الجميع خلف الأستاذ.. العباقرة ساروا على دربه
تاريخ النشر: 11th, September 2023 GMT
يُعد الفنان سيد درويش رائد ومُجدد الموسيقى فى مصر، حيث نجح فى بث الروح فيها من جديد، وجعل الجمهور يُعبر عن مشاعره وأحزانه وعواطفه أياً كانت من خلالها، فكان صاحب مدرسة موسيقية مميزة ورائدة حتى الوقت الراهن، رغم أنه لم يتلقَّ العلوم الموسيقية على يد أحد.
الكاتب الأمريكى إدوارد لويس، فى كتابه «سيد درويش والموسيقى العربية الجديدة»، يقول إن: «تلاميذ الشيخ سيد درويش، وعلى رأسهم المغنى الشهير محمد عبدالوهاب، جهدوا وهم ما زالوا يجهدون فى متابعة عمله، وإذا كان تنقيبهم المرير عن موسيقى كلاسيكية عربية مائة بالمائة يثير الابتسام، فإنهم بلا ريب لا يتماشون دائماً على خطة المعلم، فلقد كان اهتمام سيد درويش الأساسى ينصب على تنمية الأساليب التقليدية لا على نسخ الألحان الأوروبية، وكان دافعه الأكبر التعبير عما يرى ويشم ويشعر، وأن يُقاسم الجماهير هذا الشعور».
الشاعر فوزى إبراهيم، أمين عام جمعية المؤلفين والملحنين والناشرين المصريين، قال لـ«الوطن»: هناك أجيال فنية كثيرة ما زالت تسير على نهج سيد درويش، حتى الوقت الحالى.
«القصبجى والسنباطى وفوزى» تأثروا بألحانهوالتى تعتمد على تلحين النص والموضوع نفسه، مثل محمد عبدالوهاب، ورياض السنباطى، ومحمد القصبجى، ومحمد فوزى، ومحمد الموجى، وبليغ حمدى، وكمال الطويل، وفاروق الشرنوبى، فضلاً عن وليد سعد، ومحمد رحيم، وعزيز الشافعى، ومدين، وغيرهم الكثير، «كل هذه الأجيال ما زالت تتبع نهج سيد درويش».
وأوضح فوزى إبراهيم أن الشكل الموسيقى الذى وجد قبل ظهور سيد درويش كان يغلب عليه الروح التركى «كان الملُحن يُلحن الكلمة وحروفها دون الاهتمام بمعنى الجملة، فكان الغناء أجوف ويُقدم جملاً ليست فى سياقٍ واحد، حيث كان يقع فى غرام الكلمة فقط، فالشكل النهائى كان عبارة عن حالة طرب، يمنح الفرصة لاستعراض قدراته فقط».
وتابع: «سيد درويش جاء وصنع العكس، اهتم بتشخيص المعنى والتعبير عن الجملة كلها، وحال انجذابه لكلمة ما كان لا بد أنّ يُعبر عنها بما يتناسب مع سياق موقعها داخل الجملة نفسها»، موضحاً أن «اهتمامه بالمعنى ارتقى بالمغنى وصار له شكل وروح مصرية، كون ذلك كان يحدث لأول مرة فى الأغنية المصرية».
«السيد»: رائد التجديد الموسيقىومن جانبه، قال الناقد الموسيقى محمود فوزى السيد، إن: «وجود سيد درويش فى حد ذاته يُعتبر أحد أنواع التطور الفنى، إذ كان الشكل السائد قبل مجيئه هو الأغانى التى تعتمد على قالب الطقطوقة، إلى أن جاء واعتمد على التجدد الموسيقى، واختيار موضوعات أقرب إلى الجمهور»، متابعاً: «كان بياخد الغناء الشعبى الأصيل بتاع مصر، مثلاً الأغانى الخاصة بالفلاحين فى مواسم الحصاد، والأغانى الخاصة بأجواء الصيف والسواحل، وكذلك أغانى العيد.. هو كان يُغنى من خلال صوت الناس جداً.. أغانى الحارة المصرية الأصيلة، وفى الوقت ذاته، كان مجدداً ومطوراً فى نوع الموسيقى فى مصر».
ويرى أنّ «أبرز ما يُميز مدرسة سيد درويش هو التلقائية فى الأداء، فهو كان مُجدداً للموسيقى لدرجة كبيرة، لكن القدر لم يُمهله طويلاً لتحقيق ما كان يحلم به، خاصة أنه كان يتمتع بعبقرية وموهبة استثنائية للغاية، فقد كان يستعين بكلمات وهتافات الناس فى الشارع ويضع عليها لحناً ويُقدمها فى شكل غنوة».
وتابع الناقد محمود فوزى السيد أن «كل من جاء بعد رحيل سيد درويش ظل يسير على نفس نهجه لسنواتٍ طويلة، والحالة الموسيقية لم تختلف كثيراً بوفاته، إلى أن ظهرت بعض محاولات التجديد، كان أبرزها زكريا أحمد، الذى حقق إسهامات خاصة به، وكذلك محمد عبدالوهاب، الذى قاد فكرة التجديد بعد سيد درويش، وعمل على تطويرها بشكلٍ كبير».
واستكمل: «موسيقى سيد درويش مرتبطة بالمحلية جداً، عكس محمد عبدالوهاب، الذى بدأ يتبع شغفه وراء الموسيقى الغربية، فى أجواء انفتاح مختلفة». وقال إن «المتوهجين من بعد وفاة سيد درويش، وأكثر من عملوا على تطوير الشكل الموسيقى، وأضافوا إسهامات فنية، كان زكريا أحمد، ومحمد القصبجى، ورياض السنباطى، ومحمد الموجى، ومحمد عبدالوهاب، ومحمد فوزى، الذى يُعد أحد أهم عناصر تجديد الموسيقى فى مصر، حيث كان عبقرياً لدرجة كبيرة، وأيضاً بليغ حمدى».
وقال: «بليغ حمدى يُعد قمة التطور الموسيقى من بعد سيد درويش، حيث كانت مرحلة تمتاز بالنضج الموسيقى لدرجة كبيرة، وصنع شكلاً خاصاً به، إذ يُعد قيمة فى التلحين والموسيقى المصرية، فهو يقترب من منطقة سيد درويش، خاصة أن الفرق بينهما أن بليغ جاء فى عصر كانت الموسيقى لها شكل مُعين، لكن سيد درويش هو من صنع الموسيقى، وهذا قد يكون الاختلاف الوحيد».
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: سيد درويش كوم الدكة فنان الشعب نادي الاتحاد السكندري محمد عبدالوهاب سید درویش
إقرأ أيضاً:
حقوق الموسيقى والفنون
يُعد التأليف الموسيقي ونشره وتوزيعه من أهم التحديات التي تواجه المجالات المعرفية في الثقافات؛ ذلك لأنها لا ترتبط بحماية التأليف والمؤلفات الموسيقية وحسب، بل تشمل إمكانات التوزيع العادل لعائدات الإنجازات الفنية للفنانين جميعهم، بما في ذلك الحقوق المتعلقة بالمترجم والناشر والموزِّع والمهن الفنية المساندة لهذا القطاع، إضافة إلى حماية التراث الفني للأمم لارتباطه بالهُوية الثقافية والحضارية.
ولقد أسهمت التقنيات الحديثة في دعم الإبداعات الفنية وبثها وتوزيعها عبر وسائله المتعددة، التي مكَّنت الموسيقى بشكل خاص، وأسهمت في نشرها وزيادة عوائدها الاقتصادية والمالية؛ فالاهتمام العالمي بالموسيقى لا يأتي من منطلق اجتماعي وثقافي فقط، بل كذلك من منطلقات اقتصادية، إذ يظهر ضمن اقتصادات السوق التي تقوم على الإنتاج والاستهلاك، ومدى الإقبال على الأنواع الفنية المختلفة ضمن ما يُسمى بـ (اقتصاد المعرفة) الذي يُسهم في تطوير الصناعات الفنية ودعمها بما يتوافق مع متطلبات السوق والذائقة الجماهيرية، ولهذا فإن الاهتمام بها لا ينعكس فقط على حمايتها وحفظها بقدر ما يُسهم في دعم الاستقرار الاقتصادي للموسيقيين والملحنين والموزعين والمشتغلين بها.
يخبرنا تقرير (الموسيقى العالمي 2025)، الصادر عن الاتحاد الدولي لصناعة التسجيلات الصوتية (IFPI) أنه على الرغم من أن الموسيقى المسجَّلة نمت بشكل مستمر خلال العقد الأخير من الزمان، إلاَّ أنها قد سجَّلت نموا أبطأ خلال العام الماضي، الأمر الذي انعكس على الصناعات الفنية المرتبطة بها، وأثَّر على قدرتها على التعافي، إلاَّ أن التقرير بدا متفائلا بأن هذا التباطؤ يمكن احتواءه، إذ (لا تزال هناك إمكانات كبيرة لمزيد من النمو والتطوير، من خلال الابتكار والتقنيات الناشئة والاستثمار في كل من الفنانين والبنية الأساسية المتطوِّرة للموسيقى في العالم المتنامي).
إن التقرير يؤكد على أهمية شركات الإنتاج الفني في إحداث تغيُّرات وتطورات على مستوى استدامة هذا القطاع وتنميته؛ فالأمر يتعلَّق بعمل واستثمار وشغف شركات الإنتاج الموسيقي ومتبنيها، باعتبارهم شركاء أساسيين للفنانين الذين يرغبون في تطوير المهن الفنية طويلة الأجل، ذلك لأن هذه الشركات مسؤولة عن (اكتشاف المواهب الجديدة وتبنيها، وتفتح تدفقات لإيرادات جديدة، وتربط الفنانين بالجماهير عن طريق المحتوى الفني الذي يمكن إنتاجه وتوزيعه ونشره)، الأمر الذي يمكِّن الفنانين من تحقيق نجاحات إبداعية وتجارية في مراحل تطورهم الفني والمهني.
فشركات الإنتاج الموسيقى ذات أهمية كبرى في تطوير آفاق الموسيقى وارتباطها بالفنون الموسيقية في الدولة من ناحية، وبارتباط الفنانين بموروثهم وتراثهم الفني وتطويره وتنميته وبالتالي استدامته من ناحية أخرى، إضافة إلى أهميتها في دعم المشروعات الإبداعية لهؤلاء الفنانين وتمويل تطوير موسيقاهم وإنتاجاتهم الفنية، من خلال الابتكار والممارسات المرتبطة بالتكنولوجيا التي يوفرونها للفنانين، بُغية مساعدتهم على (التعبير عن فنهم والتفاعل والتواصل مع الجماهير).
ولأن حماية حقوق الملكية الفكرية للموسيقى أحد أهم التحديات التي تواجهها الدول المنتجة للموسيقى، والشركات العاملة في هذا المجال، فإن شيوع برامج الذكاء الاصطناعي قد أسهم في تعزيز الإبداع الفني وتطوير تجارب الفنانين والموسيقيين؛ فهناك شركات متخصصة في الذكاء الاصطناعي تؤدي أدوارا إيجابية في حماية حقوق الموسيقى ومبدعيها، إلاَّ أن بعض من تلك الشركات تقوم بـ (ابتلاع) – بتعبير تقرير (IFPI) – تلك الحقوق، من خلال السطو على الموسيقى المحمية بحقوق النشر؛ إذ يقوم مطورو أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي باستخدام تلك المواد في تجربة نماذجهم وبرامجهم بشكل يهدِّد هُوية الموسيقى والفنون وينتهك خصوصيتها وملكيتها للدول والأفراد.
فالموسيقى في عوالم الذكاء الاصطناعي والتقنيات التكنولوجية المختلفة تواجه مخاطر متعلِّقة بالملكية الفكرية؛ إذ يكشف تقرير (IFPI) إشكالات السطو على الموسيقى من خلال تحميلها وإعادة بثها أو تطويرها أو إعادة تشكيل مسارات نشرها وتوزيعها، الأمر الذي يشكِّل تحديات على مستوى الموثوقية في البث الرقمي والحفظ وسبل الحماية المتوفِّرة على شبكة الإنترنت بشكل عام، مما يعكس تحديات على مستوى الدخل المالي والعائد الاقتصادي لهذا القطاع الفني المهم، ومدى عدالته.
إن الموسيقى تمثِّل قطاعا ثقافيا قائما على الإبداع والابتكار، وهو لا يعبِّر عن تاريخ الأمم وحضارتها ورفاهيتها التاريخية وعادتها وتقاليدها، بل أيضا يقدِّم نفسه باعتباره موردا اقتصاديا قامت على الأمم عبر التاريخ الإنساني؛ فالفنانون والموسيقيون والمبدعون الذين يصنعون الأدوات الموسيقية، وفنيو الصوت والتوزيع والألحان وغير ذلك من مبدعي هذه الفنون، يشكِّلون مجتمعا فنيا يربِّي الذائقة الجماهيرية ويبني قيم التذوُّق والارتقاء بعالم الموسيقى والفنون، ولهذا اهتمت الدول بتطوير هذا القطاع وتقديمه بوصفه مجالا أساسيا من مجالات التنمية الثقافية.
ولعل الخطر المتزايد الذي تواجهه الموسيقى في ظل تطوير برامج الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته خاصة الفنية منها، دفع المنظمة العالمية للملكية الفكرية (الوايبو) إلى تخصيص اليوم العالمي للملكية الفكرية للعام 2025، للاحتفاء بالموسيقى باعتبارها إبداعا فكريا يحتاج إلى الحماية؛ حيث جاء الاحتفال بعنوان (الملكية الفكرية والموسيقى. استشعار إيقاع الإبداع)؛ الذي جعل من حق المؤلف الأساس في صناعة الموسيقى، لذا كانت الحماية أصلا للمؤلفين وحقوقهم الفنية للمصنفات التي يؤلفونها، وكذلك ضمان تحقيق الدخل المستحق من تلك المؤلفات والإبداعات الفكرية التي يقدمونها لشركات الإنتاج.
إن الحديث عن حماية الموسيقى لا يختَّص بحماية المصنف الموسيقى المستقل أو المرتبط بالأغاني والفنون، بل أن حمايته ترتبط بالكثير من الأنماط الإبداعية في المجالات الفنية سواء أكانت صناعات تسجيلية سمعية أو بصرية أو ألعاب الفيديو أو الموسيقى التصويرية وغيرها الكثير من الأنماط الفنية التي ترتبط بها الموسيقى، ولهذا فإن حمايتها تعني حماية العديد من المصنفات الفنية، إضافة إلى حماية حقوق الناشرين والموزعين ومحطات البث وغير ذلك.
فالموسيقى جزء أساسي من الصناعات السمعية والبصرية، لذا فإن حمايتها من خلال السياسات والتشريعات والقوانين الهادفة إلى حماية حقوق المؤلف والمصنفات الفنية، وتقديم أفضل الممارسات التي تحفظ الحماية القانونية لاستخدام المواد الموسيقية في الإنتاجات الفنية المختلفة، الأمر الذي سيضمن العدالة المالية والإنصاف للمؤلف الموسيقي، ويجعله قادرا على الوثوق في الأنظمة والسياسات وبناء بيئة آمنة للإبداع، بما يُعزِّز الإمكانات ويُسهم في تطويرها وتنميتها.
ولأن سلطنة عُمان واحدة من الدول التي تتميَّز بتراث موسيقي وفني عريق ومتنوُّع، فإنها حرصت على تطوير منظومة هذا القطاع من النواحي القانونية والتشريعية، وأوجدت سياسات الحماية الفكرية للفنانين والموسيقيين والإنتاج الفني، مما أسهم في تطوير هذه المنظومة ومهَّدت للكثير من الفنون الإبداعية؛ بدءا من تأسيس المؤسسات المتخصصة المعنية بالمبدعين في المجالات الفنية الموسيقية، وفتح الفرص في الاستثمار في هذا القطاع الحيوي وتسهيله، إضافة إلى تشجيع الفرق الموسيقية والفنية المتخصصة المنتشرة في المحافظات.
إلاَّ أن الانفتاح الإلكتروني وبرامج الذكاء الاصطناعي، وما تقوم به من ممارسات تجعل الموسيقى أحد أهم المجلات الثقافية التي تحتاج إلى الحماية الفكرية، وصون حقوقها وحقوق مؤلفيها، وضمان عدالة عوائدها المالية، لذا فإن هذه الحماية لا تتعلَّق بالقوانين وحدها بقدر ما هي ممارسات أخلاقية يجب الالتزام بها، وجعلها مسؤولية مشتركة بين المؤسسات والأفراد.
عائشة الدرمكية باحثة متخصصة فـي مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة