الباب الذي يِدخل الجيش في الهدنة لا يسع الحركة الإسلامية
تاريخ النشر: 13th, November 2025 GMT
ياسر عرمان
كل من له معرفة بالحرب يعلم ان متغيراتها تصعب الوصول إلى السلام، ان الدماء والغضب والخسائر والتعبئة والدعاية والإعلام الحربي الذي يصاحبها والشحن المستمر للمقاتلين والحسابات العسكرية والسياسية تجعل في الغالب من الصعوبة على اطرافها القبول بوقفها.
من الممكن لخصوم وأصدقاء الجيش ان يدركوا مدى الصعوبة التي تواجه قيادة الجيش في اتخاذ القرار بالقبول بهدنة انسانية رغم طبيعتها التي وضعت لها البشرية أُسس في ضرورة حماية المدنيين وإيصال المساعدات الإنسانية وتبادل الاسرى، والبحث عن المفقودين وحرية الحركة للمدنيين على ضفتي الحرب، وإيجاد بعثة لمراقبة وقف إطلاق نار انساني، تلك قضايا صعبة وحساسة وشائكة ومعقدة مضاف لها في واقعنا مزيدات الاسلاميين الذين ألحقوا أكبر خسائر بالجيش وبمهنيته لم تلحقها حتى الحرب، وأحدثوا انقسام حقيقي داخل المجتمع السوداني هذا الانقسام حرم الجيش من دعم فئات واسعة وهي فئات وطنية وديمقراطية لا تقبل بالحرب ولا بالإسلاميين الذين سعوا منذ البداية للقضاء على ثورة ديسمبر.
معلوم لديكم في قيادة الجيش ان الحرب ليست مجرد تحركات ميدانية عسكرية بل هي استراتيجية متكاملة تُحسب فيها بدقة كافة العوامل الداخلية والخارجية. مثل ما يحتاج شعبنا الآن وقف إطلاق النار الانساني كاحتياجه للماء والهواء فان الجيش يحتاجه ايضاً فهو يقربه من الشعب ويخاطب احتياجات وطنية عميقة، وليس من مصلحة الجيش وقيادته ان يشتروا استراتيجية الحركة الاسلامية، فالعالم كله يدرك اهمية بناء جيش واحد مهني غير مسيس لا يخوض حروب الريف ويعكس التنوع السوداني وضرورة تحقيق ذلك في اي حل مستدام، لكن العالم في معظمه لا صلة بأوهام الاسلاميين وأكاذيبهم التي مزقت السودان وادخلته في معارك داخليه وخارجية بل ان خروج الحركة الاسلامية وهزيمة مخططاتها من مصلحة الجيش المهني، وان ثورة ديسمبر قد حررت الجيش كما حررت شعبنا من هيمنة الإسلاميين، ولقد أكد لي ذلك الراحل الفريق جمال عمر في نقاشات مطولة في مدينة جوبا وبعض قادة الجيش الحاليين.
لعل قادة الجيش يتذكرون التجارب السابقة حينما رفض عمر البشير والزبير محمد صالح وأساطين المكر في الحركة الإسلامية الوصول لحلول في أبوجا ونيروبي وأديس ابابا ومحادثات أوسلو السرية في النرويج، وقال الزبير ان الحركة الشعبية لم يتبقى لها إلا مدينة نمولي وهي في (الطوة)، كما رفض غازي صلاح الدين إعلان مبادئ الإيغاد وهدّد قادتها بان بإمكانهم الوصول عسكرياً إلى جنوب أفريقيا، ومع اختلاف الزمان والمكان والأطراف فان الحركة الإسلامية غير مقبولة إقليمياً ودولياً، بينما الجيش يجري الآن حوارات واسعة في الفضاء الحيوي للسياسة الاقليمية والدولية بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية، والباب الذي يمكن يُدِخل الجيش لا يسع الحركة الإسلامية! كما ان الشعب السوداني في غالبيته يقف مع مطلب الجيش الواحد المهني. بعد موافقة الدعم السريع على وقف إطلاق نار انساني يمكن مناقشة قضايا بناء الجيش والدولة السودانية بالكلمة والرؤية السياسية السديدة بدلاً من الطلقة والمدفع والمسيرات، ان هذه الحرب قد دفع شعبنا ثمنها غالياً، فمن كان يظن ان مدينة الخرطوم سيهجر اهلها بأكثر مما فعل كتشنر؟ ومن كان يظن ان مدني والفاشر والأبيض وكادقلي والدلنج.. الخ سيتم تحطيمهم امام أعين شعبنا؟ ما كان ليحدث ذلك لو كان الشعب والدولة في اتحادِ وفي برنامج وطني يجد القبول ويسع الجميع.
قبول الجيش بوقف اطلاق نار انساني سيعزز فرصه في الحوار بدلاً من حرب لا يدفع ثمنها سوى شعبنا والجيش لا يحتاج فقط لحوار مع الدعم السريع بل يحتاج حوار مع شعب السودان اولاً وفي فضاء مفتوح. دمرت هذه الحرب النسيج الاجتماعي ودقت أسافين عميقة بين القبائل، ونزيفها وأنينها مسموع في الريف والمدن. إذا كان الجيش يتخوف من ان تسنح الهدنة في تشكيل واقع سياسي وجغرافي وعسكري على شاكلة النموذج الليبي، فلماذا لا يتم ربط الهدنة بجدول زمني محدد وقصير للحلول النهائية؟ حتى تشكل الهدنة مدخلاً لإنهاء الحرب بدلاً من مدخل لمواصلتها، ان ادخال الشعب السوداني وقواه الحية في انهاء الحرب هو الذي سيضع حد لوقف استباحة ارض السودان وموارد شعبه إذا كان من يتحدثون بان هذه الحرب “حرب وجود” صادقين! فالحفاظ على وجود السودان لن يتم بمعزل عن وحدة شعبه.
١٣ نوفمبر ٢٠٢٥
الوسومياسر عرمانالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: ياسر عرمان الحرکة الإسلامیة
إقرأ أيضاً:
من توت عنخ آمون إلى المتحف الكبير.. الدرس الذي لا يجب أن ننساه
إنّ افتتاح المتحف المصري الكبير ليس مجرد حدث ثقافي أو سياحي، بل هو إعلان رمزي عن عمق حضارة هذا الوطن وامتداد جذوره التاريخية وقدرته على تقديم قيمة حضارية خالدة للعالم. وفي الوقت نفسه يأتي الحدث متزامنًا مع الانتخابات البرلمانية التي أثارت طريقة تنظيمها وطبيعة هندستها السياسية قلقًا عامًا بشأن مستقبل الحياة النيابية، نتيجة الاعتماد على المال بوصفه معيارًا أساسيًا للترشح سواء عبر القائمة المطلقة أو النظام الفردي تحت شعار “الحفاظ على الدولة”. هذا التلازم بين حدث حضاري عالمي، وبين مشهد سياسي مثير للقلق، يفتح الباب للتأمل في السؤال الجوهري: ما الذي يمنح الدولة قوتها الحقيقية؟
الدولة القوية لا تُبنى من فوق الشعب، بل من داخله.
عندما تُغيب إرادة المواطنين أو يُختزل دورهم في دور متلقٍّ أو متفرج، تصبح الدولة جسدًا ضخمًا بلا روح. أما حين يُشرك الشعب في حمل هموم الوطن وصناعة مستقبله، تتحول الدولة إلى كيان صلب يستند إلى توافق اجتماعي وثقة عامة واستعداد جماعي للدفاع عنها في لحظات الخطر.
التاريخ يقدم نموذجًا واضحًا
شاء القدر أن يعيد الحدث الحالي إلى الذاكرة مثالًا تاريخيًا على دولة كانت تحت الاحتلال الإنجليزي، ولكنها امتلكت من القوة ما مكّنها من حماية آثارها وصون إرثها. فقد تمكن وزير الأشغال في حكومة الوفد، مرقص باشا حنا، من الحفاظ على مقبرة الملك توت عنخ آمون من محاولات الاستيلاء والنهب البريطانية بعد اكتشافها. رغم الضغط السياسي والإعلامي الهائل الذي قادته الصحافة البريطانية، وعلى رأسها صحيفة "التايمز"، فإن الوزير لم يتراجع. شدد الحراسة ومنع دخول المقبرة دون تصريح رسمي، وأمر بتسجيل كل قطعة ونقلها تحت حماية مشددة إلى المتحف المصري بالقاهرة.
وعندما حاولت بريطانيا استصدار حكم قضائي يمنحها حق التصرف في نصف محتويات المقبرة، رفضت حكومة سعد زغلول تنفيذ الحكم الصادر من المحاكم المختلطة، وانتزعت انتصارًا قضائيًا نهائيًا يؤكد ملكية المصريين لإرثهم التاريخي.
السؤال هنا:
ما الذي منح تلك الحكومة القدرة على المواجهة رغم الاحتلال؟
الجواب واضح: كانت حكومة ولدت من رحم الأمة، تمثل الشعب لا الأجهزة، وتحمل تفويضًا حقيقيًا للدفاع عن مصالحه.
على النقيض من ذلك
عندما يُختزل العمل السياسي في تحالف المال والنفوذ، وتُهندَس الحياة النيابية وتُفرَّغ التعددية من مضمونها، تتكون شبكات مصالح مغلقة تنتهي إلى فساد اقتصادي واجتماعي. هذا ما عاشته مصر قبل 2011 عندما أدى تزاوج السلطة بالمال إلى الخصخصة العشوائية، وتعطيل قانون المنافسة، واحتكار السوق، والاستيلاء على شركات وطنية، واستغلال الأراضي، وتشكيل مجموعات نفوذ اقتصادية حمت مصالحها بعيدًا عن مصالح الشعب.
ولذلك فإنّ الشعب حين خرج، لم يخرج لهدم الدولة أو مؤسساتها، بل خرج ليواجه الحزب الأوحد ومنظومة النفوذ المالي الاحتكاري التي عطلت الإرادة العامة.
الدروس واضحة:
الدولة القوية تُبنى على شرعية شعبية حقيقية.
البرلمان القوي هو الذي ينتج عن تعددية حزبية تنافسية حقيقية لا عن ترتيبات مسبقة أو هندسة انتخابات محددة النتائج سلفا.
الوطنية لا تُترجم بالشعارات، بل بصيانة الحقوق العامة ومنع احتكار القرار السياسي أو الاقتصادي
إن الثقة في القيادة السياسية قائمة، والإدراك بأن الدولة تعي أخطاء الماضي موجود، لكن عندما تعود ممارسات هندسة المشهد السياسي تحت ستار الوطنية، يجب دق جرس الإنذار.
لأنّ الوطنية الحقيقية لا تُقصي الشعب، بل تجعله شريكًا كاملًا في بناء المستقبل.
خلاصة القول:
قوة الدولة لا تأتي من قدرتها على فرض الإرادة، بل من قدرتها على التعبير عن إرادة الأمة.
وحين يختار الشعب ممثليه بحرية، يصبح البرلمان درعًا للوطن لا عبئًا عليه، وتصبح الدولة ملكًا لمواطنيها لا لمراكز النفوذ.
هذه هي الدولة القادرة على حماية آثارها كما حمت مقبرة توت عنخ آمون.
وهذه هي الدولة القادرة على حماية مستقبلها.