إسحق أحمد فضل الله يكتب: (وفاة المغالطات)
تاريخ النشر: 10th, November 2025 GMT
مبارك…
لا نحاول إقناعك بشيء،
فالحقيقة استقالت من زمان، ووجودها وعدمها الآن سواء.
وابن نوح عليه السلام كان يتخبط وسط الطوفان، ومع ذلك لا يصدق أن هناك طوفانًا.
والمغالطات فيها ذرة من الحياء، فمن يغالطك هو شخص يجعل لرأيك نوعًا من الاعتبار.
الآن الاعتبار هذا يذهب.
وتعجبنا حكاية مصرية، وفيها الخطيب يطلب أن يرى الفتاة ملط.
وشُحّ العرسان يجعل الأب يوافق،
والعرض يتم… الفتاة تمشي وترجع دون ثياب،
والعريس ينهض ويرفض الزواج بحجة أن الفتاة أنفها صغير…
…….
ودكتور محمد وقيع الله في كتاب له يحكي عن التلف العقلي عند اليهود،
قال — وهو ينقل عن كاتب أمريكي —
في تل أبيب كنت في فندق، وأعرف امرأة مات أو اختفى زوجها لسنوات، وهي لا تستطيع الزواج.
سألتها: لماذا؟
قالت: الحاخامات يحكمون أنه لابد أن يأتي شقيق الزوج (لقذف الحذاء).
وما قذف الحذاء؟
قالت: أنا الآن في حكم أنني زوجة له، ولا أنفك من هذا الحكم حتى يأتي — وهو كان في البرازيل — وأمام الحاخام يضربني بالحذاء على وجهي، عندها أكون مطلقة.
الدين اليهودي حكمه هو هذا.
لكن الكتاب يحكي ما هو أكثر وأكثر غرابة،
فالطباخون في الفنادق مثل كل اليهود لا يعملون يوم السبت،
والطعام يُعد يوم الجمعة، ويجعلون عربًا مسلمين يسخنون الطعام نهار السبت.
وعند التسخين، يحتج يهودي بأن رائحة الطبخ جعلت الطعام حرامًا،
وحاخام آخر يقول: ليس حرامًا،
والفندق يحتكم إلى كبار الحاخامات،
وهؤلاء يجتمعون لتعريف (ما هو الطعام)!!!
وهل البخار يُعد طعامًا أم لا؟
وبعد الجلسات الطوال ينتهون إلى تعريف هو:
(ما لا يأكله الكلب لا يُعد طعامًا).
……
والمثير هو أن اليهود يسرقون قصة فرح ود تكتوك،
ولو كان لهم وجود قبل الشيخ فرح لصرخ نوع من الناس عندنا بأن فرح هو الذي سرق الحكاية.
وفي الحكاية أن إقطاعيًا يطلب من فلاح تعليم كلبه اللغة العبرية، وإلا قتله،
والفلاح يقول: نعم أعلّمه، ويطلب خمس سنوات،
ويقول للناس: في خمس سنوات يموت الكلب أو الإقطاعي أو أنا.
وفي الحكاية السودانية، حين يُلزم الحاكم الشيخ فرح تعليم بعيره اللغة،
يلقى موافقة الشيخ.
والناس حين يسألون فرح عمّا يعنيه بالموافقة يقول:
في خمس سنين، يموت البعير أو الأمير أو الفقير.
والفقير هو الشيخ فرح.
……
يبقى أنه الآن ترتفع دعوة للتفاوض مع الدعم،
وحكاية الفتاة أعلاه نسردها لأن ما سوف يقع هو:
البرهان يوافق على العرض،
وهدنة يستجمع فيها الدعم أنفاسه،
ثم يعاود الهجوم بحجة أن الفتاة أنفها صغير،
أو بحجة أنه سوف يبحث عن سبب مستقبلاً.
ولماذا لا يفعل؟
إسحق أحمد فضل الله
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
عبد السلام فاروق يكتب: أحمد شوقي حارس العلم الأخير
كان صوتاً نادراً يعلو فوق ضجيج الوهم، وبصيصاً من نور في ظلام الجهل الذي يلف عقولنا. رحل الدكتور أحمد شوقي.. راهب المعرفة الذي اختار أن يكون حارساً للعلم في زمن باتت فيه البهلوانية علماً، والخرافة معرفة، والصراخ فصاحة، والتفاهة عمقاً. عاش بيننا كأنه نبياً من أنبياء العقل، يحمل لوحاً من نور في يد، ومشعل حق في اليد الأخرى، يسير بهما بين ظلام هذا العصر الموبوء بالخرافات.
أتذكر حين قدمني إليه أستاذي الراحل الدكتور أحمد مستجير قائلاً: "هذا هو الرجل الذي يحمل مشعل العلم الأصيل في زمن الدجالين". نظرت إلى عينيه الهادئتين فوجدت فيهما ذلك النبل والنقاء الذي يميز العلماء.. الذين وهبوا حياتهم لشئون لا تشترى بالمال ولا تكال بالميزان. كان تشع من وجهه الطمأنينة التي لا توجد إلا في عيون العارفين، أولئك الذين اختبروا عمق الحياة وغور المعرفة.
كان الدكتور أحمد شوقي - كما عرفته- عاشقاً للعلم بروح المتصوفة. كان يجلس في مكتبه المتواضع بكلية الزراعة في جامعة الزقازيق، محاطاً بالأبحاث والمراجع، وكأنه في محراب. كان ينفق من راتبه الضئيل على نشر "الكراسات العلمية" التي كان يعدها بنفسه، وكأنه يقدم القربان لمعبد العلم. كم مرة رأيته يحمل حزمة من الأوراق بين ذراعيه، متجهًا إلى المطبعة، يدفع من جيبه الخاص وهو يبتسم تلك الابتسامة الهادئة التي تقول: "هذا هو دوري في الحياة".
اليوم يرحل هذا العالم الجليل، ولا أحد يعلم. لا تكريم ولا نعي في الصفحات الأولى، ولا خبر في التلفزيون. انشغلت بلادنا بالمهرجين، وبمن يشرحون لك كيف يسرقك الجن ويعاشر زوجتك! وانشغل الإعلام بمن يحذرونك من النظر الذي قد يفسد صيامك! في عصرنا هذا، أصبحت الشاشات مسرحاً لبيع الوهم، وباتت الصحف منابر للجهل المُعلب، بينما يموت العارفون في صمت، وكأنهم أخطاء تاريخية يجب محوها.
أحمد شوقي كان آخر فرسان موكب نبيل.. الموكب الذي ضم مستجير، وسمير حنا صادق، وشوقي جلال، و مصطفى فهمي ورفعت لقوشة. رحلوا جميعاً وتركوا وراءهم فراغاً هائلاً، وتركونا في برية موحشة يصول فيها ويجول أدعياء العلم. كلما رحل واحد منهم، انطفأ مصباح من مصابيح المعرفة، وازداد الظلام قتامة وكثافة.
كان الدكتور شوقي يجسد تلك الروح النادرة.. روح العالم الحقيقي الذي يرفض أن يكون بضاعة، ويأبى أن يكون سلعة. كان يرى أن العلم رسالة، والمعرفة خدمة للإنسان. كان خفيض الصوت، منطقي التفكير، شريف الخصومة. كان يجادل بالحجة، لا بالصوت العالي أو بالشتيمة الرخيصة. كم مرة استمعت إليه وهو يحاور خصومه، فيقول: "أختلف معك تماماً، لكنني أحترم عقلك" - كانت هذه هي أقصى درجات الخلاف عنده.
اليوم وقد رحل، أتساءل: من سيروي ظمأ الأجيال الجديدة للمعرفة الحقيقية؟ من سيحرس بوابة العلم الأصيل في زمن طغت فيه الأوهام والخرافات ؟ من سيعلم شبابنا أن العلم ليس مجرد شهادة على حائط، ولا وسيلة للثراء السريع، وإنما هو رحلة بحث عن الحقيقة، وشغف لا ينتهي؟ من سيقف سداً منيعاً في وجه هذا الطوفان الجارف من اللامعرفة، وهذا التسويق الممنهج للجهل؟
رحل أحمد شوقي، لكن إرثه باق. باق في كل عقل استنار بمعرفته، وفي كل نفس تعلمت منه أن العلم رسالة وأمانة. باق في تلك الكراسات العلمية التي أنفق عليها من راتبه، وكتبها بحبر روحه. كم طالب فقير وجد في هذه الكراسات ملاذه، وكم باحث شاب استضاء بها في بداية طريقه.
إلى الدكتور أحمد شوقي.. الذي رحل بصمت كما عاش.. إلى حارس العلم الحقيقي في زمن المزيفين.. إلى الراهب في محراب المعرفة.. السلام لك حين رحلت، والسلام للعلم في بلاد لا تعرف قدر أبنائها البررة.
والآن.. من للعلم؟ من يحميه من المدعين ؟ من يقف على أبوابه في عصر التسول الفكري؟ كنا نظن أن الموت وحده هو الذي يمكن أن ينتزعهم من بين أيدينا، لكننا اكتشفنا أن هناك منتزعات أشد قسوة.. هناك الإهمال، والنسيان، والاحتقار، ولوعة القلب التي تسبق الموت.
كان يمكن للدكتور أحمد شوقي أن يكون نجماً إعلامياً، لو أراد أن يسلك طريق الدعاة الجدد.. طريق التلاعب بعواطف الناس، واستغلال جهلهم، وبيعهم الوهم المعطر بالآيات. لكنه آثر أن يظل في مختبره، بين المعامل والكروموسومات، يفسر أسرار الحياة لمن يريد أن يعرف، لا لمن يريد أن يسمع ما يسر. كان يرفض أن يكون تاجر وعظ، ويأبى أن يكون مساحاً للضمائر.
أتذكر مرة قال لي بهمسة المحبط: أحياناً أشعر أنني أحارب طواحين الهواء.. أنشر العلم بينما ينتشر الجهل بتمويل من كبار التجار! ثم صمت برهة وأضاف: لكنني سأستمر، لأن رسالة العالم مثل شمعة تحترق لتنير لغيرها. كانت عيناه تفيضان بإيمان لا يتزعزع، بإيمان من يعرف أن الحق قد يغيب وقتاً، لكنه لا يموت أبداً.
اليوم احترقت الشمعة حتى آخر فتيل فيها، وانطفأت في صمت.. بينما كانت الأضواء الكاشفة مسلطة على "الداعية" الذي يفسر كيف يدخل الجن جسد الإنسان، وكيف يمكن للشيطان أن يعاشر المرأة في فراشها! في أيامنا المقلوبة، أصبح الترهات علماً، والعلم ترهات، وأصبح ناشروا الخرافة مرشدين، والعلماء منبوذين.
في وداع الدكتور أحمد شوقي، لا نودع رجلاً فقط، بل نودع نموذجاً كاملاً للإنسان العالم.. الإنسان المتواضع الذي لا يتعالى، المتسامح الذي لا يتعصب، المنطقي الذي لا يهذي، الشريف الذي لا يدلس. نودع ذلك الجيل الذي كان يعتقد أن العلم رسالة وأمانة، وليس وسيلة للشهرة والثراء.
نودع ذلك الجيل الذي كان يؤمن بأن الثقافة العلمية هي أساس تقدم الأمم، وليس الطقوس والشعوذة. جيل كان يرى في المعرفة نوراً يجب أن يصل إلى كل إنسان، وليس حكراً على نخبة أو سلعة لأغنياء. جيل كان يعتبر البحث العلمي ضرباً من ضروب العبادة، والعلم محراباً للتفكر في عظمة الخالق.
رحل أحمد شوقي ومشروعه الطموح "الكراسات العلمية" الذي كان يحلم بأن يصل إلى كل طالب، وكل معلم، وكل إنسان يريد أن يفهم العالم من حوله. رحل وهو يحمل أحلاماً لم تتحقق، ومشاريع لم تكتمل، ورسائل لم تصل. لكنه رحل وهو يعلم أنه بذل كل ما في وسعه، وأنه وقف في وجه الجهل حتى آخر نفس.
لكن.. سيظل نوره باقياً في كل عقل تنور به، وكل روح أضاءها. سيظل نموذجه شاهداً على أن مصر أنجبت رجالاً حقيقيين، لم تلههم المساومات الرخيصة عن البحث عن الحقيقة. سيظل حياً في ذاكرة كل من عرفه، وكل من قرأ له، وكل من استفاد من علمه.
إلى الدكتور أحمد شوقي.. الذي صعد إلى حيث لا أضواء كاشفة، ولا صفوف أولى، ولا تكريمات مزيفة.. إلى العالم الحقيقي في زمن المزيفين.. إلى الراهب في معبد العلم.. إلى آخر فرسان الموكب النبيل.. السلام لك.. ولأمثالك الذين رحلوا فخبا ضوء العقل، وتراجع سيف المعرفة، وتقدمت جيوش الظلام.
السلام لعصر مضى.. ولرجال لن يعودوا. السلام لزمن كان فيه العالم عالِماً حقاً، والعلم علماً صحيحاً، والمعرفة معرفة نقية. السلام لأيام كنا نرى فيها وجوه العلماء في الشاشات، ونقرأ لهم في الصحف، ونستمع إليهم في الإذاعات. السلام لزمن كان فيه العقل مصوناً، والعلم محترماً، والعالم مكرماً.
الآن وقد رحل آخر الفرسان، من بقي يحمل الراية؟ من بقي يحرس المعبد؟ من بقي يصون العقل؟ أسئلة تتداعى في الذهن، وأجوبة تتساقط كأوراق الخريف.. لا جواب إلا صمت القبور، وهدير الموج المتكسر على شاطئ النسيان.