صدى البلد:
2025-11-15@11:06:51 GMT

د. هبة عيد تكتب: أشياء لا نراها إلا حين نكبر

تاريخ النشر: 15th, November 2025 GMT

عندما نمضي في الحياة بقلوب صغيرة وتجارب محدودة، نُفسّر كل ما حولنا بنوايا بسيطة. نعتقد أن الحب وعد لا يتبدّل، وأن القرب يعني البقاء، وأن كل من يبتسم لنا يحمل نية صافية. نمنح ثقتنا سريعًا، ونغفر بسهولة، ونرى الناس كما نحب أن يكونوا، لا كما هم في حقيقتهم. ومع مرور الوقت، ومع الوعي الذي يتشكل داخلنا بفعل التجربة، نكتشف أن الحقيقة لا تظهر دفعة واحدة، بل تتكشف شيئًا فشيئًا.

نفهم أن الوقت لا يغيّر الأشياء بقدر ما يرفع الغطاء عنها، فيكشف لنا ما كان خفيًا خلف الزينة والمظاهر.

فالإنسان يستطيع أن يُخفي جزءًا من ذاته لبعض الوقت، أن يتصنّع اللطف، أو يتجمّل بالاهتمام، أو يقدّم كلمات منمقة تبدو محمّلة بالدفء. لكن الأقنعة مهما كانت متقنة تتعب مع الأيام، والمشاعر المصطنعة تبهت حين يزول سببها. ومع مرور الزمن يبدأ الجوهر في الظهور، فتتضح معادن النفوس. من كان صادقًا يثبت، ومن كان عابرًا يختفي، ومن كان وجوده مرتبطًا بمصلحة أو ظرف يبهت بانتهائه. وهنا فقط ندرك أن الوقت ليس مغيرًا للطباع بقدر ما هو كاشف لها، وأن الزمن لا يبدّل الناس بل يضع كل شخص في موضعه الحقيقي.

غير أن الزمن لا يكشف الآخرين فقط، بل يكشفنا نحن أيضًا. يكشف عمق مشاعرنا، ويُظهر لنا ما إذا كانت محبة واعية أم تعلقًا عاطفيًا مؤلمًا. يكشف حدود صبرنا، ومقدار احترامنا لكرامتنا، وقدرتنا على الاحتفاظ بمن يستحق، والابتعاد عمّن يرهق أرواحنا. ومع كل تجربة، ومع كل بقاء أو خسارة أو تبدّل، تنضج الرؤية شيئًا فشيئًا. نتعلم أن العلاقات لا تُقاس بطولها، بل بثباتها، وأن العطاء الحقيقي لا يُلغِي ذواتنا، وأن الصمت في كثير من الأحيان أصدق من ألف توضيح.

وعلي المستوى النفسي، ندرك أن البصيرة لا تأتي بالعمر وحده، بل بالشعور والتجربة والانكسار والشفاء معًا. فنبدأ في استيعاب أن ليس كل حضور حبًا، ولا كل غياب جفاء، ولا كل خسارة نهاية. فهناك خسارات كانت بابًا للوعي والنضج، وهناك بقاءات كانت نعمة لم ندرك قيمتها إلا حين هدأ ضجيج العاطفة وتكلمت التجربة بصوت هادئ وواضح. وعلى المستوى الاجتماعي، نتعلم أن العلاقات التي تبقى هي تلك التي قامت على وضوح النية، واحترام متبادل، وصدق لا يتبدل مع الوقت، أما تلك التي بُنيت على فراغ أو تجمّل عاطفي أو احتياج مؤقت فهي تتلاشى عندما يحين وقت الحقيقة.

وفي النهاية، حين نكبر بحق، لا نكبر في العمر فقط، بل تكبر بصيرتنا أيضًا. نتعلم أن نختار بوعي، ونحب بهدوء، ونتخلى بسلام. نفهم أن ما كتبه الله ليبقى لن تسقطه الأيام، وأن ما لم يكن له جذور سيسقط ولو بعد حين. وهنا تتضح الحكمة العميقة إن الأشياء لا نراها كاملة حين نكون صغارًا، بل حين نكبر وننضج ونتعلم أن نرى بعين القلب والعقل معًا. فالوقت لم يغيّر شيئًا في الحقيقة، إنه فقط كشف ما كان موجودًا منذ البداية.

طباعة شارك الحياة الحقيقة تجارب محدودة الوعي الإنسان

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: الحياة الحقيقة الوعي الإنسان

إقرأ أيضاً:

العراق بعد أصوات الشعب: لحظة الحقيقة بين فوز السياسيين وتعب الناس

آخر تحديث: 14 نونبر 2025 - 11:32 مبقلم:د. مصطفى الصبيحي قبل يومين فقط، أغلق العراقيون آخر صندوق انتخابي، وفتحوا معه باباً جديداً من الأمل والقلق في آن واحد. انتخابات جديدة، وجوه فازت، وجوه خسرت، أصوات ارتفعت، ووعود أطلقت، لكن وراء كل ذلك هناك شيء واحد يصرخ بصمت: الناس تعبت. العراق اليوم يقف على مفترق طرق حساس، لا يشبه أي مرحلة مرّت عليه منذ سنوات طويلة. النتائج الحالية لم تعد مجرد أرقام تُعلن على الشاشات، بل باتت اختباراً جدياً لمدى قدرة الطبقة السياسية على فهم وجع الشارع العراقي الذي أنهكته الظروف، وأتعبته الأزمات المتراكمة من دون أي نهاية واضحة.المشهد الانتخابي هذه المرة لم يكن عادياً. نسبة المشاركة حملت رسائل كثيرة، فيها غضب، وفيها أمل، وفيها لامبالاة أيضاً. المواطن العراقي ذهب إلى الصندوق وهو يحمل أسئلة معلّقة: هل ستتغيّر أحوالي؟ هل ستتحسن الخدمات؟ هل سيجد ابني فرصة عمل؟ هل ستنتهي فوضى الصحة والتعليم؟ هذه الأسئلة هي التي صنعت المشهد الحقيقي، وليس فقط نتائج الفرز والأرقام.
اليوم، وقد أعلنت النتائج، نقف أمام حقيقة واحدة: الشعب العراقي بدأ يفقد صبره. التعب واضح على الوجوه. الناس ملت من الوعود المتكررة، من انتظار التعيينات الحكومية التي لا تأتي، من فرص العمل التي تتقلص بدلاً من أن تكبر، من البطالة التي تلتهم طموحات الشباب. العراقي اليوم لا يبحث عن رفاهية، بل يبحث عن حياة طبيعية، عن مستشفى يثق به، عن مدرسة محترمة لولده، عن شارع آمن، وعن دولة تحترمه.الهجرة أصبحت هاجساً يومياً. شباب يحلمون بالمغادرة، ليس لأنهم لا يحبون العراق، بل لأنهم لا يجدون مكانهم فيه. فكرة السفر باتت تتردّد على ألسنة الناس بطريقة مقلقة. العراقي لم يعد يريد الهجرة كترف، بل كطوق نجاة من واقع يزداد صعوبة. وهذا وحده جرس إنذار يجب أن يفهمه كل سياسي فاز بالانتخابات: إذا استمرت موجة الهجرة بهذا الشكل، سنفقد طاقات البلد قبل أن نفقد أعداده.
التعليم هو وجه آخر للأزمة. مدارس مزدحمة، جامعات تفتقر للدعم، مناهج لا تواكب الزمن، ومخرجات تعليمية لا توازي أحلام الشباب ولا حاجات السوق. كيف ينمو بلد من دون تعليم قوي؟ كيف نتوقع أن ينافس العراق دول العالم بينما أبناؤه يتخرجون ليجدوا أنفسهم بلا فرصة، أو ضمن بيئة عمل لا تقدّر ما تعلموه؟والصحة… هذا ملف آخر لا يقل الماً. مستشفيات بحاجة إلى تطوير حقيقي، تجهيزات ناقصة، كوادد مثقلة، ومرضى يضطرون للسفر خارج بلدهم للعلاج. العراقي اليوم يريد دولة إذا مرض يجد فيها علاجاً، وإذا تعب يجد فيها من يقف معه، وإذا فقد الأمل يجد من يعيده إلى الطريق. الصحة ليست رفاهية، بل حق أساسي.
ومع كل هذه التحديات، تبقى قضية التعيينات أبرز هموم الناس. سنوات طويلة مرّت والعراقي ينتظر “فرصة تعيين” كأنها حلم مستحيل. بلد غني مثل العراق يجب أن يوفّر فرص عمل حقيقية، لا أن يتحول مستقبل الشباب إلى ورقة سياسية أو وعد انتخابي.
ومن هنا، يأتي الخطاب الذي يجب أن يسمعه السياسيون الفائزون اليوم، خطاب من الشعب إليهم:
انتبهوا للناس. انتبهوا للشباب. انتبهوا لمن أوصلكم إلى مواقعكم. لا تجعلوا الفوز مقعداً، بل اجعلوه مسؤولية.العراقيون تعبوا. يريدون تغييراً حقيقياً، لا شعارات. يريدون أن يشعروا بأن الدولة تراهم، تسمعهم، وتعمل من أجلهم. يريدون دعماً للمشاريع الصغيرة، فرص عمل، دعم للقطاع الخاص، بنى تحتية حقيقية، تعليم وصحة محترمين. هذا ليس كثيراً على شعب قدّم ما قدّم، وصبر ما صبر.على السياسيين اليوم أن يتذكروا أن الفوز ليس نهاية الطريق، بل بدايته. هذه المرحلة تتطلب شجاعة مختلفة: شجاعة اتخاذ قرارات جريئة، شجاعة الاعتراف بالأخطاء السابقة، وشجاعة وضع مصلحة الناس فوق أي حسابات حزبية أو شخصية. العراق لا يتحمل المزيد من الدوران في نفس الحلقة.
وأخيراً.
العراقيون لا يريدون الهجرة. يريدون أن يبقوا في وطنهم، أن يعيشوا بكرامة، أن يروا مستقبلاً لأطفالهم هنا، على أرضهم. نحن نريد للبلد أن ينهض، أن يبتسم، أن يستعيد روحه. وهذه مسؤولية كل سياسي فاز قبل يومين: اثبتوا أن العراق يستحق الأفضل… وأن العراقي يستحق أن يعيش في وطن يحبه ويبقى فيه، لا أن يهرب منه.

مقالات مشابهة

  • الحقيقة في زمن الخوارزميات.. الإنسان بين الوعي والأتمتة.. قراءة في كتاب
  • العراق بعد أصوات الشعب: لحظة الحقيقة بين فوز السياسيين وتعب الناس
  • 5 أشياء فى منزلك يحذرك منها أطباء الجلدية
  • عاجل| مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان: الفظائع بالفاشر هي أخطر الجرائم التي كانت متوقعة
  • نانسي عجرم: أول حفلة غنائية لي كانت في مصر.. فيديو
  • كيفية إبطال سحر المقابر والأعمال المدفونة مع الموتى؟.. بـ 3 أشياء
  • د. أمل منصور تكتب: العلاقات الحديثة هل تبحث عن الحب أم عن الأمان
  • د. منال إمام تكتب: السكن والمساكنة: رؤية أخلاقية واجتماعية في ضوء القيم المصرية
  • محمد عبد الجليل: إصابة محمد إسماعيل أمام الأهلي كانت بسبب الخوف