بيئة آمنة خالية من الأحكام، إلى جانب عناصر اللعب والتحدي مثل تسجيل النقاط أو الحصول على مكافآت رقمية، مما يجعل التجربة أكثر متعة واستمرارية.
ويقول أحد مستخدمي فيت إكس آر "لم أكن أظن أنني سأكوّن صداقات عبر تمرين رياضي، لكننا اليوم نتمرن معا كل أسبوع ونتحدث بعد الجلسة كما لو كنا في نادٍ حقيقي".
الرياضة كعلاج تكميلي للوحدةتوصي مؤسسة الصحة النفسية في بريطانيا باستخدام النشاط البدني كأداة لمواجهة الوحدة، والآن تُضاف الرياضة الافتراضية إلى هذه القائمة. فهي لا تتطلب تنقلا أو التزاما مكانيا، ما يجعلها خيارا متاحا للأشخاص الذين يعانون من قلق اجتماعي أو يعيشون بمفردهم.
في الوقت نفسه، يحذر الخبراء من الاعتماد الكامل على هذا النوع من التواصل فقط.
إعلانيقول الدكتور (نيك هولمز)، عالم النفس في جامعة إدنبرة: "إن الرياضة الافتراضية أداة رائعة لتخفيف الوحدة، لكنها لا يمكن أن تحل محل العلاقات الواقعية، والتوازن هو المفتاح".
قد لا تعوّض الرياضة الافتراضية دفء اللقاءات الحقيقية، لكنها بالتأكيد تفتح بابًا جديدًا لفهم كيف يمكن للتكنولوجيا أن تخفف من آثار الوحدة.
ففي عالم يُقاس فيه التواصل بعدد النقرات، تُعيد هذه المنصات تعريف مفهوم اللقاء من مجرد اتصال عبر الإنترنت، إلى تجربة إنسانية تشاركية تجمع الجسد والروح في فضاء رقمي مشترك.