إيلان بابيه يفكك سرديات الصراع الإسرائيلي الفلسطيني
تاريخ النشر: 16th, November 2025 GMT
تحتل أعمال المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه مكانة فريدة في أدبيات الصراع العربي الإسرائيلي، نظرا لقدرتها على زعزعة البُنى السردية التي كرّستها الصهيونية على مدى عقود.
فالمؤرخ بابيه ليس باحثا يسعى إلى تدوين أحداث الماضي فحسب، بل هو صاحب مشروع نقدي يستند إلى مساءلة جوهر الفكرة الصهيونية نفسها، في جذورها الفكرية وممارساتها العملية، منذ تأسيسها في القرن الـ19، مرورا بالنكبة وما تلاها، وصولا إلى مجازر غزة المعاصرة.
يأتي كتابه الصادر حديثا عن منشورات تكوين "موجز تاريخ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني"، بترجمة شهد د.عباس، بوصفه خلاصة مكثّفة لهذه الرؤية، فهو يقدم بلغة دقيقة ومتماسكة سردا تاريخيا يعيد بناء الصراع من جذوره، واضعا القارئ أمام الصورة الكاملة لقرن من الاستعمار الاستيطاني وأشكاله المتحوّرة.
يشير آفي شلايم في تقديمه للكتاب إلى أن بابيه يُعد واحدا من أكثر الباحثين دراية بتفاصيل الصراع وتشعباته، ومع أن هذا التقديم يحمل بعدا شخصيا، نظرا للصداقة التي تربطه بالمؤلف منذ منتصف الثمانينيات، لكنه يوضح أيضا أهمية الدور الذي لعبه بابيه ضمن مجموعة المؤرخين الجدد الذين أعادوا قراءة حرب 1948 خارج السردية الصهيونية التقليدية.
تعود بدايات تلك المسيرة إلى أطروحة الدكتوراه التي قدّمها بابيه في أكسفورد عام 1984، حين فكّك الادعاء القائل بأن بريطانيا اتخذت موقفا عدائيا من الدولة اليهودية الناشئة، فاستنادا إلى أرشيفات بريطانية، بيّن أن لندن لم تتآمر ضد المشروع الصهيوني، بل أسهمت، بصورة غير مباشرة، في إجهاض إمكانية نشوء دولة فلسطينية.
وهذا التحليل كان نقطة تحول مهمة، ليس في مسيرة بابيه وحده، بل في مجمل الدراسات التاريخية حول الانتداب والنكبة.
ومنذ ذلك الحين واصل المؤرخ إنتاج سلسلة أعمال عالجت مراحل مختلفة من الصراع، مع تركيز خاص على الفترة التي تلت 1948 وما انطوت عليه من تهجير واسع، وسياسات الاحتلال، وأشكال السيطرة البنيوية.
إعلانولا يكتفي بابيه في كتاباته بتجميع الوثائق أو إعادة ترتيب الوقائع، بل يقدّم قراءة نقدية للسلوك الصهيوني، مستندا إلى شهادات وروايات متعددة، إسرائيلية وعربية على السواء.
بنية مكثفة لرواية ممتدةيقع الكتاب في 6 فصول رئيسية تتبّع تطور الصراع منذ نهاية القرن الـ19 إلى حرب غزة الحالية، ويبدأ السرد من جذور الحركة الصهيونية ومشروع هرتزل الاستعماري في كتابه دولة اليهود (1896)، ليصل بعد ذلك إلى مرحلة الانتداب البريطاني التي مثّلت المسؤولية المباشرة الأولى عن إعادة تشكيل فلسطين سياسيا وديمغرافيا.
ولا يكتفي بابيه بإعادة ترتيب الوقائع، بل يسلّط الضوء على السياسة المنهجية التي أدت إلى تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين، مستعرضا خطة دالت بوصفها الوثيقة المركزية التي تكشف الطابع الممنهج للتطهير العرقي.
يمتد التحليل إلى حروب 1967 و1973، حيث مكّنت الأولى إسرائيل من بسط سيطرتها الكاملة على الأراضي التاريخية لفلسطين، في حين أعادت الثانية تشكيل الحسابات العسكرية والسياسية في المنطقة، كما ينظر المؤلف إلى الانتفاضتين الفلسطينيتين، على أنهما شكّلتا لحظة مقاومة شعبية لم تستطع السردية الإسرائيلية احتواء دلالاتها.
ويمنح الكتاب مساحة خاصة للمسار السياسي بعد أوسلو، حيث يصفه بابيه بالفشل البنيوي، محمّلا الاستيطان -الذي تجاوز 700 ألف مستوطن في الضفة- مسؤولية انهيار أي إمكانية لحل الدولتين.
الصهيونية: قراءة نقديةفي مركز المشروع الفكري للمؤلف يقف تفكيك الزعم القائل بأن الصهيونية حركة تحرر قومي لليهود.
ويرى بابيه أن هذا التعريف يطمس جوهر الصهيونية بوصفها حركة استعمار استيطاني، فرضت مشروعا على شعب آخر بالقوة العسكرية، وبدعم مباشر من القوى الغربية.
وبناء على هذا التحليل، فالمؤلف لا يرى أن شرعية إسرائيل قائمة حتى ضمن الحدود التي حددها قرار التقسيم، فضلا عن الأراضي التي احتلتها عام 1967، فالنشأة نفسها تضمنت ظلما مؤسسا لا يمكن تجاوزه بخطاب قانوني أو سياسي.
ومن هذا المنطلق، يقترح بديلا للفكرة الصهيونية: دولة ديمقراطية ثنائية القومية تضمن المساواة الكاملة لجميع سكانها في الحقوق والواجبات، بعيدا عن منطق الامتيازات المستمد من العِرق أو الدين.
كُتب هذا العمل تحت وقع المأساة التي شهدتها غزة عقب هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وهو ما يمنح الفصل الأخير طابعا تحليليا وأخلاقيا بالغ الأهمية، ويؤكّد بابيه أن هذا الحدث لا يمكن فهمه بمعزل عن قرن كامل من الاستعمار الاستيطاني الذي مارسته إسرائيل بدعم إمبريالي مستمر.
وبحسب منطق الاستعمار الاستيطاني كما يذكّر المؤلف بما قاله نعوم تشومسكي في كتاب مشترك بينهما فإن الهدف النهائي يكمن في إقصاء السكان الأصليين، وهو ما يجعل العنف الإسرائيلي ليس ردّ فعل، بل سياسة راسخة.
ومن منظور بابيه، تمثل الحرب على غزة مثالا فادحا لهذا المنطق، فهي ليست مجرد عملية عسكرية، بل استكمال لمشروع تطهير عرقي متراكم، وصل إلى حدّ ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية. وهكذا يصبح ما يحدث في غزة اليوم صدى لما حدث عام 1948، لا اختلافا عنه.
من المؤرخ إلى الفاعل السياسييحمل المشروع الفكري للمؤلف بعدا أخلاقيا وسياسيا واضحا إلى جانب قيمته البحثية، فبابيه الذي يعيش في المنفى في بريطانيا منذ سنوات، يمثل إحدى أبرز الأصوات الإسرائيلية المعارضة للمسار الصهيوني الرسمي.
إعلانورغم الانتقادات الحادة التي يواجهها داخل إسرائيل، واتهامات التحيّز والتشويه، خصوصا في كتاباته حول النكبة وغزة، فإن مكانته في الوسط الأكاديمي العالمي تستند إلى منهجيته الصارمة واستناده إلى مصادر أولية واسعة، بما في ذلك الأرشيفات الإسرائيلية نفسها، كما يتميز بأنه من العدد القليل من الباحثين الإسرائيليين الذين يكتبون عن الفلسطينيين من داخل سياق معرفي متعاطف ومتجذر في قراءة المصادر العربية.
أهمية الكتاب في سياق المعرفة التاريخيةيأتي هذا الموجز ليشكل مدخلا مكثفا وعميقا في الوقت ذاته لفهم مسار الصراع ضمن إطار يربطه بالاستعمار الاستيطاني بوصفه إطارا كليا، لا مجرد سلسلة من الأحداث المنفصلة.
فالكتاب يقدّم رؤية تُعيد الصراع إلى جذوره البنيوية:
الاستيطان بوصفه أداة رئيسية. محو الفلسطينيين ماديا ورمزيا. صناعة سردية تاريخية بديلة تحلّ محل الواقع.وبذلك ينزع الكتاب القشرة التي تخفي حقيقة الصراع، القشرة التي طالما حاولت إخفاء التفاوت الهائل في القوة والحقوق والتاريخ خلال النكبات الماضية والحالية.
كتابة التاريخ في مواجهة السرديات
تبرز أهمية هذا العمل في كونه يُقدم تفسيرا مهما وتحليلا مركّزا لمسار الحركة الصهيونية، وطبيعة دولة إسرائيل، وعلاقة هذا المسار بالقضية الفلسطينية، ومن خلال رفض السردية التقليدية بأن الصهيونية حركة تحرر قومي بحتة، يفتح بابيه المجال أمام تساؤلات تتعلق بشرعية الدولة، وبالخيارات السياسية التي يمكن أن تُقدّم تحوّلا جذريا في العلاقة بين اليهود والفلسطينيين.
كما أن التركيز على البديل -دولة واحدة متساوية الحقوق- رغم أنه أقلّ انتشارا في النقاش الجاري، يُعدّ استفزازا فكريا لهيمنة نموذج "دولتين".
لذلك، فإن هذا الكتاب يستمد قيمته من قدرته على إعادة صياغة خطاب تاريخي ظلّ لعقود أسيرا لرواية تبريرية، فبابيه لا يقدّم تاريخا بديلا من أجل المعارضة فحسب، بل يعيد تشكيل أدوات النظر إلى التاريخ الفلسطيني والإسرائيلي معا، من خلال نقد جذري للسردية الصهيونية، ورسم إطار أوسع يفهم الصراع بوصفه مشروعا استعماريا لم يكتمل بعد.
وفي حين تتواصل المأساة في غزة، يصبح هذا الكتاب شهادة معرفية وأخلاقية على ضرورة قراءة الماضي لفهم الحاضر، وعلى مركزية العدالة التاريخية في أي تصور للحل.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: دراسات شفافية غوث حريات
إقرأ أيضاً:
فهم طبيعة الصراع قبل أن نلقي السلاح
تابعتُ برنامجًا على قناة الجزيرة، وفيه سجالٌ ومناظرة بين طرفين: الأوّل يدافع عن سلاح المقاومة، والآخر ضد سلاح المقاومة.
واستغربتُ جدًّا أن الطرف الثاني يرتكز في مجمل كلامه ومنطقه على أن إلقاء السلاح والتحول لحكومات مدنية سيُبعِد الذرائع تمامًا، فبعد أن تتحول بلداننا إلى حكومات مدنية، لن يبقى لإسرائيل ذريعة لمهاجمتها, وهذا منطق غريب جدًّا من عدّة نواحٍ:-
أوّلًا: هو غير واقعي؛ فإسرائيل هاجمت لبنان قبل أن يوجد حزب الله، وكان لبنان دولة مدنية آنذاك، واحتلت فلسطين قبل وجود حركه حماس وحركة الجهاد الاسلامي وبقية الفصائل.
في المقابل كلُّ مستوطن وكلّ مغتصب في كيان العدو هو شخصٌ مسلّح ومدرب على السلاح، حتى النساء والأطفال، وهي من تدعم المليشيات في أماكن عدّة، بشكل مباشر أو عبر أدواتها في المنطقة.
ثم إن كيان العدو أبعد عن المدنية من داعش فهو كيان محتل متوحش قائمٌ على تصوّراتٍ دينيةٍ توراتية، ذات طموحاتٍ تاريخيةٍ خرافية، وأحزابه تُقِرّ بذلك في برامجها الداخلية ويصرّح بذلك قادته علناً، ومنهم نتنياهو، حين تحدّث عن مشروع “إسرائيل الكبرى”، وهي بدورها لن تكون إلا محطةٌ نحو مشروعٍ أوسع للسيطرة على المنطقة.
إلقاء السلاح، في هذا السياق، لا يعني السلام، بل يعني إزالة عقبةٍ من طريق الاحتلال. إنك حين تُسقط سلاحك لا تُسقط عدوان العدو، بل تُسقط وسيلة الردع التي تمنعه من التمادي.
ثانيًا: في معالجة هذه المسألة من جذورها، أرى أننا نعاني إشكاليةً كبيرةً في سوء فهم طبيعة الصراع مع العدو، وعدم إدراكٍ كافٍ لطبيعة العدو الذي نواجهه. فالكثير من الأنظمة أو النخب السياسية تتعامل معه كما لو كان خصمًا عاديًّا يمكن الوثوق بعهوده ومعاهداته، وهذا غير صحيح.
القرآن الكريم ـ كلام الله الذي خلق الناس وهو الأعلم بأحوالهم وطبائعهم، والقائل: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ﴾ [النساء: 45] ـ قد بَيَّن صفاتهم أنهم ينكثون العهود، وأن سمتهم الغدر والخيانة، فقال سبحانه: ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: 100]، وقال تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ﴾ [المائدة: 13].
وكشف لنا مستوى كراهيتهم وانزوائهم على أنفسهم وعنصريتهم وأنهم يحقدون على من سواهم، ولا يرون أن البقية بشر يستحقون الحياة، وأنهم المعني بعمارة هذه الحياة ومن هذه المنطلقات يتعاملون معنا. قال سبحانه: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: 18]، وبيّن أيضًا نظرتهم لأنفسهم حين قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة: 111]، وقال جلّ شأنه: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا﴾ [البقرة: 135].
هذه الآيات تشرح لنا طبيعة فكرٍ يرى نفسه متفوّقًا على غيره، ومن هنا تنطلق سياسات الغرور والتفرقة والتاريخ والحاضر يؤكد ذلك ويشهد بتحققه في الواقع.
بالتالي علينا أن نفهم أنّ السلام لا يُطلَب من موقع الضعف، وأن السلاح ليس المشكلة، بل المشكلة هي في غيابه. فالسلاح هو المشكلة الحقيقية بالنسبة للعدو، لأنه العقبة التي تمنعه من التمدّد.
الخلاصة:
إننا بحاجة إلى أن نعود لفهم عدونا من خلال القرآن الكريم، كما قال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ﴾ [النساء: 45]، لنعرف كيف وصفهم الله، وما طباعهم، وما الأساليب التي يسلكونها، وما هي سياساتهم ومجالات الصراع معهم وكيف يتقنون دائما سياسة التفريق وسياسة التطويع وكيف يمتهنون سياسة الإفساد والإضلال، ولهم أساليب واسعة سواء ترغيب أو ترهيب، إغراء وإغواء، حرب نفسية وفكرية، وأساليب الترويض والإستدراج، ولهم أدوات ووسائل يستخدمونها منها منظمات ووسائل إعلاميه ووسائل تثقيفية ويتحركون في مجالات واسعة لا يركزون على الحرب العسكرية بمفردها بل يستهدفون الناس في كل المجالات بما فيه الجانب الأخلاقي والقيمي والايماني. وهنا يجب أن ندرك طبيعة الصراع معهم من خلال القران الكريم ونفهم مجالاته الواسعة وافاقه الكبيرة ونفهم الحلول في مواجهتهم فالله لم يقدمهم بذلك المستوى من الخطر إلا وقدم الحلول في مواجهتهم، عندها فقط ندرك أن التفريط بالقوة هو تفريطٌ بالسيادة، وأن من لا يملك القدرة على الدفاع لا يملك القرار في السلم ولا في الحرب.