منذ عقود، كانت المدرسة تُشبه ساعة الزمن: عقاربها لا تتغيّر كثيرًا، ودروسها تُعاد كل عام بنفس الترتيب تقريبًا. الطباشير، السبورة، الصفوف المتراصة، والمعلم الذى يتحدث بينما يصغى التلاميذ فى صمتٍ مهيب. كانت المدرسة عالمًا مغلقًا، له نظامه الصارم وحدوده التى لا تُكسر. لكن شيئًا ما حدث… كأنّ بابًا فُتح فجأة على مصراعيه، ودخل منه المستقبل بكل ضوءه، وأجهزته، وأساليبه الجديدة فى التعلّم.
المدرسة لم تعد كما كانت اليوم، لم يعد الطالب ذلك المتلقّى السلبى الذى يكتب ما يُملى عليه، بل صار مشاركًا فى صناعة الدرس نفسه. يسأل، يبحث، يناقش، ويجرّب. السبورة لم تعد سوداء، بل شاشة تفاعلية. والكتب لم تعد تُحمل فى حقائب مثقلة، بل تُختصر فى جهازٍ واحد يضم مكتبة العالم. لقد تغيّر شكل التعلّم، ولكن الأهم من الشكل هو تغيّر الروح.
المدرسة الحديثة صارت تشبه الحياة أكثر: فيها حوار، تجريب، أخطاء، ومحاولات. فيها متعة الاكتشاف لا رهبة الامتحان. الطالب اليوم يتعلّم كيف يتعلّم، لا فقط ماذا يتعلّم.
التكنولوجيا: بوابة التغيير الكبرى
التكنولوجيا لم تدخل الفصول خلسة، بل اقتحمتها بثقة. صارت المعلمة تُنظّم دروسها عبر منصّات ذكية، والطلاب يُنجزون مشاريعهم بمساعدة أدوات الواقع المعزّز والذكاء الاصطناعى. لكن المفارقة الجميلة أن هذا الانفتاح الرقمى لم يُلغِ جوهر الإنسان، بل أعاده إلى الواجهة: الإبداع، التعاون، والتفكير النقدى. فبينما كانت المدرسة القديمة تُكافئ من يحفظ أكثر، باتت المدرسة الحديثة تُكافئ من يفكّر بعمق، ويبتكر، ويخطئ ثم يتعلّم من خطئه.
المعلم: من الملقّن إلى المُلهم
التحوّل لم يشمل الطلاب فقط، بل طال المعلمين أنفسهم. المعلم اليوم لم يعد «مصدر المعرفة الوحيد»، بل صار «مرشدًا فى رحلة المعرفة». إنه يُعلّم كيف نبحث، كيف نفكّر، كيف نسأل السؤال الصحيح. تغيّر دوره من أن يكون فى مقدّمة الصف إلى أن يكون فى قلبه، وسط طلابه، يسير معهم لا أمامهم.
المدرسة كمجتمعٍ حيّ
ربما أجمل ما فى هذه الطفرة أن المدرسة لم تعد مكانًا مغلقًا بين جدرانٍ أربع، بل تحوّلت إلى مجتمعٍ مفتوح على العالم. الطلاب يتواصلون مع أقرانهم من بلدان أخرى، يتعاونون فى مشاريع بيئية أو علمية، ويشاركون فى مسابقات عالمية وهم جالسون فى صفوفهم الصغيرة. إنها مدرسة تُعلّمهم كيف يكونون مواطنين عالميين دون أن يفقدوا جذورهم وهويتهم.
تحديات الطريق الجديد
ورغم هذا كله، لا يزال الطريق أمام هذه الطفرة مليئًا بالتحديات: هناك فجوة رقمية بين مدارس تملك أحدث التقنيات وأخرى تفتقر إلى الأساسيات. وهناك من يخشى التغيير أو لا يزال يرى فى التعليم الحديث خطرًا على الانضباط والهيبة القديمة للمدرسة. لكن عجلة التطوّر لا تعود إلى الوراء، والتحدى الحقيقى ليس فى رفض الجديد، بل فى تطويعه لخدمة الإنسان.
المدرسة التى حلمنا بها
المدرسة اليوم لم تعد مكانًا نحضره صباحًا ونغادره ظهرًا، بل أصبحت رحلة مستمرة من الفضول والاكتشاف. مدرسة تُشعل فى الطالب حب المعرفة بدل الخوف من الامتحان. مدرسة تُخرّج عقولًا تفكّر، وقلوبًا تؤمن بأن التعلّم لا يتوقف عند باب الصف. التغيير الذى نراه اليوم فى مدارسنا ليس مجرّد تحديثٍ فى الأدوات، بل ولادة جديدة لفكرة التعليم ذاتها. لقد عادت المدرسة إلى رسالتها الأولى: أن تصنع الإنسان.
الخبير التربوى
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: الخبير التربوي لم تعد یتعل م
إقرأ أيضاً:
المصرى القديم للعالم: لوْلَاىَ ما كانت الموسيقى
كان المصرى القديم أول من عزف على الآلات الموسيقية التى كان أول من اخترعها أيضاً وقدمها للعالم، كان يتعبد بالموسيقى إلى الله، وكذلك يفرح بها فى أفراح حياته، ويقدمها واجب عزاء فى جنازاته، وكان كذلك يجلس بجوار زرعه ينتظر حصاده بينما يحول هذا الانتظار إلى انتظار موسيقى وغنائى، وكان قد اخترع آلاته الموسيقية من حصاد زرعه كالناى وآلات النفخ، و كذلك الآلات الوترية من أخشاب شجره وأوتارها من أمعاء حيواناته، لم يكتف بذلك بل اخترع الآلات الإيقاعية، فرقص على دروبها، فاخترع المقامات الموسيقية، والموازين الإيقاعية، وجعل الغناء سجلاً لحياته اليومية، من نبضات الفرح وآهات الأحزان والتفكر فى الخالق والوجود، ورحلة الحياة والموت، اخترع المصرى القديم أكثر من خمسين آلة موسيقية، منها آلات العزف الغنائية كالعود والهارب والقانون.. ومنها الكثير من الآلات الموسيقية الإيقاعية، وهو الذى اكتشف السلم الخماسى، ثم لحقه باكتشاف السلم السباعى، الذى هو الأساس الأول لكل المقامات الموسيقية بكافة درجاتها، وقد تأثرت كافة الأديان، وسائر من فى الوجود بهذه الموسيقى، لقد وصف أفلاطون الموسيقى المصرية قائلاً: «هى أرقى موسيقى فى العالم.. فهى الموسيقى الملائمة لتكون لحن الجمهورية الفاضلة، وما أحوجنا فى ظل ألوان الموسيقى المتنوعة،. ما علا منها وما انخفض أن نقدم للعالم موسيقانا نحن وآلاتنا الموسيقية الأولى. باللغة المصرية القديمة، لا أن نجعل الأمر صراع لغات وحضارات فلا ننتصر لثوب هويتنا الأول، إذا كان المصرى وقتها مؤمناً يعلم العالم، وقد عمل الكهنة فى مصر القديمة فى مجالات الموسيقى والغناء ليعمومها للشعب وقد شغل الكاهن «خسور» وظيفة ولقب «مدرب المغنيين».
ويظهر فى الصور على ردهات المعابد، وهو يعلم العزف بـ«السيستروم» والتصفيق بالأيدى، ومن ألمع الأسماء التى عملت بالموسيقى «حمرع» وكان موسيقياً ورئيساً بالبلاط الملكى فى عصر الملك خوفو.
وكان الموسيقيون والمغنون فى عصر مصر القديمة يتمتعون بالمرتبة العالية فى المجتمع آنذاك، وهو الأمر الذى ساعد على نهوض الموسيقى فى هذا العصر، وجعل العالم يتعرف على عالم الموسيقى والغناء من خلال الموهوب المصرى الذى وجد من يدعمه، ومن هذه الأسماء «كافو عنخ» وشغل وظيفة مشرف غناء فى العصر الملكى لمدة اقتربت - من النصف قرن، وظهرت الثنائيات الغنائية ومن أشهرها «حنكو» عازف الهارب والمغنية «آتى» فحظي الاثنان بشرف التخليد على مقبرة أحد أفراد العائلة المالكة من الأسرة الخامسة.
وقد قال الحكيم «آنى» فى تلخيص دور الموسيقى فى حياة المصرى القديم فى إحدى بردياته: «إن الغناء والرقص والبخور هى طعام الآلهة».
فما أبهر تاريخنا المصرى القديم حين نقدمه للعالم بشكله وآلاته وشعره وموسيقاه فى هذا العهد الأول، وقت أن كان العالم يرسخ فى جهالته وبداوته، وفقره. وقد نجح عراب الموسيقى الفرعونية د. خيرى الملط، الأستاذ بكلية التربية الموسيقية فى أن يستخرج صور الآلات الموسيقية فى عهد مصر القديمة من على جدران المعابد، وينسج آلات موسيقية جديدة على غرار نفس شكل ومقاسات الآلات القديمة، وقد تجاوز عدد الآلات الموسيقية المستنسخ أكثر من خمسين آلة موسيقية الفرعونية التى ما تزال المتاحف فى مصر والعالم محتفظة بها، مكون فرقة موسيقية جديدة قديمة على نفس غرار الفرق الموسيقية فى عهد مصر القديمة، ويلبس العازفون بهذه الفرقة الجديدة نفس الزى الذى كان يرتديه العازفون فى العصر القديم، ويعزفون نفس الألحان سألته متعجباً كيف تعرفون وتعزفون الألحان.. وهو لم تسجل ولم تكتب «نوتة» موسيقية فأجابنى: من شكل العازف حين يؤدى هذا المقطع أو هذه الجملة.. فحين ترجع رأسه للوراء تكون الجملة الغنائية والموسيقية من منطقة «الجواب» وكذلك من قدرات الآلات الموسيقية ذاتها المتقدمة فى هذه الفرق ومن طبيعة النص الغنائى الذى كان يغنى، والذى مازلنا نحتفظ به، نحن فى احتفالات المتحف المصرى الكبير لولانا ما كان الغناء ولا الموسيقى.