صحيفة التغيير السودانية:
2025-11-16@11:05:12 GMT

تاريخ السودان في مزادات البيع

تاريخ النشر: 14th, September 2024 GMT

تاريخ السودان في مزادات البيع

 

تاريخ السودان في مزادات البيع

فيصل محمد صالح

تناقلت الأخبار في الأسبوع الماضي معلومات مزعجة عن سرقة ونهب آثار السودان من متحف السودان القومي، وعرضها للبيع في بعض دول الجوار وفي مواقع المزادات الافتراضية.

أثار الخبر انزعاجاً كبيراً بين علماء وخبراء تاريخ وحضارات السودان القديمة، والمهتمين بالشأن العام من كل الاتجاهات، فالأمر هنا ليس جدالاً سياسياً قد تختلف فيه الآراء والمواقف، لكنه إرث وحضارة بلد عريق قد تتعرض للضياع في هوجة الحرب التي تضيع فيها كل يوم أرواح السودانيين ومواردهم.

توالت الاتصالات والمتابعات مع المهتمين وخبراء وعلماء الآثار والتاريخ ومسؤولين سابقين وحاليين في هذا المجال لاستجلاء الأمر، وبحث ما يمكن عمله لحماية آثار السودان وسبل استعادة ما يمكن أن يكون قد تم سرقته وبيعه.

أجمع معظم المتخصصين والخبراء الذين بحثوا ودققوا في الصور التي رافقت الخبر في عدد من الأجهزة الإعلامية والمواقع الإخبارية، وقيل إنها لآثار معروضة للبيع في بعض المواقع، على أنها ليست من مقتنيات متحف السودان القومي، وربما لا تكون من الآثار السودانية المحفوظة في أي مكان.

لكن بالطبع فإن نفي أن تكون الصور محل التعليق صحيحة لا ينفي إمكانية حدوث عملية السلب والنهب، فمتحف السودان يقع في إحدى مناطق الحرب التي اشتعلت منذ اليوم الأول، وهي تقع تحت سيطرة قوات الدعم السريع، ولهذه القوات سجل كبير في عمليات السلب والنهب والتدمير للممتلكات الخاصة والعامة، ومن ثم فإن احتمالية وقوع الحدث كبيرة، وإن كانت تحتاج لمزيد من التدقيق والبحث حتى لا يقع الناس أسرى الحرب الإعلامية والمعنوية بين الطرفين المتقاتلين.

قالت الأخبار مثلا إن هناك صوراً بالأقمار الاصطناعية لشاحنات محملة بهذه الآثار متجهة لبعض دول الجوار، ومنها دولة جنوب السودان، وهو ما قالته مسؤولة هيئة المتاحف والآثار الحالية. لكن لم تقدم أي من الأجهزة الإعلامية الداخلية والخارجية أي صور تثبت حدوث الأمر، كما أن الخبراء الذين تواصلوا مع هيئة اليونيسكو لم يجدوا منها تأكيداً على ذلك.

واستعاد الناس صوراً ومقاطع فيديو سابقة نشرت في العام الماضي لجنود من الدعم السريع وهم يبحثون في مخازن المتحف القومي ويقلبون الآثار والمومياوات الموجودة بعدم معرفة واهتمام بقيمتها.

متحف السودان القومي بدأ بوصفه جزءاً من مباني جامعة الخرطوم، ثم انتقل لمكانه الحالي عام 1971، بعد أن استمر العمل فيه لسنوات طويلة وتم نقل بعض آثار منطقة الشمال النوبي التي غرقت بعد قيام السد العالي. ويضم المتحف مقتنيات لا تقدر بثمن من آثار العصور القديمة والممالك السودانية النوبية القديمة، كرمة ومروي، ثم ممالك العصر المسيحي نبتة وعلوة والمقرة وصولاً للمالك الإسلامية. وتمت إعادة بناء المعابد التي نقلت من منطقة بحيرة السد العالي، بجانب وجود عدد من التماثيل التي تجسد مراحل تاريخ السودان القديم، ومنها تمثال الملك السوداني العظيم تهراقا.

سواء أوقعت حادثة سرقة ونهب مقتنيات المتحف القومي أم لم تحدث بالطريقة التي تم عرضها في إطار الصراع السياسي، فإن المهتمين بتاريخ السودان يجب ألا ينتظروا أكثر من ذلك، ويجب عليهم القيام بخطوات استباقية يستندون فيها لقوانين وقرارات دولية سابقة يمكن الرجوع إليها واعتمادها مرجعيةً لقفل الطريق أمام تسويق وبيع أي آثار ومقتنيات سودانية. من هذه المراجع اتفاقية اليونيسكو لعام 1970 لمنع الاتجار غير المشروع في الآثار والمقتنيات المسروقة التي وقعت عليها أكثر من 140 دولة، والآليات والقرارات الملحقة بها مثل القائمة الحمراء للممتلكات الثقافية المعرّضة للخطر الصادرة عن المجلس الدولي للمتاحف، وقاعدة بيانات الإنتربول للأعمال الفنية المسروقة. وهناك كذلك سابقة دولية مهمة متعلقة بالعراق وسوريا، حيث أصدر مجلس الأمن الدولي قراره رقم 2199 لعام 2015 بمنع الاتجار في آثار هذين البلدين اللذين تعرضا لنهب وسرقة المتاحف بعد احتلال العراق واندلاع الحرب الأهلية في سوريا. وقد تجاوبت دول كثيرة مع القرار وأوقفت عمليات بيع كبيرة وصادرت المقتنيات وأعادتها للدول المعنية. ويمكن مخاطبة اليونيسكو والمجتمع الدولي لاتخاذ قرارات مماثلة، وهذا عمل وطني لا يستوجب أن يكون للشخص موقع أو وظيفة معينة.

ربما يكون حاضر السودان، حتى قبل الحرب، لا يسرّ، بلد تحاصره الأزمات والتقلبات السياسية والنزاعات المسلحة والاشتباكات القبلية، مع وضع اقتصادي منهار، هذا ما أورثناه للأجيال الجديدة، لكن كان العزاء أننا سنحافظ على ماضٍ عظيم يكون مرجعاً لهم، ونافذة أمل في أن ما كان من حضارات عظيمة قبل آلاف السنين في هذا البلد يمكن أن يعود، فإن فقدنا حتى هذا الأمل فماذا بقي لنا؟

 

الوسومآثار السودان فيصل محمد صالح

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: آثار السودان فيصل محمد صالح

إقرأ أيضاً:

السودان.. بين هدنة الحرب واستراحة التاريخ

لم يكن السودان يوماً ساحة حربٍ فقط، بل كان مرآة لتاريخٍ ممتد من وادي النيل إلى قلب إفريقيا. هذا البلد الذي حمل مع مصر ذاكرةً مشتركة منذ مملكة وادي النيل الموحدة، ظل في وعي المصريين جزءاً من عمقهم الجنوبي، كما ظل في ذاكرة السودانيين امتداداً لشمالهم التاريخي. فعندما توحدت مصر والسودان تحت تاجٍ واحد، لم تكن الحدود السياسية سوى خطوط رسمها الاستعمار على الخرائط، أما النيل فكان الشريان الذي لم يعرف انفصالاً.

لكن التاريخ أخذ منحى آخر بعد عام 1954 حين انتهت وحدة "مصر والسودان" رسمياً، لتبدأ مرحلة الدولة السودانية المستقلة التي حملت في رحمها بذور التمزق قبل أن تكتمل ملامحها. ومع كل منعطف سياسي في القاهرة، كان صدى التحولات يصل إلى الخرطوم، والعكس صحيح. فعقب نكسة يونيو 1967، حين اهتزت مصر سياسياً وعسكرياً، كانت الأراضي السودانية ملاذاً آمناً للطائرات المصرية المنسحبة، وكانت الكلية الحربية المصرية تُنقل إلى الخرطوم في مشهدٍ يعبّر عن وحدة المصير لا مجرد تضامنٍ سياسي.

تاريخياً، أدركت القاهرة أن حدودها الجنوبية ليست خطاً على الرمال، بل خط حياةٍ استراتيجي، وأن السودان بعمقه ومساحته يمثل امتداد الأمن المائي والغذائي والإنساني لمصر. ومع ذلك، ظل الاهتمام العربي والإقليمي بالسودان أقل من حجمه الحقيقي، فبينما تُسلّط الأضواء على غزة الصغيرة في الشرق، تُترك السودان، بامتداده الشاسع، للنزاعات القبلية والحروب الأهلية والضغوط الخارجية. إنها مفارقة تُجسد اختلال أولويات الوعي العربي، إذ يتم التعامل مع جغرافيا السودان كمساحةٍ بعيدة، بينما هي في الحقيقة صمام الأمان لمنطقة النيل والقرن الإفريقي والبحر الأحمر معاً.

السودان ليس بلداً واحداً بالمعنى الاجتماعي والثقافي، بل فسيفساء من تسعة أقاليم، لكل منها لغته ولهجته وزيه ودينه وذاكرته الخاصة. هذا التنوع الذي يمكن أن يكون مصدر قوة لو تم احتواؤه سياسياً وثقافياً، تحول بفعل سوء الإدارة إلى صراعات مزمنة. في عهد جعفر نميري مثلاً، حاول النظام أن يمنح الأقاليم نوعاً من الحكم الذاتي الجزئي لاحتواء النزعات الانفصالية، لكنها كانت خطوة مؤقتة لم تعالج جوهر الأزمة، بل رحّلتها إلى المستقبل.

من الجنوب الذي انفصل رسمياً إلى دارفور التي احترقت بنيران الإقصاء، ومن الشرق المهمّش إلى الشمال المثقل بالذكريات، يتبدى السودان كقارة صغيرة تتنازعها لغات وآلهة وتقاليد مختلفة، يجمعها فقط النيل والتاريخ المشترك.

لذلك، فإن أي "هدنة إنسانية" في السودان لا يمكن قراءتها كمجرد توقفٍ مؤقت للقتال، بل كاختبار لإرادة البقاء الوطني في بلد تتقاطع فيه الجغرافيا مع المصالح الإقليمية. الهدنة هنا ليست نهاية حرب، بل فصل من فصولها، تستخدمها الأطراف المتحاربة لترتيب أوراقها سياسياً وعسكرياً، بينما يدفع المدنيون ثمن الدماء والخراب.

من منظورٍ جيوسياسي، تكتسب الأزمة السودانية عمقاً استراتيجياً لا يقل عن أزمات المشرق العربي. فحدود السودان مع مصر تمتد لأكثر من 1200 كيلومتر، وهي الأطول والأكثر حساسية في المنطقة، إذ تمر عبرها مصالح الطاقة والنقل والمياه. وإذا ما قورنت بمساحة غزة التي لا تتجاوز بضع عشرات من الكيلومترات، فإن المفارقة تبدو فاضحة: غزة الصغيرة حظيت باهتمامٍ سياسي وإنساني عالمي، بينما السودان الشاسع، الذي يمكن أن يكون سلة الغذاء الإفريقي والعربي، يعاني التجاهل رغم أنه يختزن كل مقومات الانفجار الإقليمي.

إن مأساة السودان لا تختصرها البنادق ولا بيانات الهدنة. إنها مأساة التهميش التاريخي، وسوء استثمار التنوع، وغياب الرؤية التي تدرك أن هذا البلد هو قلب إفريقيا النابض، وأن انهياره يعني زلزلة البنية الاستراتيجية لمصر والقرن الإفريقي والبحر الأحمر معاً.

فالحرب في السودان ليست فقط حرب سلطة، بل صراع على هوية وطنٍ لم يكتمل. وكل هدنةٍ تُعلن اليوم هي استراحة محاربٍ في معركة طويلة بين المركز والهامش، بين التاريخ والجغرافيا، وبين الطموح الوطني والتدخل الخارجي.

السودان وسد النهضة… معركة الماء والوجود

لا يمكن فصل مستقبل السودان عن معادلة سد النهضة التي تتجاوز ملف المياه إلى معركة بقاء إقليمي. فالسودان يقع في قلب المعادلة بين مصر وإثيوبيا، وهو الجسر الجغرافي الذي يربط المنبع بالمصب. أي اضطراب في السودان يعني مباشرةً اهتزاز توازن الأمن المائي في حوض النيل بأكمله.

إن استقرار السودان ليس فقط ضرورة إنسانية، بل هو شرط لبقاء منظومة الحياة في وادي النيل. فبينما تخوض مصر معركة الدفاع عن حصتها التاريخية من المياه، فإن السودان — إن غرق في الفوضى — سيصبح خاصرة رخوة يمكن لأي قوة خارجية أن تستغلها لابتزاز الجميع.

لهذا، يجب أن يُعاد النظر في السودان لا كدولة جارة فحسب، بل كـ عمق استراتيجي وبيئة حيوية للأمن المصري-الإفريقي المشترك. فكما أن النيل لا يتجزأ، فإن أمن مصر والسودان لا يمكن فصله بالحدود.وإذا كانت غزة الصغيرة تذكّر العرب يومياً بقضية الوجود، فإن السودان الواسع يذكّرهم بمعنى البقاء.

إن الحرب هناك ليست استراحة محارب، بل جرس إنذار لقارةٍ بأكملها. فحين يختنق الجنوب، لا يمكن أن يتنفس الشمال.

كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية

اقرأ أيضاًعاجل| وزير الخارجية يدين الفظائع والانتهاكات المروعة في مدينة الفاشر السودانية

الإمارات تؤكد التزامها الراسخ بمنع استخدام أراضيها فى تهريب الأسلحة إلى السودان

كبير مستشاري ترامب للشؤون العربية والإفريقية: السودان يعيش أصعب أزمة إنسانية في العالم

مقالات مشابهة

  • وقف بيع تذاكر المتحف المصري الكبير عبر منافذ البيع 1 ديسمبر 2025
  • لماذا منشآت النفط ؟.. عقلية الربح والخراب التي تدير الحرب بالوكالة
  • السودان.. بين هدنة الحرب واستراحة التاريخ
  • «إنفاذ» يشرف على 75 مزادا لبيع 886 عقارًا بمختلف مناطق المملكة
  • الخارجية تدين الفظائع والانتهاكات المروّعة التي شهدتها مدينة الفاشر في إقليم دارفور
  • السودان.. تعرّف على الانتهاكات التي ارتُكبت في مدينة الفاشر
  • لاتهامهم بتقليد آثار مصر.. منع 6 متهمين من السفر والتحفظ علي أموالهم
  • تورك: ندعو لاتخاذ إجراءات ضد الأفراد والشركات التي تؤجج وتستفيد من الحرب بالسودان
  • عاجل| مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان: الفظائع بالفاشر هي أخطر الجرائم التي كانت متوقعة
  • المفوضية الأوروبية للشؤون الإنسانية: الكارثة السودانية لا يمكن وصفها