المقاومة تزداد شراسة.. لماذا تغير إسرائيل عقيدتها العسكرية؟
تاريخ النشر: 12th, October 2023 GMT
ما وُصف بأنه أكبر فشل أمني واستخباراتي وعسكري لدولة الاحتلال منذ حرب أكتوبر 1973 لم يكن مجرد مباغتة ممتازة، بل خطة مركبة استمرت لمدة عامين، بدأت بذكاء استخباراتي من ناحية حماس بحيث أقنعت استخبارات دولة الاحتلال أنها أُنهكت من القتال، بينما يقوم مئات المقاتلين بتدريبات متقدمة لما سيصبح فيما بعد عملية "طوفان الأقصى".
ثم في أثناء العملية نفسها بدأت موجة أولى من الصواريخ تلاها استهداف لمراكز القيادة والسيطرة والاتصالات ثم اختراق استثنائي بمظلات طائرة تعمل بالمحركات تُستخدم أصلا من قِبل هواة الطيران الشراعي، كل ذلك تم تصويره وبثه على الإنترنت في أثناء قيام المعركة على الأرض للأغراض الإعلامية.
لكن لا تظن أن هذه كانت المرة الأولى التي تفاجأت فيها قوات جيش دولة الاحتلال الإسرائيلي بإمكانات المقاومة، في الواقع فإن الاحتلال منذ سنوات يعرف أن المقاومة لن تزداد إلا تطورا وقوة (1)، ولنبدأ بالحرب على غزة في مايو/أيار 2021، التي نشأت بعد أن قررت المحكمة الإسرائيلية العليا إخلاء منازل سبع عائلات فلسطينية في حي الشيخ جراح في القدس وإعطاءها لمستوطنين يهود، عكست هذه الحرب ضد حماس واقعا جديدا يعاني الإسرائيليون للتكيف معه إلى اليوم.
إنهم يقتربون من اللحظة الحاسمةتغطية صحفية: كتيبة الــعــيــاش تعلن إطلاق صاروخ قــســام 1 على مستوطنة "شاكيد" غرب جنين. pic.twitter.com/HXcXdHT6gF
— المركز الفلسطيني للإعلام (@PalinfoAr) August 15, 2023
تشير التقديرات (2) إلى أن حماس أطلقت خلال هذه الحرب نحو 4300 صاروخ على أهداف إسرائيلية على مدار 11 يوما متتالية، في قفزة كانت مفاجئة بالنسبة للإسرائيليين، ليس في عدد الصواريخ فقط لكن الأهم في دقة الهجمات، فما يقدر بنحو 50% من الصواريخ التي أُطلِقت سقطت في مناطق مأهولة بالسكان مقارنة بـ22% في عام 2012 و18% في عام 2014.
ولكي نفهم ما حصل دعنا نرجع بالتاريخ إلى أوائل الألفية، حيث تمكنت حركة حماس من تطوير الصاروخ "قسام 1" بقدرات متواضعة جدا؛ أسطوانة فولاذية بوزن 35 كيلوغراما فقط وطول أقل من مترين ووزن 1.5 كيلوغرام للرأس الحربي ومدى يصل إلى كيلومترين ونصف، تطور خلال الإطلاقات الأولى على إسرائيل إلى ما بين 3-4.5 كيلومترات فقط.
صُنع الصاروخ من مكونات محلية تماما في غالبها؛ مزيج صلب من السكر ونترات البوتاسيوم، والأخير هو سماد شائع، بالإضافة إلى مادة تي إن تي ونترات اليوريا في الرأس الحربي، والأخير هو كذلك سماد شائع آخر، كانت تكلفة بناء هذا الصاروخ نحو 800 دولار فقط وقتها، وهي تكلفة ضعيفة جدا في هذا النطاق.
الآن قارن ذلك بصاروخ "عياش 250" الذي استهدفت به حماس "مطار رامون" على بُعد 220 كيلومترا أثناء حرب 2021، إنه الصاروخ صاحب أطول مدى إلى الآن في ترسانة حماس (250 كيلومترا) وصاحب أقوى تأثير تدميري على الأرض.
وإذا راقبت التتالي الزمني لتطور صواريخ المقاومة فسوف تلاحظ أن ما يُخيف الإسرائيليين ليس فقط تصاعد المدى ولكن زيادة الدقة كذلك، والتسارع في التطوير، فحجم الإنجاز الذي يحققه الفلسطينيون في عام يتضاعف في العام الذي يليه، منذ "قسام 2" في 2002 بمدى 9 إلى 12 كيلومترا، إلى "قسام 3" في 2005، بمدى 15-17 كيلومترا، إلى "إم 75" في 2012 بمدى يصل إلى 80 كيلومترا، إلى رنتيسي 160 في العام نفسه ويصل مداه إلى 160 كيلومترا، وهذه فقط أمثلة.
ولهضم قدر التطور الذي أحرزته حماس والمقاومة بشكل عام مؤخرا فقط تأمل البيانات التالية: أحصت إسرائيل أكثر من 2500 صاروخ أُطلِقت من قِبل حماس صباح يوم السبت الماضي وحده (صباح يوم عملية طوفان الأقصى)، وهذا يعادل تقريبا أربعة أضعاف (3) الرقم القياسي السابق في يوم واحد وهو 670 صاروخا، في حرب 2021! بل وسجلت دولة الاحتلال وابلا بمعدل 137 صاروخا على تل أبيب في أقل من خمس دقائق.
مع هذا المعدل، والإمكانات التي تضاف إلى الصواريخ القادمة من حماس بحيث تساعدها على التخفي من القبة الحديدية وتضيف إلى دقتها، فإن المقاومة الفلسطينية ربما تقترب عاما بعد عام من اللحظة الحاسمة، تلك التي ستُحيَّد فيها القبة الحديدية تماما، وسوف يغير ذلك من كل شيء.
المسيرات: جحيم للسماوات الإسرائيليةعلى جانب آخر، باتت المقاومة الفلسطينية تعتمد بشكل متزايد على المسيرات وخلال الحرب في 2021 اعترضت القبة الحديدية 6 وحدات منها، بينما أسقطت طائرة أخرى من طراز "إف-16" تابعة لسلاح الجو الإسرائيلي مجموعة أخرى، ولم تمثل خطورة كبيرة في تلك الأثناء، يعيدنا ذلك (لغرض المقارنة) إلى عملية طوفان الأقصى، حيث تشير مقاطع الفيديو التي نشرتها حماس إلى أن أسطولا من المسيرات بسيطة الصنع ساعد في تمهيد الطريق لهجومها الضخم.
خلال هذه العملية (4) شكَّلت المسيرات التي تُقاد عن بُعد عنصرا تكتيكيا رئيسيا للهجوم الأوسع، وبحسب التحليل الذي أجرته شركة "درون سيك" الخاصة للاستخبارات فإن حماس استخدمت بذكاء نوعين رئيسيين من المسيرات، الأولى تجارية حُمِّلت بالمتفجرات، والثانية مسيرات انتحارية ذات أجنحة ثابتة تُلقي بنفسها على أبراج الحراسة والأبراج الأمنية والمراكز الحدودية، وأبراج الاتصالات وكاميرات المراقبة الإسرائيلية بدقة، بل إن بعض اللقطات تُظهر مسيرات فلسطينية تقوم بإسقاط دبابة إسرائيلية من طراز "ميركافا-4".
كان هذا نجاحا باهرا في سياق تطوير حماس لأدواتها في نطاق المسيرات، ومع انتشار المسيرات الأكثر تطورا والأرخص ثمنا في المنطقة، من المتوقع أن تصبح حماس وغيرها من فصائل المقاومة أكثر مهارة في حرب المسيرات. ويأتي هذا في سياق مهم، فقد كشفت وزارة الدفاع الإيرانية مؤخرا (5) عن مسيرة سُميت "مهاجر 10″، قادرة على البقاء في الجو يوم كامل بسرعة 210 كيلومتر في الساعة، ما يمكنها من الوصول إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي، وأضافت الوزارة أن المسيرة يمكن أن تحمل معدات مراقبة إلكترونية وكاميرا.
حرب المسيرات عموما تضع إسرائيل في خطر أساسي، حيث يمكن للمسيرات الانطلاق في موجة أولى تستهدف إرباك النظام الدفاعي الإسرائيلي، ثم تُطلق الصواريخ باتجاه إسرائيل إلى جانب العمليات على الأرض، في عملية ثلاثية مركبة يُعتقد أنها ستنجح في اختراق دفاعات إسرائيل بشكل لم يحصل من قبل.
حرب الجبهات المتعددةفي السياق ذاته، فإن أصواتا عدة داخل الجيش الإسرائيلي تتبنى مخاوف متزايدة بشأن احتمالات التصعيد الأفقي، أي فتح جبهات متعددة في الوقت نفسه مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وما يبدأ في غزة فلا بد أنه في إحدى المراحل سيفعّل اشتباكات في الضفة الغربية وجنوب لبنان ومرتفعات الجولان، الأمر الذي يمثل خطورة حقيقية من وجهة نظر الاحتلال.
في الواقع كان هذا النقاش دائرا لأكثر من عقد من الزمان داخل أروقة وزارة الدفاع الإسرائيلية، وخاصة بعد أن أطلق يعقوب عميدرور، الرئيس السابق لشعبة الأبحاث في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية اسم "حلقة النار" (6) على إستراتيجية عسكرية جديدة يمكن أن يستخدمها خصوم إسرائيل. وحلقة النار هي إستراتيجية مفترضة تتضمن بناء حلقة من النار (الصواريخ والمسيرات) حول دولة الاحتلال الإسرائيلي من جميع الجهات، وإعداد هجمات منسقة تهدف إلى إرباك الاحتلال بشكل متزامن.
ووفقا للصحفي عاموس هاريل من صحيفة هآرتس في حوار (7) مع جين-لوب سمعان، وهو زميل أبحاث أول في معهد الشرق الأوسط التابع لجامعة سنغافورة الوطنية، فإن الجيش الإسرائيلي ربما يستعد بالفعل لـ"حملة على ثلاث جبهات"، ستكون القوات الإسرائيلية في موقف هجومي في اثنتين منها، وهما غزة ولبنان، بينما في سوريا ستكون في موقف دفاعي، مع التركيز على لبنان بوصفها مركزَ ثقلٍ أساسيا، نظرا لحجم مخزون حزب الله من الصواريخ الذي يقدر بنحو 130 ألف صاروخ.
تغيير العقيدة الدفاعيةلسنوات طويلة، كانت القبة الحديدية هي جوهرة التاج بالنسبة للجيش الإسرائيلي، وتستخدمها إسرائيل للترويج إلى أنها قوة لا تُقهر، ورغم أن هذا الكلام غير مؤكد كما أوضحنا في تقارير سابقة، فإن القبة الحديدية بالأصل نظام دفاعي، لا يمكن لها أن تفوز بالحروب، بينما لم تحقق العمليات الهجومية السابقة على غزة أهدافها كاملة، الأمر الذي أدى إلى تقويض مصداقية إسرائيل في مجال الردع.
وبناء على ما سبق فإن فريقا من المخططين داخل جيش الاحتلال الإسرائيلي يقترح منذ عام 2020 أن تتبنى إسرائيل عقيدة دفاعية جديدة للتماشي مع هذه التهديدات المتلاحقة السالف ذكرها، بتحويل طبيعة الحرب التي يقودها الجيش إلى عمليات هجومية سريعة تعتمد على استخدام وحدات أصغر من الجنود مدعومة بقوة نيران هائلة تستهدف قوة تدميرية أكبر من المعتاد وبدقة أعلى، سُميت هذه الآلية "النصر الحاسم".
تهدف العقيدة المقترحة إلى التصعيد في وقت مبكر جدا وبسرعة، وتعتمد على المناورة وأسلحة المواجهة (وهي صواريخ أو قنابل يمكن إطلاقها من مسافة كافية للسماح للأفراد المهاجمين بالتهرب من تأثير السلاح أو النيران الدفاعية من المنطقة المستهدفة) والعمليات المشتركة، والتركيز بشكل كبير على التكنولوجيا الجديدة وصولا إلى الحرب السيبرانية، في مواجهة مع عدو متطور عسكريا، في سيناريو متعدد الجبهات.
هذه الاستجابة لا تقول إلا شيئا واحدا فقط، وهو إن إسرائيل باتت تعرف أنها أمام مقاومة غير جامدة، بل هي مرنة تطور نفسها بشكل متسارع يوما بعد يوم، وتتكيف مع المتغيرات في المنطقة، بل إنها تفاجئ الجيش الإسرائيلي في كل مرة بتفوق مدهش في التخطيط والتنفيذ، وما حصل في "طوفان الأقصى" لم يكن إلا واحدة من هذه المفاجآت التي كانت كالعادة أكثر تطورا من سابقاتها.
_______________________________________
مصادر
1- ‘Decisive Victory’ and Israel’s Quest For a New Military Strategy (اعتمد الكاتب على هذه الدراسة بشكل رئيسي ) 2- Gaza’s enhanced rocket technology challenges Israel’s defences 3- How Hamas flooded Israel, killed hundreds and took another 100 hostage: A revolution in drone warfare dating back to Ukraine 4- How Hamas likely used rudimentary drones to ‘blind and deafen’ Israel’s border and pave the way for its onslaught 5- Iran unveils armed drone resembling America’s MQ-9 Reaper and says it could potentially reach Israel 6- Iran’s ‘Ring of Fire’: A Growing Threat to Israel 7- Decisive Victory’ and Israel’s Quest For a New Military Strategy 8- TURN ON THE LIGHT, EXTINGUISH THE FIRE: ISRAEL’S NEW WAY OF WARالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: دولة الاحتلال الإسرائیلی الجیش الإسرائیلی القبة الحدیدیة طوفان الأقصى فی عام
إقرأ أيضاً:
لماذا التصهين اللا شعوري أخطر من التصهين الشعوري؟
تنبع خطورة التصهين اللا شعوري من كونه خفياً ومستتراً إلى حدٍّ لا يدرك معه المصابون به حقيقة موقفهم، إذ يعيشون وهم العداء للصهيونية بينما هم في الواقع يتحركون في الاتجاه الذي يخدم مصالحها.
هذا التناقض بين الشعور والممارسة جعل من التصهين اللاشعوري أداةً أكثر فاعلية في خدمة المشروع الصهيوني من التصهين الشعوري نفسه، لأن الأول يُمارس تحت لافتة المقاومة ويُقدَّم على أنه دفاع عن الدين أو الأمة، وهكذا نجحت أمريكا في توسيع رقعة التصهين اللاشعوري داخل المجتمعات الإسلامية، بالتوازي مع توسيع رقعة عدوانها العسكري والسياسي عليها.
عندما قررت أمريكا احتلال العراق عام 2002م، كانت تدرك تمامًا افتقارها لأي شرعية قانونية أو أخلاقية، وأن ذلك سيؤدي حتمًا إلى نشوء مقاومة عراقية مسلحة تحظى بتأييدٍ واسعٍ على المستويين العربي والدولي. كما كانت تدرك وجود دولٍ مجاورة كإيران وسوريا مستعدة لتقديم الدعم العسكري واللوجستي لتلك المقاومة.
ومع ذلك، مضت أمريكا في مشروعها وهي واثقة من قدرتها على احتواء تبعاته، مستندةً إلى ظاهرة التصهين اللاشعوري داخل أوساط الجماعات الإسلامية، والتي كانت كفيلة بـ إعادة توجيه حالة الغضب الشعبي الناتجة عن احتلال العراق نحو خصوم أمريكا في المنطقة بدلًا من مواجهتها هي.
لذلك، لم يكن غريبًا أن تجتمع في قطر مفارقة لافتة؛ فهي من جهة القاعدة العسكرية الرئيسية التي انطلق منها العدوان الأمريكي على العراق عبر القواعد المنتشرة على أراضيها، ومن جهة أخرى المنبر الإعلامي للمقاومة العراقية ضد الاحتلال الأمريكي من خلال قناة الجزيرة, تلك الازدواجية لم تكن صدفة، بل جزءًا من استراتيجية إدارة الوعي وإعادة توجيهه.
يومها كنا نشاهد الضباط الأمريكيين يديرون العمليات العسكرية لاحتلال العراق من الأراضي القطرية، ونرى الطائرات والسفن الحربية التي كانت تقصف العراق وهي تنطلق من مطارات قطر وموانئها, وفي نفس الوقت كنا نشاهد يوسف القرضاوي، وعلى بُعد خطوات قليلة من قاعدة العديد الأمريكية، يظهر على قناة الجزيرة بصفته “الأب الروحي للمقاومة العراقية”، لا ليدعو الأمة إلى مواجهة الاحتلال الأمريكي، بل ليُحرّضها ضد الشيعة المسحوقين من نظام صدام، بحجة انهم من يتحمل مسؤولية احتلال العراق.
وهكذا نجحت أمريكا في تحويل المواجهة المحتملة معها إلى صراعٍ داخلي دموي من العنف والعنف المضاد، استنزف طاقات الأمة. ولم تمضِ سوى بضع سنوات حتى شاهدناه، ومن على نفس المنبر الإعلامي، يناشد أمريكا صراحةً بالتدخل العسكري في سوريا لإسقاط نظام بشار الأسد، مما أغرق الأمة في صراعٍ دموي جديد.
رغم أن قناة الجزيرة كانت هي من رمَّزت “أبو مصعب الزرقاوي” وقدّمته كأحد رموز المقاومة العراقية، فإن قيامه بذبح المواطن الأمريكي المدني على الهواء مباشرة، وما رافقه من ترويج إعلامي لتلك الجريمة بوصفها عملًا بطوليًا، لم يدفع الولايات المتحدة إلى حظر القناة أو تقييد بثها على الأقمار الصناعية، كما فعلت مع قنواتٍ أخرى أقل تأثيرًا.
ذلك لأن ذلك الفصل من الخطة الأمريكية كان ضروريًا لتشويه صورة المقاومة العراقية أمام الرأي العام العالمي، ولا سيما في الغرب، وتجريدها من أي تعاطفٍ شعبي أو أخلاقي, خصوصا بعد فشل أمريكا في إقناع العالم بوجود علاقة بين نظام صدام حسين وتنظيم القاعدة، وجدت في هذا المشهد الدموي وسيلة متأخرة لشرعنة احتلالها للعراق بأثرٍ رجعي، من خلال الربط الذهني بين المقاومة والإرهاب.
في بداية الاحتلال، كان هناك شبهُ إجماعٍ بين النخب السياسية والفكرية في الغرب على تأييد حق الشعب العراقي في المقاومة ضد الغزو الأمريكي، بل إن بعض رموز اليسار الأوروبي أعلنوا استعدادهم للذهاب إلى العراق والقتال إلى جانب المقاومة العراقية.
غير أن مشاهد قطع الرؤوس، واستهداف المصلّين في المساجد والمدنيين في الأسواق بالمفخخات والأحزمة الناسفة، أحدثت تحولًا جذريًا في المزاج العالمي، إذ انقلبت الموجة المتعاطفة مع المقاومة إلى موجة تأييدٍ ضمني للوجود الأمريكي، بعدما نجحت تلك الأفعال في تشويه صورة المقاومة وتشويه الإسلام ذاته في الوعي الغربي.
وهكذا، تحقّق الهدف الأمريكي غير المعلن: إفراغ المقاومة من بعدها الأخلاقي وتحويلها من حركة تحرّر مشروعة إلى حركة عنفٍ أعمى تبرر الاحتلال بدلًا من مقاومته.
بالمحصلة، فإن التصهين اللا شعوري المستشري في أوساط الجماعات الإسلامية قد خدم المشروع الصهيوني العالمي أكثر مما خدمه التصهين الشعوري لدى بعض الأنظمة العربية، كالنظام السعودي والإماراتي, ليس على مستوى المنطقة فحسب بل وعلى مستوى العالم متسببا فيما بات يعرف بظاهرة الاسلام فوبيا.
وهذا لا يعني بالضرورة أن الجماعات الإسلامية كانت صهيونية النشأة أو الارتباط، بل إنّها تحولت لبيئةً خصبة لانتشار التصهين اللاشعوري نتيجة تأثرها المباشر بالعقيدة الوهابية التي نشأت في بيئةٍ سياسية رعَتها بريطانيا خلال مرحلة إعادة تشكيل الخارطة الدينية والسياسية في الجزيرة العربية.
لقد لعب عدد من الضباط والمستشارين البريطانيين أدوارًا بارزة في تلك المرحلة، وكان لهم تأثير مباشر على مسار التحالفات والنشأة السياسية للكيان السعودي، من أمثال: الكابتن وليم شكسبير الذي قُتل خلال إحدى الحملات الوهابية ضد آل الرشيد، والسير بيرسي كوكس الذي أشرف على ترتيبات الاعتراف البريطاني بسلطة عبدالعزيز آل سعود عام 1915م، وجون فيلبي المستشار البريطاني المقرب من الملك عبدالعزيز، إلى جانب آخرين كـ الكولونيل هاملتون وجيرالد دي غوري.
هذه المرحلة التاريخية شكّلت البيئة الأيديولوجية الأولى التي مهّدت لتغذية التصهين اللا شعوري في الوعي الإسلامي الحديث، من خلال خلط مفاهيم الولاء والبراء وتوجيه العداء «بعيدًا عن القوى الاستعمارية» نحو الخصوم الداخليين، وهو ما ترك أثره العميق في فكر كثير من الجماعات الإسلامية لاحقًا.
إنّ التصهين اللاشعوري يُعدّ إحدى أخطر صور النفاق المرضي التي حذّر منها القرآن الكريم، لأنّ المصاب بها يفقد الإحساس بخطورة أفعاله. وإنعدام الشعور لا يعفي صاحبه من المسؤولية ولا من العقاب، لأنّ فقدان البصيرة لم يكن وليد الصدفة، بل نتيجة طبيعية لفساد القلب وخداع النفس، وقد وصف القرآن هذه الحالة بدقة في مطلع سورة البقرة (الآيات 7–16). «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ۗ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَٰكِن لَّا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)».
*محافظ ذمار