كشف حلف الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا عن وجهه الحقيقي الذي ظل يخفيه طوال العقود الماضية، بزعم أنه يقف مع حل الدولتين في فلسطين، وأنه مع حق الشعب الفلسطيني في الحياة والوجود على أرضه.. كان الكثير من العرب يصدق الأكذوبة، وأنفقتِ السلطات العربية وقتًا وأموالًا مذهلة جريًا وراء هذا السراب.
فأمريكا التي تقود أوروبا، وأوروبا التي تلهث خلف أمريكا، خططا ودبَّرا معًا لإبادة الشعب الفلسطيني، وشطب حقوقه، بل ووجوده من الخارطة الكونية، ولا يمكن تفسير هذا الدعم الذي يفوق الخيال من جميع الدول الأوروبية للموقف الصهيوني بأنه غضب موقف أو رد فعل تلقائي على هزيمة إسرائيل.
إنه القناع الذي أسقطته شجاعة الأبطال عندما أذلُّوا قادة العدو قتلًا وأسرًا، في معركة السابع من أكتوبر، فتداعت هذه الأمم لكي تسارع بتنفيذ خطتها التي وضعتها وكانت تريد تنفيذها بأيدي العرب.
كان حلف أمريكا وأوروبا يحاول إقناع إسرائيل بأن خطة إبادة فلسطين، وشطب حل الدولتين يجب أن يأتي بقناعة عربية، وليس بالقوة الغاشمة، وهم خططوا أن يضعوا الفلسطينيين بين أمرين، إما أن يقبلوا بقتلهم وسحلهم وتدنيس مقدساتهم، وطردهم من أرضهم وبيتوهم، مع الإبقاء على حياتهم، وهي الخطة طويلة الأمد.. أو أن تعيد إسرائيل وأوروبا وأمريكا مرة أخرى نهج عصابات شتيرن والهاجاناه (الهجَّامات) التي أبادت قرى وأحياءً فلسطينية بالكامل، وفرَّ أهلها من القتل بحثًا عن الحياة، ولا يزالون في مخيمات اللجوء منذ عام 48 في لبنان والأردن وسوريا حتى الآن.
الصورة إذًا يُعاد تنفيذها بالكامل دون انتقاص ولكن فقط اختلفتِ الجغرافيا، حيث جاءت سيناء لتحل محل مناطق اللجوء في لبنان وسوريا والأردن. اليهود الذين كانوا في الشتات في كل أنحاء الدنيا جاءوا برعاية أمريكية أوروبية كي يقتلعوا الفلسطينيين من أرضهم، ويستبعدوهم إلى شتات آخر في كل دول العالم. إنها مأساة الإجرام والخديعة والتترُّس خلف القوة دون أي اعتبار للقانون الدولي أو لحقوق الشعوب في الحياة، وفي العيش داخل أرضهم بأمان. لم يكنِ اليهود يفصحون عن خطتهم في تدمير غزة، وكانتِ الخطة (التي استبق تنفيذها الأبطال بخطة مضادة) هي بالضبط ما أعدوا له من طائرات وصواريخ وأنظمة دفاع جوي تقتل وتدمر وتدك الأرض تحت حماية حاملات الطائرات الأمريكية والبريطانية، وبتوظيف كامل لكل أجهزة الاستخبارات في أوروبا.
سوف يسجل التاريخ أن مجموعة من شباب فلسطين حاصرهم العالم شرقه وغربه وشماله وجنوبه، أكثر من ثلاثة عشر عامًا، منعوا عنهم الخبز والدواء، وحتى الهواء، وعندما ضاقت بهم وعليهم الأرض بما رحُبت نزلوا أسفلها وأقاموا أنفاقًا ومدنًا تحت الأرض هربًا من طائرات وصواريخ وكاميرات التجسس التي جاءتهم من كل أنحاء الدنيا تقتلهم وتلاحقهم، وتتلصص عليهم.. نقلوا للمرة الأولى في تاريخ الصراع الحرب إلى داخل الأراضي الفلسطينية التي يسيطر عليها العدو منذ العام 1948.
وكانتِ المشاهِد تدعو إلى الفخر والعزة والكرامة، لأن شبابًا لا يملكون إلَّا عقولهم وسواعدهم، انتصروا على كل تلك التقنيات التي تلاحقهم من السماء، ومن تحت الأرض، ومن البحار والمحيطات، اخترقوا كل ذلك وعادوا إلى غزة المحاصَرة بقادة من جيش العدو وضباط وجنود.. كتب توماس فريدمان، إن ما قام به الأبطال سوف يُدرَّس في الكليات العسكرية والاستخبارية طوال الخمسين عامًا المقبلة.. ونكتب نحن أن هذه الأمة أنتجت من قبلُ أبطالًا في رأس العش وكبريت وعشرات العمليات الأخرى نجح فيها أبطال مصريون في اختراق كل هذا التفوق الأمني والعسكري، والعودة بأسرى من سيناء إلى غرب القناة.
كما أن أبطال القسَّام هم أيضًا الذين نجحوا في كشف أخطر عملية تجسس قامت بها إسرائيل منذ عامين، عندما دخلوا بسيارة بالشكل والماركة تشبه تمامًا سيارة إحدى العائلات الفلسطينية، وزوَّروا أوراقًا ثبوتية بأسماء تلك العائلة لمستعربين يهود، وعندما اقتحموا الحدود ودخلوا كي يزرعوا أجهزة تجسس في داخل غزة، نجح هؤلاء الشباب أيضًا في كشفها بل والنجاح في الحصول عليها بكل ما تحمله من أجهزة وتقنيات حديثة للتجسس، رغم اشتراك تشكيل من الطائرات العسكرية والهليكوبتر في محاولة إنقاذ الجواسيس وتدمير السيارة.
سقطتِ الأقنعة إذًا وأصبحتِ الحرب مكشوفةً ليختار مَن يختار بين العمل مع مَن يريد إبادة أمتنا بكاملها، ومع مَن يريد أن يدافع عنها حتى آخر قطرة دم.
المصدر: الأسبوع
إقرأ أيضاً:
رجال غزة.. حُماة الثغور عبر التاريخ
حمد الناصري
قد تصنع جغرافيا صغيرة، تاريخًا كبيرا، وهذا ما حدث في غزة على مدار عقود طويلة، أكدتها في السابع من أكتوبر 2023، استطاعت تلك المساحة الضئيلة أن تشكّل مُجتمعا صامدا، مُجتمعا لم يضعف ولم يهن ولم يخضع؛ بل يزداد صُمودًا إلى درجة أنه حُرم من العيش الآمن ونال من قسوة الاحتلال الصهيوني ما لم ينلهُ شعب عبر امتداد طويل وواقع سياسي صعب وقاسٍ، وتلقى النكبات تلو الأخرى، ولم يجزع ولم يهِن ولم يضعف ولم يُظهر غير الصبر والثبات.
77 عامًا من النكبات والشتات، بدءًا من نكبة 1948، والتي شهدت أكبر عملية تهجير أولى عرفها الشعب الفلسطيني بعد أن دُمّرت قراهم ومُدنهم، فعانى الشعب الفلسطيني الويلات والنكبات المُتتالية ومن القسوة والشتات في كل بقاع الأرض.. في هذا اليوم المشؤوم أعلن تأسيس دولة إسرائيل على أرض فلسطين.
ولم يتكيّف الفلسطيني مع الوضع ولم يرضخ له أو يعترف به، وظلت الأجيال تتوارث فكرة المقاومة من جيل إلى جيل برغم قسوة التهجير والحرب غير المُتكافئة في معظم الأحيان، فمضت نكبة التهجير المريرة وتلتها نكبة الصراع الطويل. وفي هذا الواقع المرير لعِب رجال هذه الأرض المباركة دور المُواجهة الدائمة مع الاحتلال الإسرائيلي، وبقي الفلسطيني صامدًا مُحتسبًا مدافعًا عن أرضه ووطنه، وأسّس حركة الفداء للأرض والوطن، حركة عُرفت بـ"الفدائيين"، ثم جاء بعدها العُدوان الثلاثي عام 1956، ثم نكسة أكبر من التي قبْلها، نكسة الخامس من يونيو 1967، وفي هذه النكبة المُدمّرة، التهمتْ الصهيونية الإسرائيلية الأراضي والمباني وعيْنها على ما تبقى من المساحة الخضراء لغزة.
77 عامًا لا هدوء فيها ولا فرح؛ بل هي سِنين من أسرار المُواجهة الصامدة من أجل الأرض والوطن وبحرها الذي أصبح النافذة الوحيدة لكل قطاع غزة.. احتلال غاشم مُتطفّل لا كيان له، سوى "وعد بلفور" الصادر بتاريخ 2 نوفمبر 1917، وعْدٌ صدر من المُستعمر البريطاني خلال الحرب العالمية الأولى، دعمًا لتأسيس "وطن قومي لليهود" في فلسطين، نصّه كالتالي: "تنظر حكومة صاحب الجلالة بعين العطف إلى إقامة وطن قوميّ للشعب اليهوديّ في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جليًا أنه لن يُؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر".
وعد بلفور المشؤوم في 1917، والذي يُنسب إلى آرثر بلفور وزير خارجية بريطانيا العظمى وأيرلندا وهو رسالة إلى اللورد ليونيل دي روتشيلد؛ وهي عائلة بريطانية يهودية، مُهيمنة على الوعد وحوّلته إلى واقع شرّاني بائس وقبيح، وصار يُعرف بالاتحاد الصهيوني البريطاني.
ومن وسط ركام الحروب يُولد دائمًا الأمل؛ فمن بين المحن التي توالت على الأمة عامة، وعلى فلسطين خاصة، استطاعت حركة حماس التي أسسها الشهيد القعيد الشيخ أحمد ياسين، أن تتجاوز التوقعات المرة، وأن تصنع أملًا جديدًا تحيا عليه الأمة حتى الساعة، تصنع فيه المعجزات التي صنعها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، وتتفوق على آلة الحرب الصهيونية في الأراضي المقدسة، فمنذ القرن العشرين وحركة حماس في تحدٍّ يفوق الخيال؛ إذ أصبح الغرب مدهوشًا بالأفكار السريالية التي تقوم بها حركة حماس وركّزت المقاومة على تحرير العقل الغزّاوي، ودعتهم إلى تجاوز واقع القسوة والشتات إلى واقع فيه لبُوس من العزة والكرامة.. فحرّرت غزة رغم التواطؤ العالمي والمحلي، ورغم أنّ الجيش الإسرائيلي المُتطور تقنيًا والمدعوم بقوة غربية أوروبية وأسلحة حديثة، لم يستطع تحقيق هدفه أو الدخول إلى عُمق مساحة غزة لأكثر من 630 يومًا من بدء طوفان الأقصى في 7 أكتوبر.. حيث شهدت هذه الفترة دمار مُستشفيات، وقتلا وحشيا للأطفال، وهدم منازل، وحصارا شاملا، وتجويع شعب كامل أمام أنظار العالم، ولم تُحرك عواطف الإنسانية فيه، قيد أنْملة.
77 عامًا من القتل والدمار والتشريد والتهجير، يُقابلها صنف من الرجال الصامدين، يُسطرون أعمالًا بطولية كل يوم، رغم ألوان من العذاب والتنكيل، وهم يقولون الأرض الأرض..
تُذكّرني أحداث معركة أُحُد العظيمة، زمن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام الثالث للهجرة المُباركة والمعركة تُنسب إلى جبل أُحُد العظيم، الذي قال عنه النبي محمد صلى الله عليه وسلم: "أُحُد يُحبنا ونحن نحبّ أُحُد"، وتذكّرني حادثة ارتباط الغزّاوي بأرض الأقصى المباركة وتمسّكه بوطنه الفلسطيني بحرًا وأرضًا، بالصحابي الجليل بلال بن رباح وهو يتلقى أشد العذاب وألوان التنكيل من سيّده أمية بن خلف ليترك الإسلام، ولكنه يُواجهه بكلمة "أحد أحد" رافضًا الاستسلام ورافضًا التخلي عن الإسلام بتاتًا، وقد ثبت على إيمانه، حتى اشتراهُ أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثم أعتقه لوجه الله.
ويظل الأمل باقيا في رجال الأمة ما بقي الزمان..
خلاصة القول.. تظل أعمال البطولة الشامخة تاريخًا لا يُنسى، وستذكُره الأجيال المُتعاقبة جيلا بعد جيل.. لقد صدق الغزّاويون حين ثبتوا على الأرض وصمدوا لأجْل الأقصى المبارك وتحدّوا الظالمين بقوة بما كانوا يعلمون بأنّ العدو الغاشم خاسر لا محالة وأن وعد الله قريب، فما حدث في المشهد البطولي، الذي هو مثار حديث بطولة جبّارة لا تُستنسخ، مُقاتل غزّاوي تسلّق مجنزرة تابعة لوحدة الهندسة الإسرائيلية وألقى بداخلها عبوة ناسفة أدت إلى مقتل سبعة جنود إسرائيليين كانوا بداخلها.
إنه لمشهد بطولي من مسافة صِفر، جهاد في سبيل الأرض المباركة ووقفة صُمود وعِزة من رجال صدقوا ما عاهدوا عليه الله، وقفة بُطولية عالية، وقفة الأحرار في زمن الصّفقات والخيانات.. الغزّاويون أمة مُؤمنة بربّها، أمة لا تنكسر، شامخة، أمة صابرة، عقيدتها جهادٌ من أجل الأقصى المبارك ومن أجل الوطن والأرض، عقيدة لا مساومة عليها، أمّة الصُمود أثبتت للعالم أجمع أنّ المدرعات لا تُهيب الرجال وأنّ القوة التي لا تُقْهر، قُهِرت بأيدي رجال غزة الأوفياء، وإنه لحديث له ما بعده، بعد أن غيّرت حماس وجه الشرق الأوسط وترسم خريطته من جديد.