كلما عُرض لى أمر مهم لا يحتمل التأجيل فى هذه الأيام شديدة الحرارة، أجدنى أميل إلى تأجيله بحجة شدة الحر، وعندما أتذكر مناسك الحج فى نفس الأجواء أميل أيضاً إلى التسويف والتأجيل، ودائمًا ما تحضرنى الآية الكريمة التى تقول:
«فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِى الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ» (81) التوبة.
«وَلَا عَلَى الَّذِينَ إذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ» (92).
أى أنه فى الوقت الذى يتهرب فيه البعض من الجهاد ويبدون أعذارًا لا تنطلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورغم ذلك كان يأذن لهم، ولكى يخفف الله عز وجل وطأة منح الإذن على رسول الله، أوكل أمرهم إليه وقال لحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم «عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ»(43).
ورغم الفارق الضخم فى المقارنة كما ذكرنا من قبل، إلا أننا أمام تحديات فى غاية الخطورة، تتمثل فى أننا نرفض مجرد السير فى الحر وليس النفير أو الحرب، فماذا لو لم توجد الجيوش النظامية لتتولى أمر حماية الأقطار؟ فماذا نحن فاعلون فى حالة الفوضى وانهيار الأقطار لا قدر الله؟ على الرغم من أن وسائل النقل العادية أو الحربية كالغواصات والطائرات والمركبات أصبحت أكثر رفاهية بالمقارنة بالخيل والبغال والحمير، ومن لم يجدوها يتولون وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا لأنهم لم يجدوا وسيلة تبلغهم أرض المعركة.
وقد ذكر المفسرون لقول الله تعالى:
«فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ»، أن هذا الأمر وهو الفرح بالتخلف عن الغزو أمر زائد على مجرد التخلف، فإن هذا تخلف محرم، وزيادة رضا بفعل المعصية، وتبجح به. {«وَكَرِهُوا أن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ»، وهذا بخلاف المؤمنين الذين إذا تخلفوا ولو لعذر حزنوا على تخلفهم وتأسفوا غاية الأسف، ويحبون أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل اللّه، لما فى قلوبهم من الإيمان، ولما يرجون من فضل اللّه وإحسانه وبره وامتنانه.
وثمة سؤال يطرح نفسه عن الحروب الحالية أو حروب المستقبل، التى تعمل فيها الأسلحة النووية ذاتيًا بالذكاء الاصطناعى، فهل يجدى معها النفير فى الحر أو البرد وهل سيشفع لأبنائنا وأحفادنا مكوثهم ليلًا ونهارًا أمام الألعاب الإلكترونية مثل البابجى والأتارى؟، ليخوضوا مستقبلًا نفس الحروب المعتمدة على الذكاء الاصطناعى، والقائمة على تكنولوجيا تمتلكها دول معينة تهدد بفناء العالم؟ وهل سيجدى مع هذا النوع من الحروب عدم النفير؟ وهل لدى الدول الإسلامية مشروعات ردع مشابهة لما تقوم به بعض الدول الكبرى؟ والتى انزعج منها مجلس الأمن وعقد اجتماعًا طارئًا منذ عدة أسابيع حذر فيه من التمادى فى هذا النوع من الأسلحة التى توجه بالذكاء الاصطناعى، والتى من الممكن أن تبيد العالم، ولا ندرى هل سنردد نفس الآية «لا تنفروا فى الحر»، أم أن الموضوع أصبح معقدًا للغاية ولا تتصوره أذهاننا؟ نسأل الله السلامة والنصر من عنده، أنه ولى ذلك والقادر عليه.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: طارق يوسف مناسك الحج الأيام شديدة الحرارة الذكاء الاصطناعى فى الحر
إقرأ أيضاً:
الحروب.. واستنزاف الدول
فايزة بنت سويلم الكلبانية
faizaalkalbani1@gmail.com
السلام والتنمية يشكلان الركيزة الأساسية التي تنطلق منها الشعوب نحو مستقبل مزدهر ومستقر، ومع ذلك، فإن منطقتنا العربية لا تزال تعاني من واقع مرير يحول دون تحقيق هذه الغاية، الحروب المشتعلة في اليمن وسوريا والعراق وفلسطين، إضافة إلى التوترات المستمرة في إيران وأماكن أخرى، تضع المنطقة في حالة دائمة من الاستنزاف تمنعها من استغلال مواردها وتحقيق تطلعات شعوبها.
هذه الحروب ليست مجرد أزمات عابرة، بل هي نتيجة مخططات متعمدة تهدف إلى إبقاء العالم العربي في حالة من الفوضى والضعف، الدور الوظيفي الذي تؤديه إسرائيل في هذا السياق يعد من أبرز العوامل التي تؤجج هذه الصراعات، فمنذ قيامها، لم تكن إسرائيل مجرد كيان يحتل الأراضي الفلسطينية ويمارس العدوان على شعبها، بل أصبحت أداة استراتيجية تعمل لصالح القوى الغربية لتحقيق أهدافها في المنطقة.
في كل عدوان تشنه إسرائيل، سواء على غزة أو الضفة الغربية، يتضح جليًا الهدف الأكبر في استنزاف العالم العربي وإبقاؤه منشغلًا بصراعاته الداخلية، والحصار المستمر على غزة، وتدمير البنية الأساسية، وتهجير الفلسطينيين، ليست سوى ممارسات تهدف إلى تعميق الجراح وتشتيت الجهود العربية نحو قضايا التنمية والبناء.
وعلى الجانب الآخر، نجد أن التدخلات الغربية في دول مثل العراق وسوريا واليمن تزيد الوضع تعقيدًا، الغزو الأمريكي للعراق في 2003، بحجج واهية، أدى إلى تدمير البلاد وإشعال الفتنة الطائفية التي لا تزال آثارها قائمة حتى اليوم، الحرب في سوريا، التي بدأت كحراك شعبي، تحولت إلى ساحة صراع دولي، حيث تدخلت قوى إقليمية وعالمية لتأجيج الصراع وتحقيق مصالحها على حساب الشعب السوري.
اليمن هو الآخر يعاني من حرب مدمرة أكلت الأخضر واليابس، حيث يواجه الملايين خطر المجاعة والأمراض، في حين تتفاقم الكارثة الإنسانية يومًا بعد يوم، هذه الحروب المستمرة، إلى جانب الحصار الاقتصادي المفروض على إيران والتوترات المتصاعدة في المنطقة، تشكل منظومة متكاملة تهدف إلى إبقاء الدول العربية والإسلامية في حالة عجز دائم.
في ظل هذا الواقع المؤلم، تبدو التنمية وكأنها حلم بعيد المنال، فكيف يمكن لدول تعيش في حالة حرب دائمة أن تبني اقتصادًا قويًا أو تحقق استقرارًا اجتماعيًا؟ الحروب لا تقتل فقط الأرواح، بل تدمر البنية الأساسية، وتستنزف الموارد، وتخلق أجيالًا تعاني من الفقر والجهل، السلام هو الشرط الأساسي لتحقيق أي شكل من أشكال التنمية المستدامة.
لكن السلام لا يُمكن أن يتحقق بوجود هذه السياسات التي تهدف إلى إبقاء منطقتنا في حالة ضعف دائم. إنهاء الحروب يتطلب وعيًا جماعيًا بالمخاطر الحقيقية التي تواجهنا، وإرادة سياسية قوية تتجاوز المصالح الفردية وتضع مصلحة الشعوب فوق كل اعتبار.
إعادة بناء العالم العربي تبدأ من تجاوز الخلافات الداخلية، وتوحيد الصفوف في مواجهة التحديات المشتركة، الشعوب العربية أثبتت مرارًا قدرتها على التحدي والصمود، ولكنها بحاجة إلى قيادة رشيدة قادرة على توجيه هذه الطاقات نحو البناء والتنمية.
فقدنا في صراعاتنا الممتدة قيادات وعلماء ومفكرين كانوا يتمتعون بعقول نيرة ومهارات استثنائية قادرة على بناء الأوطان وخدمة الأمة، نيران الحروب حرمتنا من عطائهم، وأضاعت فرصًا ثمينة لتغيير مجرى التاريخ.
هذا الاستنزاف للعقول لا يخدم سوى الأجندات الخارجية التي تبقي منطقتنا في ضعف دائم، إن إدراك هذه الخسائر يحتم علينا العمل لوقف الحروب، وإعادة بناء مجتمعاتنا على أسس السلام والعدالة، لاستعادة العقول المهاجرة وتوجيهها نحو مستقبل أفضل.
إنَّ السلام ليس مجرد غياب الحروب، بل هو عملية شاملة تتطلب تحقيق العدالة الاجتماعية، ورفع مستوى التعليم والصحة، وتمكين الأفراد من المساهمة في بناء مُستقبلهم، هذا لا يمكن أن يتحقق إلا إذا نجحنا في تجاوز الأجندات المفروضة علينا، ورفضنا التدخلات التي تهدف إلى إبقاء منطقتنا ساحة لصراعات الآخرين.
الحروب المشتعلة في منطقتنا ليست قدَرًا محتومًا؛ بل هي نتيجة سياسات يُمكن تغييرها إذا توفرت الإرادة، علينا أن ندرك أنَّ السلام والتنمية هما حق مشروع لكل شعوب المنطقة، وأن طريقنا لتحقيق هذا الهدف يبدأ بوحدتنا وإيماننا بقدرتنا على تجاوز المحن وبناء مستقبل أفضل.
رابط مختصر