جائزة نوبل 2025 تفتح عصر المواد الذكية
تاريخ النشر: 22nd, October 2025 GMT
د. مازن العبيدي-
تخيّل أنك في قلب صحراءٍ تمتد بلا نهاية، حرارةٌ تلسع، هواءٌ بلا حياة، والسماء تحبس الغيم كما لو كانت تجرب صبر البشر. لا نهر، لا بئر، لا ندى على الرمال. ثم فجأة، تضع قطعة صغيرة من مادة أعدت في مختبر، فتجمع بخار الهواء لتمنحه حياةً جديدة من الهواء لتنتج قطراتٍ من ماءٍ عذبٍ صالحٍ للشرب. هل يبدو هذا مشهداً من الخيال العلمي؟ ربما قبل أعوامٍ فقط، نعم.
في الثامن من أكتوبر، أفادت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم عن فوز كلٍّ من سوسومو كيتاجاوا من اليابان، وريتشارد روبسون من أستراليا، وعمر م. ياغي من الولايات المتحدة (من أصل أردني)، إكراما لإسهامهم في تطوير مواد جديدة تُعرف باسم الهياكل المعدنية العضوية أو Metal–Organic Frameworks (MOFs) وهي ثورة كيميائية يمكن أن تغيّر وجه الأرض كما غيّر الحديد عصر الصناعة، والسيليكون عصر التكنولوجيا.
من فكرة بسيطة إلى ثورة جزيئية
تبدأ القصة من سبعينيات القرن الماضي. في أحد مختبرات جامعة ملبورن الأسترالية، كان البروفيسور ريتشارد روبسون يصنع نماذج من الذرات باستخدام كراتٍ خشبية صغيرة وعصيٍّ تربطها. لاحظ أن عدد الثقوب في كل كرة يفرض شكلاً محدداً للترابط، تماماً كما تفعل الذرات في الطبيعة. ومن هنا وُلد السؤال الفذ الذي فتح باباً جديداً في علم المواد (ماذا لو استطعنا بناء مادة من الداخل، كما نبني مدينة صغيرة؟). عام 1989، نجح روبسون في بناء أول بنية معدنية–عضوية ذات فراغات ضخمة تشبه شققاً صغيرة داخل المادة نفسها، تسمح بدخول وخروج الجزيئات كما تبتغي. لم يكن يعلم وقتها أن هذه الفكرة البسيطة ستكون حجر الأساس لأحد أكبر الإنجازات الكيميائية في القرن الحادي والعشرين.
في التسعينيات، ظهر اسم سوسومو كيتاجاوا، الكيميائي الياباني الذي جمع بين الفلسفة والعلم. كان يؤمن بحكمة الفيلسوف الصيني (تشوانغ تزو)، (حتى ما لا يبدو نافعاً اليوم، قد يحمل أعظم نفعٍ غداً). بدأ كيتاجاوا بتصميم مواد مسامية بدت عديمة الجدوى، كانت هشة، بلا وظيفة واضحة، لكن مع الوقت وجد أنها قادرة على امتصاص الغازات دون أن تنهار بنيتها. عام 1997, أعلن عن أول هيكل ثلاثي الأبعاد مستقر يمكنه امتصاص غازات مثل الميثان والأوكسجين وإطلاقها دون أن يتغير شكله. كانت المادة (تتنفس) فعلاً! ومن هنا ظهر مصطلح (المواد المرنة)، وهي مواد ذكية تتفاعل مع بيئتها كما تتفاعل الرئتان مع الهواء، تتسع، وتنكمش، وتتكيف.
من عمّان إلى كاليفورنيا:
حكاية عمر ياغي
أما البروفيسور عمر محمد ياغي، فقصته درسٌ في العزيمة والإلهام. وُلد في عمّان في غرفة صغيرة بلا كهرباء أو ماء. لم يكن هناك سوى مكتبة المدرسة التي دخلها خفية لتصبح مدخله الأول إلى العالم. يقول (كنت أرى الجزيئات كمدنٍ صغيرة، وكل ذرة فيها حجر أساس لبناءٍ عظيم). في منتصف التسعينيات، ترأس ياغي فريقاً في جامعة ولاية أريزونا لتصميم مواد تُبنى مثل مكعبات LEGO ولكن على مستوى الذرات. عام 1995 صاغ مصطلح Metal–Organic Frameworks، وفي عام 1999 كشف عن الهيكل الشهير MOF-5، الذي اعتُبر وقتها (ناطحة سحاب جزيئية). لم يكن التشبيه مبالغاً فيه، حيث إن غرام واحد من هذا المركب يحتوي على مساحة سطح داخلية تساوي ملعب كرة قدم كامل، هذه المساحة الضخمة تسمح بتخزين كميات ضخمة من الغازات أو امتصاص الملوثات بفاعلية لا نظير لها.
من أعظم تطبيقات الأطر الفلزية العضوية (MOFs) هو قدرتها السحرية على حصاد الماء من الهواء الجاف. في تجربة باهرة قادها العالِم عمر ياغي وفريقه في ولاية أريزونا، استطاعوا
تحويل الهواء القاحل إلى مصدرٍ للحياة. استخدم الفريق نوعاً خاصاً من هذه المواد الذكية يجمع بخار الماء ليلاً حين تنخفض درجات الحرارة، ثم يطلقه صباحاً على شكل قطراتٍ نقية صالحة للشرب، كل ذلك دون كهرباء، دون ضغط، ودون أجهزة ضخمة. إنها مادة تعمل مثل إسفنجة ذكية، تستنشق الرطوبة من حولها، ثم تهمس للسماء: (امنحيني حياة)، فتُعيدها إلى الأرض على شكل ماءٍ عذبٍ في أحلك الظروف. تخيّل أثر هذه التقنية في الصحاري العربية الممتدة حيث الماء أغلى من الذهب، وحيث كل قطرة قد تُنقذ حياة. ليس هذا مجرد إنجازٍ مخبري، إنه وعدٌ بكرامة الإنسان في مواجهة الجفاف. قد نرى يوماً ما، منازل ريفية في الربع الخالي تكتفي بمكعبٍ صغير من MOF فوق سطحها، يجمع لها مياه الشرب ليلاً كما تجمع الأزهار ندى الصباح. هذه التكنولوجيا لا تقدّم الماء فقط، بل تعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والطبيعة. فبدلاً من أن نحارب المناخ أو نُجبر الأرض على العطاء، تخبرنا الكيمياء هنا درساً جديداً (كيف نُصغي للتوازن الطبيعي، ونستخدم الذكاء الجزيئي لاستخراج ما نحتاجه بلطفٍ وعبقرية). إنها لحظة منسوجة بين العلم والأمل، حيث يجتمع الخيال العلمي مع الضرورة الإنسانية في زمنٍ يزداد عطشاً. كما عبّر أحد أعضاء لجنة نوبل في الكيمياء قائلًا (كل خلية في هذا العالم تبحث عن توازنها، ونحن نمنحها المساحة لتتنفس).
كيمياء تحارب الاحتباس الحراري.
أكدت هذه الهياكل قدرتها على امتصاص ثاني أكسيد الكربون (CO₂) من مداخن المصانع، ما يقلل من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري. تخيّل أن جدران تلك المواد الذكية تعمل كـ (مصائد ذرات) تمسك بالكربون قبل أن يصعد إلى الغلاف الجوي. لكن القصة لا تتوقف هنا؛ فالعلماء يحاولون اليوم تحويل هذا الكربون المحتجز من عبءٍ بيئي إلى ثروة كيميائية. كيف؟ عبر إعادة تدويره لإنتاج وقود نظيف أو مواد صناعية جديدة. إنها معادلة مذهلة، أن نحول ما كان يُسمّى (غاز الدمار البيئي) إلى طاقةٍ للحياة. بهذا تتحول الكيمياء إلى واق يحمي المناخ، وتصبح الذرات نفسها جنوداً خفية في معركة الأرض ضد التغيّر المناخي. وكأن العلم يقول لنا (حتى الكربون الذي يخنقنا، يمكن أن يُنقذنا، إذا عرفنا كيف نحتضنه).
طاقة نظيفة... في حجمٍ صغير
في عالمٍ يجري خلف بدائل مستدامة، تبرز أطر الميتال العضوية (MOFs) كحارسٍ صامت للطاقة النظيفة. ففي أحشاء هذه الشبكات المجهرية، تُخزَّن جزيئات الهيدروجين والميثان كما تُخزَّن الأحلام في قلبٍ صغير بإحكام، وأمان، وكثافة مذهلة. هذه المواد الذكية تعمل كخزائن ذكية قادرة على احتواء كميات ضخمة من الوقود النظيف داخل حجمٍ بالغ الصِغر، دون خطر الانفجار أو الفقدان. تخيّل سيارة المستقبل التي لا تُصدر سوى بخار الماء، ومحطة طاقة تُدار بلا صخب ولا دخان. تلك ليست رؤى خيالٍ علمي، بل نتائج معادلاتٍ كيميائية حقيقية تنبض بالحياة داخل مختبرات العلماء. قد تبدو هذه التفاصيل تقنية للوهلة الأولى، لكنها في كيانها حكاية عن كيف يمكن لذكاء الذرّة أن يعيد هندسة الكوكب. فما بين كل ذرة معدن وجزيء عضوي، ينبض وعدٌ جديد، أن يصبح الوقود نقياً كالمطر، وأن تعود السماء صافية كما كانت قبل الثورة الصناعية. (الكيمياء ليست علماً جامداً، إنها فنّ تحويل ما هو غير مرئي إلى أملٍ ملموس). من كلمة أحد أعضاء لجنة نوبل في الكيمياء
تنقية الهواء والماء... كيمياء الرحمة
ليست كلُّ الكيمياء معقّدةً أو قاسية، فبعضها رقيقٌ كقطرة مطر تهبط لتمنح الحياة من جديد. في زوايا المختبرات، ووسط أنابيبٍ تلمع تحت الضوء الأبيض، تولد اليوم موادّ تبعث الأمل في رئة الأرض. الهياكل المعدنية العضوية (MOFs) ليست مجرد إنجاز علمي جامد، بل يمكن وصفها بأنها (رئةٌ صناعية) تتنفس عن كوكبنا، تمتصّ ما يعجز عن احتماله. فهي قادرة على التقاط الملوِّثات الخطيرة مثل مركّبات PFAS المعروفة باسم (الملوِّثات الأبدية)، تلك التي تتسلل إلى الماء والهواء والطعام، ولا تتحلل لعقود. ومثل حارسٍ بيئيٍّ صامت، تقوم هذه المواد الذكية بامتصاص الغازات السامة والمعادن الثقيلة من المياه الملوثة، لتعيد للنظام البيئي صفاءه الأول، وكأنها تكتب فصلاً جديداً من علاقة الإنسان بالطبيعة. الكيمياء هنا تتحوّل من سببٍ للتلوث إلى أداةٍ للتطهير، ومن خطرٍ على البيئة إلى وسيلةٍ لحمايتها. إنها كيمياء تُعيد التوازن المفقود، وتذكّرنا بأن الرحمة ليست حِكراً على الكائنات، بل يمكن أن تتجلى في جزيءٍ صُمم بإتقان. وهكذا، تتجاوز الكيمياء حدود المعادلات لتصبح فلسفة حياة، تمنح الكوكب أنفاسًا جديدة، والإنسان ضميرًا علميًّا أكثر نقاءً.
الطب يدخل عصر المواد الذكية
أما في عالم الطب، فدخلت MOFs مرحلة جديدة تماما، تُعيد رسم حدود الممكن بين الكيمياء والطب الحيوي. لم يعد الدواء مجرّد مركّب كيميائي يُعطى للجسم ليؤدي وظيفته بشكلٍ أعمى، بل أصبح جوهرا ذكيا يعرف أين يذهب ومتى يبدأ عمله ومتى يتوقف. يمكن تصميم هذه الهياكل لتعمل كناقلات نانوية دقيقة للأدوية، توصل الجرعة المطلوبة إلى نسيجٍ محدد داخل الجسم دون أن تمس بقية الأنسجة. تخيّل دواءً يعرف طريقه بنفسه في خريطة الجسد، يسلك الأوعية كمسافرٍ يحمل (تذكرة ذهاب فقط) إلى الورم أو الالتهاب، ثم يطلق مفعوله هناك بدقة جراحية ويختفي بصمت. إنها الكيمياء التي تفكر، أو كما وصفها أحد العلماء (نحن نمنح المادة ذاكرة، فتصبح قادرة على اتخاذ القرار داخل الجسد).
بهذا، تتحول الكيمياء من علمٍ يُحلّل ويتركب، إلى فنٍّ يُهندس الحياة نفسها، حياة أكثر دقة، أقل ألما، وأعمق إنسانية. فما بين أنبوب المختبر وجسد الإنسان، هناك الآن لغة جديدة تُكتَب بحروفٍ من الذكاء الجزيئي، تنبض بالأمل وتقول للعالم (ربما لم نصل بعد إلى دواءٍ يشفي كل داء. لكننا بدأنا نفهم كيف تفكّر الجزيئات حين تريد أن تُنقذ الحياة).
من عمّان إلى عُمان:
كيمياء تحاكي المستقبل العربي
إن قصة نوبل في الكيمياء هذا العام ليست بعيدة عن واقعنا. في سلطنة عُمان، حيث تشكّل الصحاري والجبال جزءا من الهوية الطبيعية، يمكن لتقنيات MOFs أن تمثل حلا عمليا لمشاكل المياه والطاقة. تخيل أجهزة صغيرة تجمع ماء الشرب من الهواء الجاف في القرى الجبلية، أو فلاتر ذكية تنقّي الهواء في المناطق الصناعية، أو أنظمة تخزين طاقة نظيفة تحافظ على البيئة وتقلل من الاعتماد على الوقود الأحفوري. لذلك يجب أن نعلم نحن كشباب عربي، أن الطريق إلى نوبل قد يبدأ من مكتبةٍ بسيطة أو فضولٍ علمي صغير، لكنه يحتاج إلى إصرارٍ لا يعرف الحدود.
الكيمياء... لغة الحياة
جائزة نوبل في الكيمياء لعام 2025 لم تُمنح فقط لابتكار مادة جديدة، لكن لرؤية جديدة للعالم. لقد جعل كيتاجاوا وروبسون وياغي من الكيمياء لغةً تتحدث بها الحياة. فموادهم لا تكتفي بالتفاعل، لكن هي (تتنفس)، و(تفكر)، و(تمنح الأمل اليوم)، لم تعد المعادلات هي بطلة القصة، هي الذرات التي تزرع الحياة في الصحراء، وتطهّر الماء، وتحمي المناخ، وتشفي الإنسان. في كل جزيء مساحةٌ للدهشة، وفي كل اكتشافٍ وعدٌ بمستقبلٍ أنظف وأكثر إنسانية. بهذه الروح، أنارت جائزة نوبل في الكيمياء 2025 طريقا جديدا أمام العلماء، وأمام كل من يؤمن أن الكيمياء ليست مجرد علمٍ جامد، لكن تعتبر فنٌّ يربط الإنسان بالكون.
د. مازن العبيدي أستاذ مساعد في جامعة التقنية والعلوم التطبيقية
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: نوبل فی الکیمیاء المواد الذکیة قادرة على
إقرأ أيضاً:
لوجيتيك تكشف عن جيل جديد من أدوات العمل الذكية في جيتكس جلوبال 2025: أداء أعلى، تركيز أكبر، واستدامة بلا حدود
كشفت شركة لوجيتيك خلال مشاركتها في معرض جيتكس جلوبال 2025 عن مجموعة من ابتكاراتها الجديدة المصممة لإعادة تعريف تجربة العمل والإنتاجية في العصر الرقمي، وشملت الإطلاق العالمي للفأرة MX Master 4، وسماعتي الرأس Zone Wireless 2 ES وZone Wired 2، ولوحة المفاتيح اللاسلكية Signature Slim Solar+ K980. ، تعكس المنتجات الجديدة التزام لوجيتيك بتقديم أدوات ذكية تساعد المستخدمين على تحقيق أعلى مستويات الأداء والتركيز، مع الحفاظ على مبادئ الاستدامة وتقليل الأثر البيئي.
فأرة لوجيتيك إم إكس ماستر 4
قدمت لوجيتيك الفأرة الجديدة MX Master 4، التي تمثل نقلة نوعية في تجربة التحكم والإنتاجية بفضل تقنيات الاستجابة اللمسية المخصصة وواجهة Actions Ring الرقمية المدعومة ببرنامج Logi Options+، والتي تتيح تخصيص الأوامر والوصول السريع إلى الأدوات المفضلة. وتتميز الفأرة باتصال فائق الاستقرار عبر منفذ USB-C وتصميم مستدام مصنوع من مواد معاد تدويرها.
سماعات New Zone
كما كشفت الشركة عن سماعتي الرأس Zone Wireless 2 ES وZone Wired 2، المصممتين لتقليل التشتت في بيئات العمل المفتوحة بفضل تقنيات الذكاء الاصطناعي لإلغاء الضوضاء وميزة إلغاء الضجيج النشطة الهجينة (Hybrid ANC). وتوفر السماعتان تجربة صوتية مريحة ومعتمدة من منصات مثل Zoom وMicrosoft Teams وGoogle Meet، مع إمكانية الإدارة والتحديث عن بُعد عبر منصة Logitech Sync.
لوحة المفاتيح اللاسلكية الجديدة Signature Slim Solar+ K980
وفي خطوة تعزز مفهوم البساطة والاستدامة، أعلنت لوجيتيك عن لوحة المفاتيح Signature Slim Solar+ K980 التي تعمل بالطاقة الضوئية بفضل تقنية Logi LightCharge، دون الحاجة إلى الشحن اليدوي. ويمكنها العمل حتى أربعة أشهر في الظلام بعد الشحن الكامل، ما يجعلها خيارًا مثاليًا للمكاتب الحديثة. كما تدعم النسخة المخصصة للأعمال الاتصال الآمن عبر Logi Bolt USB-C وإدارة الأجهزة عن بُعد، مع تصميم يحتوي على مواد معاد تدويرها بنسبة تصل إلى 70%.
من خلال هذه الإطلاقات الثلاثة، تؤكد لوجيتيك ريادتها في تقديم أدوات تجمع بين الذكاء، الراحة، والاستدامة، لتلهم جيلاً جديداً من المحترفين في عالم العمل الهجين والرقمي.