حين تصبح المؤسسة حاضنة للأحلام
تاريخ النشر: 29th, October 2025 GMT
خالد بن حمد الرواحي
في كل مؤسسة قصتان تسيران جنبًا إلى جنب: قصة موظف يدخلها محمّلًا بأحلامه، وقصة مؤسسة تختبر كل يوم قدرتها على أن تكون حضنًا لهذه الأحلام أو قبرًا لها؛ فالمكاتب ليست جدرانًا صامتة، بل فضاءات إما أن تنبض بالحافز والتقدير فتُبقي الطموح حيًّا، أو تخنقه تحت ثقل الروتين وصمت التجاهل.
ومن هنا تبدأ الحكاية الحقيقية؛ فالمؤسسة التي تُنصت إلى موظفيها وتمنحهم مساحةً للتجربة، تتحول إلى بيتٍ مفتوح للنمو والإبداع. أما حين تُختزل الوظيفة في توقيع حضورٍ وانصراف، وتُغلق الأبواب أمام المبادرات، فإنَّ الحافز يذبل شيئًا فشيئًا. عندها ينطفئ الطموح، ويتحول من شعلةٍ مضيئة إلى عبءٍ داخلي ينهك صاحبه، وتغدو المؤسسة من حضنٍ للأحلام إلى سجنٍ لها.
ولأنَّ القيادة هي القلب النابض لأي مؤسسة، فهي التي تحدد اتجاهها؛ فإما أن تزرع الثقة في نفوس الموظفين وتمنحهم الشجاعة لإطلاق أفكارهم، أو تنشر الخوف والجمود فتذبل المواهب وتنكمش الطاقات. فالقائد الذي يفتح باب الحوار ويحتفي بالمبادرات مهما بدت صغيرة، يحوّل مكتبه إلى منارة إلهام. أما ذاك الذي يرى في الطموح تهديدًا لسلطته، فإنِّه يحوّل المؤسسة إلى مساحةٍ صامتة تختفي فيها الأحلام خلف ستار الرتابة.
وما بين القيادة والموظف يقف المجتمع شاهدًا على النتيجة. فحين تكون المؤسسة حاضنةً للأحلام، ينعكس ذلك مباشرةً على مستوى الخدمة؛ فالموظف الذي يلقى التقدير داخليًا يقدّمه خارجيًا مضاعفًا. إنه لا يكتفي بأداء واجبه، بل يضيف لمسته الخاصة التي تجعل الخدمة أكثر إنسانية وسلاسة. أما حين يشعر أن جهده غير مرئي، فإنه يتعامل مع المراجع بروحٍ مثقلة، فتتسرّب السلبية إلى قلب المواطن وتذبل ثقته بالمؤسسة.
ولأن الطموح ليس رفاهيةً عابرة؛ بل حاجة إنسانية تماثل حاجتنا إلى الأمان والاستقرار، فإن المؤسسة التي تُشبع هذه الحاجة بالتقدير والتحفيز تُبقي الموظف حيّ القلب، ممتلئًا بالشغف. أما حين يُهمل هذا الجانب، فإن الإحباط يتسلل بصمت، ويصبح الحضور إلى المكتب مجرد عادةٍ خاوية لا تحمل أي معنى.
ومن هنا تبرز أهمية السياسات الواضحة التي تمنح الطموح حقه: تدريبٌ مستمر يفتح آفاقًا جديدة، وتحفيزٌ عادل يربط الجهد بالإنجاز، وعدالةٌ في توزيع الفرص تُعيد الثقة بين الأفراد. كما إن رسم مساراتٍ مهنية واضحة يضمن للحلم طريقًا ملموسًا، بدل أن يظل معلّقًا في فراغ الأمنيات. وعندما يشعر الموظف أن مؤسسته تراهن على طاقاته، يردّ بعطاءٍ أعمق، ووفاءٍ أكبر، وإبداعٍ لا يعرف حدودًا.
ولأن الطموح الفردي يرتبط بمصير الوطن كله، فقد أكدت رؤية "عُمان 2040" أن الإنسان هو الثروة الأغلى، وأن الاستثمار في طاقاته هو الطريق الأقصر إلى مستقبلٍ مزدهر. فالمؤسسة التي تحتضن أحلام موظفيها لا ترفع كفاءتها الداخلية فحسب؛ بل تُسهم أيضًا في بناء وطنٍ يزدهر بالمعرفة والإبداع. والموظف الذي يجد بيئةَ عملٍ داعمة يصبح شريكًا مباشرًا في تحويل الرؤية من كلماتٍ على ورق إلى واقعٍ حيّ يلمسه المجتمع.
ولعل الأمثلة أصدق من أي تنظير؛ فهناك مؤسساتٌ آمنت بقدرات موظفيها، ففتحت لهم الباب لتجربة أفكار جديدة، ومنحتهم الثقة والدعم. فجاءت النتيجة مشاريع ناجحة، وخدمات أكثر جودة، وولاء وظيفي لا يُقدَّر بثمن. وفي المقابل، كم من فكرة لامعة وُئدت في مهدها بالتجاهل أو البيروقراطية، فضاعت معها فرصة تطوير، وخسر الموظف والمؤسسة والمجتمع جميعًا.
وفي نهاية المطاف، تبقى المؤسسة التي تحتضن أحلام موظفيها أقوى من أي خطة أو هيكل تنظيمي؛ لأنها تبني طاقة بشرية لا تنضب؛ فالموظف الذي يجد في عمله مساحة للنمو والإبداع يتحول إلى شريكٍ حقيقي في صناعة مستقبل الوطن. وهكذا، فإن المؤسسات التي تتحول إلى حضنٍ للأحلام، هي التي تزرع الثقة في الناس وتفتح أمامهم دروبًا أوسع نحو تنمية أكثر إشراقًا وإنسانية.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
عندما تصبح الأسطورة والخرافة عنصر جذب سياحي
د. خالد بن عبدالوهاب البلوشي
لعقود وسنوات طويلة كانت الخرافات والأساطير جزءًا لا يتجزأ من ذاكرة الشعوب التي تُروى في المجالس والمناسبات المختلفة؛ فلكل أمة مخزون روحي وثقافي يتعدى أحيانًا حدود العقل والمنطق، إلّا أنها في الوقت ذاته تشكل إرثًا وكنزًا سياحيًا بالإمكان استثماره بذكاء، خاصة وأن العديد من السياح في هذه الأيام يبحثون عن التجارب المتنوعة والفريدة والتي تحتوي على قصص غامضة تلامس الخيال.
في الكثير من الدول تشكَّلت وتحوَّلت الأساطير إلى علامات سياحية رائجة؛ فمثلًا في رومانيا يتحدثون عن "دراكولا" مصاص الدماء أو مدينة أطلانتس الغارقة في المحيط الأطلنطي، وفي إسكتلندا وحش بحيرة لوخ نيس، وأحدب كنيسة نوتردام في باريس بفرنسا، والعديد من تلك القصص التي تحوَّلت من حكايات شعبية وخرافية، إلى نقاط جذب يقصدها السياح والزوار من كل أنحاء العالم؛ حيث قامت تلك الدول بإعداد بنى تحتية من المتاحف والعروض التي تتفاعل مع المشاهدين والزوار، وكذلك جولات سياحية في هذه المعالم إضافة إلى محلات لبيع التذكارات التي يشتريها هؤلاء الزوار والسياح.
ويعد الترويج من خلال الأساطير والقصص الخرافية تجربةً سياحيةً كاملة تشمل العديد من العناصر؛ منها: القصة والزي والفن والطعام وكذلك التذكارات، فلم يقتصر الأمر على الموقع الجغرافي فقط؛ بل شمل تلك العناصر. وتعمل جهات للترويج لتلك الدول من خلال بناء قصص مُشوِّقة حول تلك المواقع وربطها بالأساطير المحلية. وعلى سبيل الطرافة يتم خلق قصص عن كهوف يسكنها الجن أو جبل به قصة ذات أبعاد تاريخية حربية، وبعض المعجزات المختلقة، ثم عرضها بأسلوب شيق للزائر والسائح.
ولدينا في سلطنة عُمان العديد من تلك المواقع التي لها قصص مُشوِّقة وغامضة وأسطورية؛ سواءً كانت مرتبطة بقصة طريفة أو موقع منعزل أو بعض الطرائف التي تتحدث عن السحر والجن والتي لها مُريدوها وزوارها.
وحتى نتمكن من تحقيق هذا الأمر، يتوجب إعداد بعض الأساسيات، ومنها: أن تتولى إحدى الجهات- وعلى سبيل المثال- وزارة التراث والسياحة ووزارة الثقافة والرياضة والشباب، جمع وتوثيق هذه القصص والأساطير المحلية والشعبية التي تتصل ببعض المواقع ثم توثقيها بطريقة مناسبة واحترافية. ثم يأتي عنصر الاستثمار في البنية التحتية لتلك المواقع، من خلال بناء مرافق خدمية مناسبة لها، ولوحات إرشادية ومسارات وطرق سياحية في تلك المواقع.
ثم يأتي دور التقنيات الحديثة مثل الواقع الافتراضي والواقع المُعزَّز لإعادة تجسيد تلك الأساطير وتمثيلها بطريقة تشد حواس السائح والزائر داخل تلك المواقع، ونقترح تنظيم بعض الفعاليات الموسمية مثل المهرجانات المستوحاة من تلك القصص والأساطير لجذب السياح والزوار.
وهناك عنصر مُهم وهو إعداد المُرشدين السياحين الذين سوف يتولون رواية القصص والأساطير بطريقة محترفة وأسلوب سرد جذاب يشد حواس السائح والزائر. وسلطنة عُمان- كما سبق وذكرنا- لديها موروثات ثقافية وسياحية وتاريخية تحتوي على العديد من القصص المرتبطة بالوديان والجبال والقرى القديمة والكهوف، ويمكن توظيفها ضمن إطار سياحي يبرز الهوية الثقافية وأيضا يدعم الاقتصاد والمجتمعات المحلية.
الأسطورة أو الخرافة ليست قصة أو حكاية فقط؛ بل إنها فرصة جميلة للتنمية السياحية، وإذا استطعنا توظيفها في قطاع السياحة فلن تكون فقط ترويجًا وتسويقًا لموقع سياحي؛ بل إحياء لبعض الأساطير والقصص بأسلوب شيق وحديث مع تقديم تجربة لن ينساها الزائر أو السائح، تمزج بين الواقع والخيال والماضي والحاضر.
رابط مختصر