على أطراف سفح جبلي على النيل، بإحدى القرى في أسوان جنوب مصر، وداخل منزل بسيط يحمل طابعًا تراثيًا نوبيًا، وبملامح سمراء وتجاعيد بدت عليها سنوات الصبر والكفاح، تجلس السيدة الأسوانية «ست أخوات» ممسكة بأداة خشبية، تدخلها في فرن من الطين، ليخرج منها ما صنعته بيدها، ثم تتركه للشمس ويعود إليها رزقها في المساء.

في قرية نجع البسيون بأسوان، تعيش «ست أخوات» البالغة من العمر 78 عامًا، التي قررت أنّ تتبع نصيحة أمها، لتكمل مسيرتها في صنع العيش الشمسي، إذ تقول في بداية حديثها لـ«الوطن»: «ورثت الطريقة عن أمي منذ أنّ كان عمري 11 سنة، في منزلنا القديم بقرية المعمارية، وقبل أنّ أذهب إلى النوم، أجهز الخميرة والعجين، وأستيقظ مبكرًا لأهيئ العجين للعيش، وهي الطريقة نفسها التي تعلمتها من أمي وتعلمتها بدورها من جدتي».

تستريح الجدة ومن حولها الأحفاد، أمام فرن صُنع من الطين، وتنظر إليه بشيء من الحنين مستعيدة ذكرياتها، وهي تُعدّ كِمّيات وفيرة من العجين، تنتظر دورها لتدخلها فيه مرة أخرى: «رأيت أمي تستيقظ فجر اليوم الذي تصنع لنا فيه الروغفان، تبدأ بالتخمير بعد أنّ تنتهي من أشياء أخرى، أولها تنقية الدقيق من الشوائب والردة، وبعدها تخلطه مع الماء الساخن وخميرة «البرباسة»، ثم يُغطى بإناء محكم، لتكتمل عملية التخمير من الليل وحتى الصباح، هكذا كانت السيدات نشيطة في قريتنا، وكان منزلنا في المعمارية به حوش واسع ملئ بالأشجار وأصوات العصافير من حولنا، ليتها تعود يومًا كانت أيام خير».

تشير السيدة السبعينية إلى صفوف العيش التي تتراص على مقارص صُنعت من الطَفلة المخلوطة بالتبن، وبعض سباخ الحظائر: «بعد أنّ أصلي الفجر مباشرة، تأتي زوجة ابني لتجهيز الفرن وتنظيفه، ومع بداية طلوع الشمس، أبدأ في تقطيع العيش ثم رصه على الدوار أو المقارص، وتركه ليخمر على ضوء وحرارة الشمس بضع ساعات، وهي الطريقة التي لم تتغير منذ مئات السنين في الصعيد، نرثها نحن السيدات من بعض».

قبل سنوات، اختارت «ست أخوات» أنّ تجعل من الخبز الذي تصنعه لأبنائها وأحفادها، مصدر رزق لهم، بعد أنّ مرت بسنوات صعبة بمجرد وفاة زوجها وثلاثة من أبنائها، فتزاحمت عليها هموم المعيشة: «مات زوجي وكان العيش هو مصدر الرزق الوحيد، فاقترح عليّ بعض جيراني، أنّ أبيعه، وبدأت في تزويد الكمية، وأصبحت أبيعه لجيراني، وأحمد الله على ما يأتيني منه كل يوم».

تُدخِل «ست أخوات»، كميات من جريد النخل في الناحية اليمنى من الفرن، بعد أنّ تشعله: «أبويا سماني ست أخوات، عشان كنت آخر واحدة في أخواتي وأنا رقم 6، وكنت آخر العنقود، وهو الاسم الذي فضل أنّ يناديني به أبي وجميع جيراني، ودائمًا يتساءل الناس عن سر اسمي، وأخبرهم أنني كنت مدللة وكان أبي يحبني جدًا، وميزني بهذا الاسم عن أخواتي وليتذكر عددنا أيضًا».

روائح النوبة القديمة

بشيء من البهجة والسعادة، تتذكر السيدة السبعينية، جيرانها القدامى من النوبة القديمة، عندما كانت تلتقي بهم في القرية، ويتبادلون الطعام والمشروبات: «كنت أنا وجيراني النوبيين بيوتنا مفتوحة على بعض، لدينا العيش الشمسي وهم لديهم العيش النوبي والأبريه، وكنا نصنع الطواجن الصعيدية والنوبية في فرن واحدة، وكانت روائح الأكل النوبي مع الصعيدي تفتح النفس، وحتى الآن، أولادهم يزوروني وأذهب إليهم».

تبتسم السيدة النوبية، وهي تخرج الخبز من الفرن، لتتغزل في «الروغفان»، وهو الاسم الشائع للعيش الشمسي في الصعيد، وتشم رائحته خلال تسويته، وتحكي قائلة: «به رائحة البركة»، لتتذوقه وتعطي لأحفادها منه قطعة، وتصف العيش بأنه موروث ثقافي أصيل، ما زال أهالي الصعيد يتمسكون به، فهو إحدى أهم عادات الغذاء، ويكفي أنه الأفضل صحياً مقارنة إياه ببعض أنواع الخبز الأخرى.

العيش الشمسي «خبز الفراعنة»

يؤكد الباحث الأثري محمود حماد، أنّ هناك قصة طويلة ترتبط بالعيش الشمسي في جنوب مصر، وجذورها تعود إلى العصور الفرعونية القديمة، إذ كان الخبز أو العيش يحظى بتقدير كبير في مصر، وكان يُقدم بأشكال متعددة في العهد القديم، وتنوعت بين المستديرة والبيضاوية والملفوفة والمخروطية، كلها منقوشة على جدران المعابد، وهو خبز مصري فرعوني بامتياز.

ويضيف الباحث الأثري في تصريحات خاصة لـ«الوطن»، أنّ العيش الشمسي ما زال الخبز الرئيسي على مائدة طعام الصعايدة بمصر، على الرغم من قدم هذا النوع من الخبز، إلا أنه لم ينقرض، ولا يزال يُصنع بنفس الطريقة المتبعة منذ آلاف السنين، وتحافظ النساء في صعيد مصر على تحضيره، وتحرص على توريث أسرار صناعته لبناتهن.

ويشير إلى أنّ اسم العيش الشمسي، جاء من وصفته، إذ يُوضع في أشعة الشمس لفترة معينة ليكتمل اختماره، ويتميز بحجمه الكبير نسبيًا، وتبدأ مراحل صناعته بالعجن والتقطيع والتشقيق «التشريك» ثم التقليب، وأخيرًا الترتيب في الفرن. 

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: بعد أن

إقرأ أيضاً:

لولا دا سيلفا: لقاء ترامب الذي بدا مستحيلا في السابق تحقق اليوم وكان مثمرا

البرازيل – أعلن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا أن اللقاء الثنائي الذي جمعه بنظيره الأمريكي دونالد ترامب، والذي كان يبدو في السابق مستحيلا، قد جرى أخيرا وأثمر عن نتائج واعدة.

وقال لولا في تصريح من العاصمة الماليزية كوالالمبور: “لقد اضطر الرئيس ترامب للسفر 22 ساعة من الولايات المتحدة إلى ماليزيا، وكذلك أنا استغرقت رحلتي من البرازيل المدة نفسها وتمكّنا من عقد لقاء كان يبدو مستحيلا في بلدينا، لكنه تحقق هنا في ماليزيا”.

كما أعرب لولا دا سيلفا عن ارتياحه لنتائج الاجتماع، مشيرا إلى أنه قد يُرسي أسسا لاستعادة علاقات واسعة النطاق بين البرازيل والولايات المتحدة.

وأضاف في وقت لاحق بمنشور على منصة “إكس”: “عقدت اجتماعا ممتازا مع الرئيس ترامب بعد ظهر الأحد في ماليزيا، وناقشنا بصراحة وبطريقة بنّاءة جدول الأعمال التجاري والاقتصادي الثنائي. اتفقنا على أن تجتمع فرقنا فورا للمضي قدما في إيجاد حلول لمسألة الرسوم الجمركية والعقوبات المفروضة على السلطات البرازيلية”.

وجرى لقاء لولا دا سيلفا وترامب يوم الأحد في كوالالمبور على هامش قمة رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، حيث حضر الزعيمان كضيفين في أعمال القمة.

وتأتي تصريحات لولا فيما تشهد العلاقات بين برازيليا وواشنطن تحسنا تدريجيا بعد سنوات من التوتر على خلفية محاكمة الرئيس اليميني السابق جايير بولسونارو، حليف ترامب، الذي حكم عليه في سبتمبر الماضي بالسجن 27 عاما بتهمة التورط في محاولة انقلاب فاشلة عام 2022.

وكان ترامب قد فرض في وقت سابق رسوما جمركية بنسبة 50% على عدد من السلع البرازيلية، إضافة إلى فرض عقوبات على مسؤولين كبار، احتجاجا على ما وصفه بـ”المطاردة السياسية” لبولسونارو. غير أن اللقاء القصير الذي جمع ترامب ولولا على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر الماضي، تلاه اتصال هاتفي في السادس من أكتوبر الجاري مهدا للقائهما اليوم خلال قمة رابطة دول آسيان.

المصدر: تاس

مقالات مشابهة

  • من خارج النظام الشمسي.. مذنب بينجمي نادر يمر قرب الشمس نهاية أكتوبر
  • مصر تصنع الإلكترونيات
  • محمد سامي: مشتغلتش مساعد مخرج قبل كده.. وكان نفسي أشتغل مع طارق العريان
  • مصر تفتح بوابة التاريخ.. نجوم الفن بالزي الفرعوني استعداداً لافتتاح المتحف المصري الكبير
  • كيف يمكن للزراعة أن تصنع السلام في السودان
  • ‫ماذا تعرف عن النوبة القلبية؟
  • لولا دا سيلفا: لقاء ترامب الذي بدا مستحيلا في السابق تحقق اليوم وكان مثمرا
  • نعيم قاسم: استهدفنا منزل نتنياهو وكان إنجازا استراتيجيا
  • الطريقة الصحيحة لقياس ضغط الدم في المنزل
  • كسّارة الحوثيين تلتهم أراضي إب.. والأهالي بين الاعتقال وضياع لقمة العيش