العالم العربي وتحدي الهوية الوطنية
تاريخ النشر: 15th, November 2025 GMT
يحتاج موضوع بناء الهوية الوطنية، في أي دولة من الدول، إلى جهود كبيرة تتجاوز البعد الثقافي الثانوي الذي يَقرأ الهوية من زاوية رمزية وبعد تاريخي.. وهذه رؤية سطحية جدا لموضوع الهوية في وقت تحول فيه تحدي الهوية إلى ساحة صراع مركزية، وإلى مورد استراتيجي لا يقلّ حساسية عن الممرّات البحرية أو احتياطيات الطاقة.
وقد شغل موضوع الهُوية العالم كثيرا منذ نهاية الحرب الباردة، حيث بدا للوهلة الأولى أن العالم ذاهب نحو «السلطة الواحدة» في بناء القيم وكتابة السرديات، وهي سلطة سياسية واقتصادية وثقافية تقدم للعالم باعتبارها الأفق الوحيد للتقدم.
لم تستطع «العولمة الثقافية» كما اتضح لاحقا أن تبني أو تنتج تنميطا كاملا بقدر ما أطلقت سباقا جديدا حول تعريف الذات؛ بين دول تريد أن تحافظ على خصوصيتها، وقوى عابرة للحدود تتعامل مع الهويات الوطنية باعتبارها عائقا أمام مشروعها أو ورقة يمكن إعادة تشكيلها لخدمة مصالحها.
ومن أجل إزاحة تلك العوائق من أمام تيار العولمة الثقافية جرى توسيع مفهوم الصراع ليشمل إعادة كتابة تاريخ الأمم، وتشويه رموزها، وإعادة تعريف خطوط الانتماء داخلها. وتحولت أساليب الدعاية وفق مفهومها القديم إلى منظومة معقدة جدا تتمثل في المنصات الرقمية، وشبكات المصالح، وصناعة المحتوى، وتعمل على تفكيك الروابط التي تجمع الفرد بالوطن، لصالح انتماءات بديلة؛ طائفية، وقبلية، وأيديولوجية، أو حتى «كونية» مُفرغة من أيّ جذور واقعية.
وساد ظن في العالم العربي أن «العولمة الثقافية» قد وصلت إلى ذروتها وصمد فيها من صمد وتآكل من تآكل؛ لكن الحقيقة أن المرحلة القادمة هي الأكثر خطورة. ويتجه العالم بشكل معلن الآن إلى ما سمته «خطة ترامب للسلام» بمرحلة تغيير الذهنيات وربطها بموضوع حوار الأديان وبقيم التسامح والتعايش السلمي. وليت هذا الطرح مبني على المبادئ الإنسانية لقيم الحوار وليست ضمن لعبة تسييس الأديان وقيم التسامح كما جرت العادة خلال العقود الماضية حيث كان جوهر هذا التغيير يتعلق بالهويات العربية والإسلامية، وبتغيير السرديات وبناء سردية جديدة تعيد رسم علاقة العرب/ المسلمين بإسرائيل.. وحين تستهدف أي سردية وطنية لا يكون المقصود الماضي وحده، بل شرعية الحاضر وإمكانيات المستقبل.
وأي تدخل في سردية الهوية الوطنية لا يعني تصحيح أخطاء التاريخ، فهذا دور الداخل وليس الخارج، ولكن العبث بقضاياه الأساسية وبقيمه، كما يتعلق أيضا بنقل مركز الثقل في وعي المجتمع؛ من كون الدولة إطارا جامعا، إلى كونها كيانا موضع شك دائم أو خصومة كامنة. وعندما يترسّخ هذا التحوّل في الوعي، تصبح أي أزمة اقتصادية أو سياسية قابلة لأن تُقرأ بوصفها دليلا على تهافت الهوية ذاتها، لا خللا في السياسات أو القرارات.
من هنا تأتي أهمية العمل الجماعي في حماية الهوية عبر مشروع طويل المدى يعي طبيعة المرحلة المقبلة وتحدياتها. وهذا يتطلب تكريس فكرة أن الهوية الوطنية هي خلاصة تجربة تاريخية طويلة، تشكّلت فيها علاقة الناس بأرضهم، وبالدولة، وبالمحيط الأوسع الذي ينتمون إليه حضاريّا، وأي عبث بهذه الخلاصة من شأنه أن يعيد ترتيب الولاءات داخل المجتمع.
ويتطلب الأمر إعادة بناء علاقة المواطن بتاريخ بلده بوصفه تجربة إنسانية وسياسية مركّبة، فيها النجاحات والإخفاقات، وفيها لحظات تفوّق ولحظات تراجع.
هذا الجهد لا بد أن يمتد إلى مؤسسات الإعلام والمؤسسات الثقافية والاجتماعية وإلى الأسرة نفسها التي عليها أن تعي تماما ما يعني تحدي الهوية ومخاطره على المدى البعيد، وتعلم أن المرحلة المقبلة لن تكون حيادية تجاه الهويات الوطنية؛ فثمة قوة تعمل على تمييعها لصالح نموذج إنساني بلا جذور، وثمة قوة أخرى تعمل على تفجيرها إلى شظايا متناحرة، طوائف، وأعراق، وقبائل، وأيديولوجيات مغلقة.
تحدي الهوية لا بد أن يأتي في مقدمة التحديات التي على جميع الدول العربية أن تديرها بحكمة ووعي حساس خلال المرحلة القادمة ومن يستهين بهذا الموضوع من الممكن أن يدفع ثمنا باهظا خلال المرحلة القادمة التي يتغير فيها العالم ويعاد تشكيله بناء على هوية كونية لا تنتمي لنا ولا ننتمي لها بأي شكل من الأشكال.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الهویة الوطنیة
إقرأ أيضاً:
مصر أصل الحكاية.. 700 ألف سنة من العلوم التي سبقت العالم كله
في الوقت الذي يتسارع فيه العالم نحو مستقبل رقمي متطور، يكشف التاريخ عن جذور حضارية ضاربة في أعماق الزمن، أثبتت أن المصري القديم لم يكن مجرد مستخدم للأدوات أو ممارس للتقنيات، بل كان العقل الأول الذي وضع الأسس العلمية لكثير من التكنولوجيا الحالية.
هذا ما أكده الدكتور محمد عزام، خبير التكنولوجيا، خلال لقائه ببرنامج «صباح البلد»، ليعيد التأكيد على أن مصر ليست «أم الحضارات» بالمعنى الرمزي، بل حقيقة موثقة تشهد عليها المكتشفات الأثرية والعلوم الحديثة.
وأوضح عزام أن تاريخ المصري القديم يمتد لآلاف السنين، بل لمئات الآلاف، مستدلًا بأدوات حجرية مثل فأس العباسية المحفوظة في المتحف المصري الكبير، وقطع مماثلة محفوظة في متحف ليفربول، والتي يعود تاريخها إلى ما بين 300 و400 ألف سنة.
وأكد أن هذه الأدوات وغيرها من الصناعات الحجرية تمثل دليلًا دامغًا على أن المصري القديم لم يكن مجرد مستخدم للتكنولوجيا، بل مخترعًا ومطورًا لها عبر العصور.
برع المصريون في استخدام الأدوات الصناعية وتطوير المواد، ما أسهم في صناعة أدوات متقدمة نسبيًا بالنسبة لعصور ما قبل التاريخ.
كما كانوا من أوائل الشعوب التي طورت تقنيات في صهر المعادن وصناعة الأدوات الدقيقة.
الرياضيات: الأساس الذي بُنيت عليه الحضارةشدد عزام على أن المصريين القدماء فهموا الرياضيات بشكل متقدم، واستخدموها في كل جوانب حياتهم:
من الزراعة والصناعة والتجارة إلى الهندسة والطب والعمارة.
وأشار إلى برديتي موسكو الرياضية (1850 ق. م) وبردية ريند الرياضية (1650 ق.م)، اللتين تثبتان أن المصريين وضعوا قواعد حسابية دقيقة سبقت بناء الأهرامات بقرون.
الفلك والطب والعمارة.. علوم سبقت عصرهاكشف عزام عن أن المصريين excelled في دراسة حركة النجوم، وربطوها بالزمن والمواسم الزراعية، كما أرسوا مبادئ طبية سبقت كثيرًا من الحضارات اللاحقة.
وفي مجال العمارة، أوضح أن المصري القديم سبق العالم الحديث في تطبيق ما نطلق عليه اليوم «البيوفيليا» أو العمارة المعتمدة على الطبيعة، عبر تصميم بيئات متناغمة مع المحيط الطبيعي قبل آلاف السنين من تبني المفهوم في العصر الحديث.
اختتم عزام حديثه بالتأكيد على أن المصري القديم لم يكن مجرد صانع حضارة، بل مبتكرًا علميًّا متفردًا أسهم في تشكيل أسس التكنولوجيا التي يستند إليها العالم الآن.
وبهذا، تتأكد حقيقة أن مصر ليست فقط مهد الحضارة، بل المصدر الأول لكثير من العلوم التي تُدرَّس اليوم حول العالم.