عربي21:
2025-10-20@16:13:58 GMT

العلاقات الإنسانية كشرط للتحرر السياسي

تاريخ النشر: 20th, October 2025 GMT

مع ما نعيشه اليوم، من استبداد سياسي عربي، وهيمنة استعمارية بالرعاية الأمريكية الإسرائيلية، يأتي سؤالنا حول التنظيمات السياسية العربية التي نسعى لوجودها؛ سواء بخلق تنظيمات جديدة أو حتى إعادة إحياء ما تبقى من أشلاء فكرية وحزبية، بمختلف توجهاتها. لكن، ما أحاول أدّعيه، في هذا المقال، أن عالمنا العربي يحتاج أولا إلى إعادة بناء وترميم العلاقات الإنسانية القائمة على أخلاقيات الواجب والكرامة والاحترام والتعاون والإنصاف، كي يصل، وبالتوزاي، إلى بناء وخلق تنظيمات سياسية فعّالة وتحررية في مشهدنا العربي المأساوي.



في أعماق كل مجتمع، تسكن فكرة خفية تحدد شكل حريته الممكنة: فكرة الإنسان عن نفسه، وعن الأخلاق، والآخر. لا يبدأ الاستبداد من قصر الحاكم ولا من فوهة البندقية، بل من تلك اللحظة التي يرضى فيها الإنسان بأن يُقاد، أو يبرّر خضوعه باسم الحاكم أو الخوف من الفوضى. في بلادنا العربية، لم يكن الطغيان حدثا سياسيا بقدر ما كان مرآة لعقول ألِفَت الطاعة بعد أن روّضها الاستبداد، ولأخلاقٍ صِيغت على مقاس النجاة الفردانية لا الكرامة الجماعية.

لقد تحوّل سؤال الحرية عندنا إلى سؤال أخلاقي قبل أن يكون سياسيا؛ هذا لأن الاستعمار والاستبداد، في جوهرهما، لا يعيشان إلا حين نسمح لهما بالعيش داخلنا، إذ الحرية ليست نظاما نؤسسه، بل وعيا نعيد به بناء ذواتنا: أن نتحرر من الخوف، والنفاق الاجتماعي، والتعامِي عن الآخر، الإنسان، كما من القداسة الزائفة للذات والسلطة والطائفة. وأيضا الصمت، الذي يتمثل في كلام كثير جدا بمفهوم عصرنا، عصر التفاهة الذي يجمّل الوقاحة. عندها فقط تصبح ممارسة الأخلاق فعلا تحرريا، والتنظيم نتاجا لعقلٍ -وعاطفة- استعاد إنسانيته قبل أن يُطالب بحقوقه.

في كثير من الأحيان نميل إلى اختزال مفهوم "الحرية" في نتائج كبرى: دستور، برلمان، حق الانتخاب، حرية التعبير، التحرر من الاستعمار، لكن هذه المفاهيم الكبرى لا تنبت من فراغ، بل تُزرع في التربة اليومية للعلاقات الإنسانية. كلمة لطيفة، مساعدة بلا انتظار، إنصات حقيقي، احترام وتواصل متبادل.. هذه ليست مجرد سلوكيات عادية، بل لِبنات تأسيسية لبناء حرية أوسع. حين يحترم الإنسان إنسانا آخر في تفصيلٍ صغير فهو يعترف له بالكرامة، ويضع أول حجر في جدار مقاومة الاستعباد، بدلا من أن يضع أول خطوة في متاهة الاكتئاب.

ما نعيشه اليوم في ظل الفردانية المعاصرة -تلك التي تقدّس الذات وتَكفر بالآخر- قد أفرز بشرا "أحرارا" بالاسم، لكنهم فاقِدو الجذور والروابط، فلا حرية حقيقية دون التزام أخلاقي تجاه الآخرين، وكل علاقة إنسانية صحيّة -صداقة، حب، مساعدة، نقاش- هي تمرين على بناء هذه الحرية في حيّزها الأصدق: الحياة اليومية.

في مصر، بلدي الأمّ، يتبدى هذا التناقض جليا؛ مجتمع يتغنى بالقيم، ويقدّس الفضيلة في الخطاب، لكنه لا يمانع -بعض منه- التعدي اليومي على الآخر في الشارع، بحجّج الاستقواء والمَزح، أو في العمل، أو في أبسط أشكال الحوار. حالة من الازدواج الأخلاقي، حيث يُعلي الناس من شأن المبادئ نظريا، بينما يتعايشون عمليا مع ظلمٍ صغير يومي: موظف يتلذذ بإهانة مواطن، أب يُرهب أبناءه باسم التربية، شابٌ يُلقي باعتدائه على امرأة في الطريق ويبرر ذلك بسلطة العادة، وغير ذلك من تمثلات لا أخلاقية.

في هذا المشهد، تصبح الثورة السياسية معطوبة سلفا إذا لم تسبقها ثورة على السلوك الإنساني، الذي هو ابن الاستبداد ومن ثم راعي بقائه. لا معنى لرفع شعار "الكرامة الإنسانية" في الميادين، بينما تُداس كرامة الإنسان في بيته أو محل عمله أو طابور الخبز، أو جلسات أصدقائه وعائلته. لذلك، فالتحرّر يبدأ من تصويب العلاقة بالآخر، من نزع العنف الرمزي من القول، من كسر شوكة العادة الظالمة، من الاعتراف بأن الكرامة لا تُنتزع فقط من السلطة، بل من تفاصيل نمارس فيها سلطوية بعضنا على بعض بلا مساءلة.

أما في لبنان، والذي -بشكل شخصي- لامست فيها تجربة ثقافية حلوة ومرّة أيضا من حيث العلاقات الإنسانية؛ لا يبدو الاستبداد مرئيا على هيئة ديكتاتور، لكنه حاضر بقوة في النظام الطائفي الذي يقسم الناس من المهد إلى اللحد. الانتماء هنا ليس اختيارا، بل قدرٌ يرسم حدود العلاقات والفرص والمواقف، وحتى النسب الشخصي، أي بناء الحب من هدمه. في هذا السياق، تصبح الطائفة إطارا مغلقا، وتحل العصبية مكان التضامن، وتُحاصَر كل محاولة لبناء مشروع إنساني وسياسي وطني مشترك بروح التشكيك والكراهية، وسرديات الطائفية الذي لا تُنظم العلاقات الدينية والسياسية فحسب، بل الإنسانية أيضا.

الطائفية لا تكتفي بإفساد السياسية الوطنية، بل تُسمم الأخلاق: تشوّه معنى التعاون، وتحاصر الحب، وتُضعف الثقة، وتُرهب الفرد من أن يمدّ يده خارج طائفته، وأن يعطي لذاته أي وعي خارج إطار بنائها. في ظل هذا الواقع، تصبح العلاقات الإنسانية مرهونة بالحذر، وينمو جيل لا يعرف كيف يثق في نفسه، وفي الآخر، لأنه تربى على خوفٍ مُبرمج من الآخر. كيف يمكن لمثل هذا الواقع أن ينتج فكرا تحرريا أو تنظيما سياسيا وطنيا؟ كيف يمكن بناء حزب أو حركة أو خطاب جامع، أو مشروع زواج حتى! بينما الأساس الإنساني نفسه مفكك ومجروح؟ لا حرية بلا مصالحة، ولا مصالحة بلا اعتراف بالآخر، كإنسان، لا كمذهب أو طائفة أو تهديد.

المشروعالتحرري ليس مشروعترديد للشعاراتالسهلة، ولا يبدأ من النخبة ولا من الدولة، بل من الناس، حيث يعيشون أسفل السُلطوية؛ من الفرد الذي يختار أن يكون كريما لا لأنه مجبر، بل لأنه حر، من شابة تُحسن الردّ في موقف صعب فتطفئ شرارة عنف، من رجلٍ يُصغي بدل أن يُقاطع أو يعنّف، فيفتح بابا للحوار، من طفلٍ يتعلم أن الاحترام لا يُمنح للأقوى، بل للأنبل.. في هذه اللحظات الصغيرة يُعاد تشكيل الوعي، والوعي حين ينضج يُنتج فكرا، والفكر حين يُختبر يُنتج تنظيما، والتنظيم حين يتجذر في أخلاق حقيقية يصنع تغييرا. أما دون ذلك، فكل حركة سياسية بلا جذور إنسانية لن تكون سوى قشرة على سطح الجرح، تخفيه لكنها لا تداويه.

ربما لا نحتاج ثورة على أنظمة الاستبداد والاحتلال وحدهما، بل أيضا على ذواتنا؛ على تلك اللحظات التي نختار فيها الوقاحة بدل اللطف، الالتفاف بدل الإنصاف، والخصام بدلا من النقاش، واللامبالاة بدل التضامن، والتضامن دون سعي للتأثير الحقيقي.. تبدأ الحرية من لحظة نختار فيها أن نرى الآخر لا كتهديد، بل كمرآة لإنسانيتنا. فالحرية ليست موقفا سياسيا فحسب، بل حالة وعيٍ وجمالٍ وصدقٍ في التعامل مع الوجود، وجودنا الأخلاقي في حياتنا، قبل الموت.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء استبداد أخلاقيات الحرية التحرر استبداد حرية أخلاق تحرر قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء سياسة اقتصاد صحافة سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة العلاقات الإنسانیة

إقرأ أيضاً:

المغرب.. مشروع قانون جديد لتحفيز الشباب على العمل السياسي

صادق المجلس الوزاري، الذي ترأسه العاهل المغربي الملك محمد السادس الأحد بالقصر الملكي في الرباط، على مشروعي قانونين تنظيميين يتعلقان، على التوالي، بمجلس النواب وبالأحزاب السياسية.

وجاء في بلاغ الديوان الملكي: "يهدف مشروع القانون التنظيمي المتعلق بمجلس النواب إلى تخليق الاستحقاقات التشريعية المقبلة وضمان سلامتها، وإفراز نخب تحظى بالشرعية والثقة، وذلك من خلال تحصين الولوج إلى المؤسسة النيابية في وجه كل من صدرت في حقه أحكام يترتب عليها فقدان الأهلية الانتخابية، واعتماد الحزم اللازم لاستبعاد كل من تم ضبطه في حالة التلبس بارتكاب أي جريمة تمس بسلامة العمليات الانتخابية؛ علاوة على تشديد العقوبات المقررة لردع كل المحاولات التي قد تستهدف سلامة العمليات الانتخابية في جميع أطوارها".

وأضاف: "ولتحفيز الشباب الذين لا تفوق أعمارهم 35 سنة، على ولوج الحقل السياسي، يتوخى هذا المشروع مراجعة شروط ترشحهم وتبسيطها، سواء في إطار التزكية الحزبية أو بدونها، وإقرار تحفيزات مالية مهمة لمساعدتهم على تحمل مصاريف الحملة الانتخابية، من خلال منحهم دعما ماليا يغطي 75% من مصاريف حملاتهم الانتخابية. كما يقترح المشروع تخصيص الدوائر الانتخابية الجهوية حصريا لفائدة النساء دعما لحضورهن في المؤسسة النيابية".

وتابع: "وفي ما يخص مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالأحزاب السياسية فيهدف بالأساس إلى تطوير الإطار القانوني المنظم لها، ووضع القواعد المساعدة لتعزيز مشاركة النساء والشباب في عملية تأسيس الأحزاب، وكذا تحسين حكامتها، وضبط ماليتها وحساباتها، في أفق تأهيل العمل الحزبي ببلادنا، ليواكب التطورات المتسارعة التي يشهدها المجتمع المغربي".

مقالات مشابهة

  • وزير الخارجية: نجدد التزام مصر بدعم بناء مؤسسات الدولة الصومالية
  • من الإخوان إلى داعش.. الإسلام السياسي في خدمة الغرب
  • رويترز.. ارتفاع الأسهم الآسيوية بدعم الاستقرار السياسي في اليابان
  • المغرب.. مشروع قانون جديد لتحفيز الشباب على العمل السياسي
  • نتنياهو وقياداته مصرّون على الحروب لتفادي السقوط السياسي
  • التوظيف السياسي للصوفية في مصر
  • «الصحة النفسية درعك ضد الإدمان» ندوة توعوية بمطروح الأزهرية ضمن مبادرة «بناء الإنسان»
  • القانون يحجب الصوت عن فاقدي النزاهة.. 9 حالات للحرمان السياسي المؤقت
  • نجم بن عكنون يطيح بـ”السياسي”