سجن ساركوزي.. انتصارٌ للقضاء الفرنسي
تاريخ النشر: 26th, October 2025 GMT
الرئيس الفرنسي الأسبق "نيكولا ساركوزي"، الذي حكم البلاد في الفترة من ١٦ مايو ٢٠٠٧م، حتى ١٥ مايو ٢٠١٢م، عُرف عنه بالتشدد والعنصرية ضد المهاجرين بفرنسا، وبخاصة الجاليات الإسلامية، العربية، والإفريقية، وكان أول مَن تدخل بشئون المساجد الإسلامية، والتدخل في اختيار الأئمة، بالإضافة إلى محاولته منع ارتداء الحجاب الإسلامي بفرنسا، ومنعه ارتداء الرموز الدينية في المدارس، والتي تعلقت في الأساس بالجاليات الإسلامية، ومنذ أن كان وزيرًا للداخلية في عام ٢٠٠٥م، كان أول من هاجم أولاد الضواحي بالأحياء الفقيرة في باريس والمدن الفرنسية، واصفًا إياهم بالرعاع الذين لا يستحقون إلا السجن والطرد من فرنسا، وكانت شعاراته الانتخابية الرئاسية هي تقليص عدد المهاجرين بفرنسا، ومنع المساعدات الاجتماعية، والضغط على الطبقات الفقيرة مقابل دعمه للأغنياء، كما اشتهر بالمبالغة في الغرور، التعالي، واستخدام نفوذه السياسي بطريقة غير قانونية، وغير مبررة ليلصقه بالبروتوكول المتعلق بشخصية الرئيس، وهو الأمر الذي تعاني منه فرنسا الآن، ولكل تلك الأسباب وغيرها لم يتمكن من الفوز بفترة رئاسية ثانية، بسبب رفض الفرنسيين لسياساته العنصرية التي زادت من شعبية اليمين المتطرف بفرنسا، وأسست للعنصرية والتطرف ضد المهاجرين، على الرغم من أن أصول ساركوزي أجنبية.
وقد تعرض ساركوزي للكثير من التهم والتحقيقات الجنائية المتعلقة بحصوله على أموال بشكل غير مشروع، وذلك لتمويل حملته الانتخابية عام ٢٠٠٧، ومنها الحصول على أموال من "ليليان بيتانكور"، وقضية التصنت على القضاء، ومحاولة رشوة أحد القضاة، واستخدام نفوذه حتى أدانته المحكمة، واتهمته بالفساد، وحكمت عليه المحكمة العليا بفرنسا في ديسمبر الماضي ٢٠٢٤ بالسجن لمدة عام، وارتدائه سوارًا الكترونيًّا في كاحله مخصصًا للمدانين بارتكاب جرائم بفرنسا، والآن يقبع ساركوزي في سجن "لاساتني" بباريس، وذلك بعد إدانته من قبل القضاء الفرنسي، والحكم عليه بخمس سنوات، بالإضافة إلى تغريمه أربعة ملايين يورو، ليودع في السجن في ٢١ أكتوبر الجاري ٢٠٢٥، ويعود هذا الحكم لاتهامه في الحكم بتلك القضية بسبب تلقيه أموالاً طائلةً بشكل غير مشروع لتمويل حملته الانتخابية من الرئيس الليبي السابق "معمر القذافي" في الفترة ما بين ٢٠٠٥م، عندما كان وزيرًا للداخلية، وصولاً إلى العام ٢٠٠٧م، عندما تمكن من الوصول إلى سدة الحكم، ويشكل الحكم عليه منعطفًا غير مسبوق في تاريخ السياسة الفرنسية، ليصبح أول رئيس يتم دخوله السجن على هذا النحو، ما يثبت أيضًا بأن هناك انعكاسًا لتغييرات عميقة تحدث في المنظومة الفرنسية والقضاء الفرنسي، وتبرز بدورها أيضًا العلاقة بين المزاولة بين المال والسلطة، كالتمويل غير المشروع للحملات الانتخابية بفرنسا، كما يشير الحكم أيضًا بأنه إشارة طمأنة قوية لديمومة القضاء، وذلك لاعتباره الحصن المنيع الباقي لحماية الشعب من السلطات، وتحقيق العدالة بفرنسا، بل وبإثبات أن المؤسسة الحاكمة بفرنسا ليست فوق القانون، إلا أن هذا الحكم القضائي غير المسبوق بفرنسا قد ترك بدوره موجة من ردات الفعل، منها ما هو مؤيد لساركوزي، واعتبار أن تلك المحاكمة سياسية، ومنها المعارضون بمن فيهم الشارع الفرنسي، الحقوقيون، النشطاء، والفقراء المهمشون الذين يعتبرون قرار القضاء انتصارًا للعدالة بفرنسا، واعتبار ذلك بمثابة ضربة لأحزاب اليمين التقليدي، وعلى رأسهم الحزب الجمهوري الذي ينتمي له الرئيس ساركوزي، والذي كان يحلم بتجهيز ساركوزي لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة للعام ٢٠٢٧.
ومن الأمور التي كان يتمناها المحاميون والحقوقيون العرب رفع دعوى قضائية أمام المحاكم الفرنسية لمحاولة استرجاع الأموال الليبية المقدرة بمائة مليون دولار، والتي حصل عليها ساركوزي لتمويل حملته الانتخابية، أو برفع دعوى قضائية، أو جنائية أمام محكمة العدل الدولية لاتهام ساركوزي بالتسبب في مقتل الرئيس معمر القذافي أثناء أحداث الثورة الليبية عام ٢٠١١م، وذلك بعد أن قام ساركوزي بمشاركة أمريكية، وغربية بشن هجمات على موكب الرئيس الليبي الراحل، وضرب المنشآت العسكرية في ليبيا، والتسبب في إلحاق الدمار وانتشار الخراب لاحقًا بها، وضياع الأمن والاستقرار بها، وبعدم رجوعها إلى الآن للحاضرة الدولية، وباعتباره خائنًا للرئيس القذافي الذي كان قد زار فرنسا عام ٢٠٠٧م، فاتحًا صفحة جديدة مع الغرب، ومع فرنسا تحديدًا عنوانها (الاقتصاد والاستثمار والمصالح المشتركة)، وقد حاول ساركوزي إنقاذ سمعته بالعمل على سرعة قتل الزعيم الليبي، حتى ساعد في حشد القوى الدولية لإنهاء مهمته.
إن تلك المحاكمة قد فتحت الباب أمام تحميل الرئيس ساركوزي الكثير من الملفات، لتشكل تلك الواقعة تحولاً في العلاقة بين السلطة والقانون، وإشارة حمراء لكل مَن يحاول أن يتخطى القانون والدستور، وبإثبات أن النظام القضائي الفرنسي يمثل الأمل الباقي لحماية القيم والمبادئ الفرنسية، بما فيها القدرة على معاقبة السياسيين وغيرهم، دون التأثر بما يتمتعون به من حصانة، وبأنه لا يوجد أحد فوق القضاء والقانون الفرنسي.
المصدر: الأسبوع
إقرأ أيضاً:
ظلال السلطة ترافق ساركوزي داخل السجن
باريس- لم يكن مشهد دخول الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي إلى السجن حدثا عاديا في تاريخ فرنسا السياسي، فالرجل الذي قاد البلاد بين عامي 2007 و2012، وجد نفسه داخل جدران سجن "لا سانتي" الباريسي لقضاء عقوبة مدتها 5 سنوات بعد إدانته بالحصول على تمويل ليبي لحملته الانتخابية.
ورغم إغلاق أبواب السجن الحديدية، لم تندثر تماما ظلال السلطة والنفوذ، والتي لازمته طوال السنوات الماضية، ما أثار عدة تساؤلات بشأن الامتيازات التي لا يزال يستفيد منها حتى داخل زنزانته.
ففي الوقت الذي احتفى فيه جزء من الرأي العام بانتصار المساواة أمام القانون، تعالت أصوات أخرى لتسأل عما إذا كان الرئيس الأسبق يعيش تجربة السجن كغيره من السجناء.
"جناح كبار المحكومين".. ما طبيعة الزنزانة التي سيُسجن فيها الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي خلال سنوات حبسه؟#الجزيرة_ألبوم pic.twitter.com/AYUBYD5djx
— قناة الجزيرة (@AJArabic) October 21, 2025
حماية خاصةيتولى ضابطا شرطة مسلحان من جهاز الحماية مسؤولية أمن ساركوزي داخل السجن ويتناوبان كل 12 ساعة مع فريق آخر مكون من شرطيين آخرين بهدف حمايته في حال وقوع أعمال شغب أو هجمات إرهابية، وفقا لمصدر مطلع أجرت صحيفة "لوباريزيان" الفرنسية مقابلة معه.
وبررت ذلك المتحدثة الرسمية باسم الحكومة مود بريجون، الأربعاء، بالقول إن نشر ضباط الشرطة في زنزانة مجاورة لزنزانة رئيس الجمهورية الاسبق ـالمسجون منذ يوم الثلاثاءـ يأتي نظرا لحاجة السجين لظروف احتجاز خاصة.
من جانبه، أوضح وزير الداخلية الفرنسي الجديد لوران نونيز أن هذا القرار تم اتخاذه بالتعاون الوثيق مع وزير العدل جيرالد دارمانان "لضمان سلامته" وأن النظام سيبقى "ما دمنا نراه مفيدا"، مشيرا إلى "تهديدات أكثر خطورة تهدد الرئيس الأسبق".
وفي بيان نشره مكتب المدعي العام في باريس، الأربعاء، أكد فيه تلقي بلاغ من مدير سجن "لا سانتي" بشأن مقطع فيديو يوضح تهديد أحد السجناء لنيكولا ساركوزي بالقتل.
ظروف استثنائية
ورغم أن تفاصيل الحكم كانت واضحة، فإن تنفيذه تم ضمن ترتيبات لم تألفها السجون الفرنسية من قبل، فعلى سبيل المثال، خُصصت لساركوزي زنزانة انفرادية مساحتها 9 أمتار مربعة، مجهزة بتلفاز وخط هاتف خاضع للمراقبة، فضلا عن إجراءات أمنية غير اعتيادية.
إعلانوقد أثارت هذه المعاملة الاستثنائية ـالتي بررتها الحكومة بـ"اعتبارات أمنية"- جدلا واسعا بين نقابات السجون التي رأت فيها تمييزا واضحا يخِل بمبدأ المساواة أمام القانون، منتقدة في الوقت ذاته اختفاء الامتيازات النسبي.
وبحسب موقع ميديا بارت، تبلغ نفقات الدولة لتمويل مكتب نيكولا ساركوزي، ومساحاته المكتبية، ونفقاته المهنية المختلفة 700 ألف يورو، لكن حتى وهو خلف القضبان لقضاء عقوبته، لا يزال يتمتع ببعض المزايا.
يذكر أنه في 25 سبتمبر/أيلول الماضي، حكمت محكمة باريس الجنائية على رئيس الدولة الأسبق بالسجن 5 سنوات بتهمة التمويل الليبي لحملته الانتخابية عام 2007، وأُدين بتهمة التآمر الجنائي، ورغم استئنافه، علّقت المحكمة هذا الحكم.
في ليلة 4 أغسطس/آب عام 1789، صوّتت الجمعية التأسيسية على إلغاء الامتيازات، التي كان من المفترض أن تُمثّل بداية الانتقال إلى مجتمع مُتحرر من تراتبية النظام القديم.
وبعد مرور ما يقرب من 250 عاما، يرى مراقبون أن هناك أمورا أخرى باقية يجب إلغاؤها لينعم المواطنون الفرنسيون بالمساواة الحقيقية في الحقوق.
فعلى الرغم من الحكم بالسجن على نيكولا ساركوزي، فإن ظروفه داخل زنزانته والتغطية الإعلامية الهائلة لقضيته، جعلت المجتمع الفرنسي يثير جدل التمييز بين المستفيدين من الامتيازات والمحرومين منها.
وفي النصين التشريعيين اللذين يجب الإشارة إليهما، وهما قانون 3 أبريل/نيسان 1955 ومرسوم 4 أكتوبر/تشرين الأول 2016، لم يُنص على أن الإدانة تمنع رئيس دولة سابق من الاستفادة من مزاياه المختلفة، إلا إذا تخلى عنها بنفسه.
وخلال فترة سجنه، سيستمر ساركوزي في تلقي معاشه التقاعدي كرئيس دولة سابق، والذي يبلغ 65 ألف يورو سنويا، أي ما يعادل حوالي 5 آلاف و416 يوروا شهريا، بحسب ما ذكره موقع "الحياة العامة" الفرنسي.
أما بالنسبة للمزايا المادية الممنوحة لرؤساء الجمهورية السابقين، والمحددة بموجب مرسوم عام 2016، فيبدو الأمر أكثر تعقيدا. فبموجب القانون، سيظل ساركوزي يحصل على هذه المزايا، وهي شقة رسمية مفروشة ومجهزة تتكفل الدولة بإيجارها، وسيارة مع سائق.
وبالتالي، سيصبح السجن عائقا ماديا وليس قانونيا أمام الرئيس الأسبق للتمتع بهذه المزايا بفعالية، ما يعني أن الحكم عليه قد يشكل اختبارا حقيقيا للدولة على الموازنة بين الرمزية والعدالة.
وسيبقى السؤال عالقا: هل يفتح سجن ساركوزي الباب أمام إصلاح قانوني يحد من الامتيازات غير المعلنة، أم ستستمر السلطة في حماية أبنائها، حتى في لحظات الاتهام والسقوط؟!