في أعماق الليل، حين يتبدّى الضميرُ مرتبكاً أمام حجارةِ الحقيقة، وتنطفئ أضواءُ الصمت لرؤية ما لا يُراد رؤيته، ينبثقُ السؤالُ الأنقى:

هل يصبحُ حُرمانُ الحقيقة ذاتَها جريمةً مضاعفة؟

من هذه الزاوية الفلسفية، نقف أمام مشهد سياسي وأخلاقي متشابك، تتقاطع فيه المصالح بالضمائر، والاعتراف بالصمت، حين تُطرح التساؤلات حول ما إذا كانت أجهزة الاستخبارات الأمريكية قد بدأت فعلاً في إدراج أسماء مثل بنيامين نتنياهو، عزيز زامير، يوآف كاتس، وإيتمار بن غفير — وآخرين — على "قائمة سوداء"، بعد أن أقرّت واشنطن بأن إسرائيل خرقت القانون الدولي في حربها على غزة.

أولاً: بين الاعتراف والتردد الأميركي

في تقرير صدر عن وزارة الخارجية الأمريكية في مايو 2024، جاء التقييم بأنّ "من المعقول الافتراض" أن الأسلحة الأمريكية استُخدمت في غزة بطرق لا تتّسق مع التزامات إسرائيل بموجب القانون الإنساني الدولي.

لكنّ هذا الاعتراف لم يتحوّل إلى فعل قانوني، ولم تُتخذ إجراءات ملموسة بحق أي مسؤول إسرائيلي، رغم تراكم الشواهد وتقارير منظمات حقوقية وصحافية دولية تحدثت عن "استهدافٍ ممنهج" للبنية المدنية في القطاع.

محمد سعد عبد اللطيف

لقد بدا الموقف الأميركي أشبه بمرآة مزدوجة تعكس الحقيقة من زاويةٍ، وتحجبها من أخرى. فالتقارير الداخلية، حتى تلك التي حذّر فيها محامون عسكريون إسرائيليون من "أدلة قد تدعم جرائم حرب"، لم تُترجم إلى مساءلة علنية، بل ظلّت حبيسة الأدراج، ضمن شبكة معقّدة من المصالح الأمنية والاستخباراتية.

ثانياً: لماذا لا تضع واشنطن الأسماء على القائمة السوداء؟

يمكن قراءة التردد الأمريكي من 3 زوايا رئيسة:

1. غموض النية الجنائية:

التقارير الأمريكية اكتفت بعبارات عامة مثل "استخدام غير متّسق مع القانون الدولي"، دون إثبات مباشر للنية أو تحديد المسؤولية الفردية. وهنا تكمن ثغرة قانونية تسمح بتأجيل أي عقوبات.

2. حسابات القوة والمصالح:

التحالف الاستخباراتي والعسكري بين واشنطن وتل أبيب لا يحتمل اهتزازاً، خاصة في لحظة يعاد فيها رسم التوازنات الإقليمية. أي خطوة عقابية على المستوى الشخصي لنتنياهو أو بن غفير قد تُفجّر أزمة ثقة استراتيجية بين الطرفين.

3. ازدواجية تطبيق القانون الدولي:

القوانين الأميركية مثل "قانون ليهي" تحظر تقديم مساعدات للوحدات المتورطة في انتهاكات حقوق الإنسان، لكن هذا القانون لم يُطبق يوماً على إسرائيل، رغم كثرة الملفات التي توثق تلك الانتهاكات. وهكذا يتحول القانون من أداة عدل إلى أداة انتقائية، تُفعّل وفق منطق المصلحة لا المبدأ.

--ثالثاً: الحقيقة بين السرّ والعلَن

من حيث الوقائع، لا توجد معلومات علنية تفيد بأن الاستخبارات الأميركية أو وزارة الخارجية وضعت نتنياهو أو رفاقه على أي قائمة عقوبات أو تجميد أصول أو حظر سفر.

لكنّ ما يمكن رصده هو تحوّل في الخطاب الأميركي نفسه: من مرحلة الإنكار الكامل، إلى مرحلة "الاعتراف المشروط" بوجود تجاوزات.

ذلك يعني أن واشنطن بدأت، ولو بخطى حذرة، في مراجعة خطابها تجاه إسرائيل، لكنها لا تزال عاجزة عن تحويل هذا الاعتراف إلى موقف عملي يوازي خطورته الأخلاقية والقانونية.

رابعاً: أزمة الأخلاق في السياسة

ما يجري اليوم ليس مجرد خلاف قانوني، بل أزمة فلسفية في جوهر الدولة الحديثة:

هل تملك الأمم القوية رفاهية الاعتراف دون محاسبة؟

هل يمكن أن تبقى العدالة رهينة التوازنات؟

حين تعترف القوة الكبرى بأن القانون قد انتُهك، ثم تواصل تقديم السلاح ذاته للجهة المتهمة، فإننا لا نكون أمام سياسة، بل أمام نسق من النفاق المؤسسي، حيث تتسع الهوة بين المبادئ المُعلنة والممارسة الواقعية.

هكذا تُختزل العدالة في خطابٍ دبلوماسي ناعم، يُقال بضميرٍ متعب لا يريد أن يسمع صدى كلماته.

خامساً: تداعيات الغياب عن المساءلة

على المستوى الدولي: تتآكل مصداقية واشنطن حين تطالب دولاً أخرى بالامتثال للقانون الدولي وهي تغض الطرف عن حليفها الأقرب.

على المستوى الإسرائيلي: يتعمّق الانقسام الداخلي، حيث يرى بعض الإسرائيليين أنفسهم فوق القانون، فيما يدرك آخرون أن الحصانة لن تدوم طويلاً أمام ذاكرة التاريخ.

على مستوى الأخلاق السياسية: تغدو الإنسانية مادة تفاوضية، ويصبح الدم موضوعاً للاجتماعات السرية لا لمحاكم العدالة.

لقد أضاءت واشنطن، ولو بخجل، مصباح الحقيقة في نفق الحرب، لكنها ما زالت ترفض السير في الطريق الذي يفضي إلى العدالة.

فالاعتراف دون مساءلة ليس شجاعة، بل تواطؤ ناعم، يُراد له أن يبدو عقلانياً.

وحين تُمنح السياسة حق تجاوز القانون، يصبح التاريخ وحده القاضي، وتبقى الحقيقة مؤجلة إلى حين ينهض ضمير العالم من سباته الطويل.. .!!

كاتب صحفي وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية

[email protected]

المصدر: الأسبوع

كلمات دلالية: أمريكا نتنياهو محكمة العدل الدولية حرب غزة العدل الدولية

إقرأ أيضاً:

عون: الغارات الإسرائيلية انتهاك واضح لأحكام القانون الدولي الإنساني

أكد الرئيس اللبناني جوزيف عون، أن  الغارات الإسرائيلية انتهاك واضح لأحكام القانون الدولي الإنساني، وفقا لما ذكرته فضائية "القاهرة الإخبارية"، في نبأ عاجل.

 

الرئيس اللبناني: ما قامت به إسرائيل اليوم في جنوب لبنان جريمة مكتملة الأركان جيش الاحتلال: الإنذار في كفردونين جنوب لبنان لا يزال ساريا

 

كما قال الرئيس اللبناني ، إنّ لبنان منفتح على التفاوض السلمي وإسرائيل تمعن في عدوانها على السيادة اللبنانية.

 

وعلى صعيد آخر، أصدر الجيش الإسرائيلي، اليوم الخميس، مجددا، إنذارا بالإخلاء لسكان بلدة جديدة في جنوب لبنان، بزعم مهاجمة أهداف تابعة لـ"حزب الله"، فيما شن لاحقا غارة استهدفت المبنى المهدد في البلدة.
وقال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي في بيان له "
إنذار عاجل إلى سكان جنوب لبنان وتحديدا في زوطر الشرقية 
سيهاجم جيش الدفاع على المدى الزمني القريب بنى تحتية عسكرية تابعة لحزب الله الإرهابي وذلك للتعامل مع المحاولات المحظورة التي يقوم بها حزب الله لإعادة إعمار أنشطته في المنطقة
نتوجه إلى سكان المبنى المحدد بالأحمر في الخريطة المرفقة والمباني المجاورة له: أنتم تتواجدون بالقرب من مبنى يستخدمه حزب الله الإرهابي فمن أجل سلامتكم أنتم مضطرون لإخلاء المباني فورا والابتعاد عنها لمسافة لا تقل عن 500 متر.
البقاء في منطقة المبنى المحدد يعرضكم للخطر".
ويأتي هذا الإنذار بعد وقت قصير من شن الجيش الإسرائيلي غارات عنيفة استهدفت مبان عدة في عدد من البلدات اللبنانية الجنوبية (عيتا الجبل وطيردبا والطيبة)، بزعم أنها "بنى تحتية عسكرية تابعة لحزب الله"، عقب توجيه إنذارات بالإخلاء للمحيطين بها.
وتستمر إسرائيل بخرق اتفاق وقف إطلاق النار مع لبنان منذ سريانه في 27 نوفمبر 2024، حيث خرق الجيش الإسرائيلي هذا الاتفاق أكثر من 4500 مرة، ما أسفر عن مقتل وإصابة المئات، فيما يؤكد "حزب الله" التزامه الكامل بالاتفاق.

مقالات مشابهة

  • محلل سياسي: حكومة نتنياهو في مأزق بسبب مطالب واشنطن بممر آمن لعناصر حماس
  • مصطفى بكري: الازدحام الشديد أمام اللجان الانتخابية في الخارج يعكس وعي المصريين
  • شرقي: “أتمنى التواجد في القائمة النهائية الخاصة بالـ”كان””
  • شركة باراماونت تُدرج أسماء الفنانين المؤيدين لفلسطين على القائمة السوداء
  • هاف بوست.. بايدن تجاهل معلومات بشأن انتهاك إسرائيل القانون الدولي
  • الولايات المتحدة تضغط لاعتماد خطة ترامب بشأن غزة كمرجع في القانون الدولي
  • الشريدة ينال دكتوراه في القانون التجاري الدولي برسالة حول ISDS والتنمية المستدامة
  • إعلام عبري: نتنياهو يكشف خططه لغزة أمام الكابنيت
  • عون: الغارات الإسرائيلية انتهاك واضح لأحكام القانون الدولي الإنساني