أن تكون إنسانا .. أن تكون متعلما
تاريخ النشر: 29th, August 2024 GMT
يخرج من بطن أمه لا يجيد إلا البكاء، لا يعرف إلا الغريزة الفطرية للبقاء وهي أن يكون في حضن أمه، ينمو قليلا فيتعلم أن هنالك طعاما آخر غير حليب الأم، يتعلم أن يجلس، أن يحبو بيديه ورجليه، أن يقف على قدميه ويمشي بهما، وكل مرحلة من هذه المراحل ينمو فيها جسده وهو يكتسب مهارة جديدة بناء على النمو والتدريب، بعدها يبدأ دماغه في التفوق على النمو الجسدي، اكتسابه لأسماء الأشخاص والأشياء من حوله، يبدأ في استخدام أسماء الأشياء في حديثه ولغته.
هذه المرحلة من عمر الإنسان، نجد أنها تلتقي مع المعرفة والقدرة على تعلم الأشياء والأسماء التي فضل الله بها آدم عليه السلام على ملائكته في قصة خلق آدم عليه السلام واستخلافه وذريته من بعده على هذه الأرض.
القدرة على التعلم عند الإنسان هي المسألة المركزية التي فضله الله بها على بقية خلقه، حتى على الملائكة المكرمين، الذين خلقهم الله وأعطاهم العلم المكتمل الذي يحتاجونه، ولا مزيد من الاكتساب المعرفي والعلمي، فهم لا ينمون فكريا ولا جسديا، ولذلك عندما طلب منهم الله أن ينبؤوه بأسماء الأشياء عجزوا عن ذلك «قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» فما يخرج عن علمهم الذي وهبهم الله إياه لا دراية لهم به، أما الإنسان فإنه يكتسب المعرفة ويراكمها، ويبتكر الأشياء مسمياتها ويفتق المعاني ويربطها ببعضها، ويضيف عليها، ويمزج بين المعارف ويدمجها في مخيلته ويبني عالما متخيلا قبل أن يقوم بتنفيذه على الواقع، فهو كائن متعلم معرفته تنمو وقدرته هائلة على ابتكار الأشياء، فلذلك استحق مسألة الاستخلاف في الأرض وتعميرها.
وقد جاء أمر الله لملائكته بأن تسجد لآدم بعد أن بين له مزيته عليهم في مسألة اكتساب العلم، وهذا يدل دلالة عميقة على أهمية العلم والتعلم، وعلى الرغم من أن هذه العلوم جميعها هي هبة من الله للإنسان إلا أنه جعله يسعى لاكتسابها وأن يبذل جهده وعقله وماله لكي يحصل عليها، بعد أن يجرب ويخطئ حتى يصيب، وقد قال الله تعالى في سورة العلق: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ».
ولو أتينا إلى ما يجب أن يتعلمه الأطفال في مقتبل عمرهم لوجدنا أن الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام قال: «علموا أولادكم القرآن ، فإنه أول ما ينبغي أن يتعلم من علم الله هو» فالقرآن الكريم هو مفتاح العلوم الدينية، وهو نصها المقدس، وهو التشريع الذي تنبني عليه المعتقدات والأحكام، وما يتم تعليمه في الصغر وفي بداية التكوين المعرفي والعلمي هو الذي سيكون مستقبلا بمثابة النموذج الذي يقاس عليه، والمصفاة التي تغربل الأفكار والعلوم، فلذلك لزم أن يكون القرآن وعلومه المعيار الذي يقاس عليه ما بعده.
ومن التوفيق الإلهي أن جعل قصار السور التي هي في الجزء الثلاثين والتي عادة ما يبتدأ بتعليمها بعد الفاتحة أن جعلها سورا مكية، ما عدا سور جعلها مدنية وهي «المطففين والبينة والنصر والفلق والناس» ومعنى ذلك أن السور المكية تدور آياتها حول الإيمان بالله وإقامة الدليل على قدرة الله تعالى في خلقه وفي كونه وعلى البعث والحساب، والتي تشكل الجانب العقدي هي التي ينبغي أن يتعلم من القرآن.
ونحن على أبواب عام دراسي جديد فإنه على الطلبة أن يستشعروا عظيم الأهمية لمسألة طلب العلم، فطالب العلم له شأن عظيم عند الله وخلقه، وهو طريق يوصل صاحبه إلى الجنة، فقد قال الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام: «منْ سَلَكَ طَريقًا يَبْتَغِي فِيهِ علْمًا سهَّل اللَّه لَه طَريقًا إِلَى الجنةِ، وَإنَّ الملائِكَةَ لَتَضَعُ أجْنِحَتَهَا لِطالب الْعِلْمِ رِضًا بِما يَصْنَعُ، وَإنَّ الْعالِم لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ منْ في السَّمَواتِ ومنْ فِي الأرْضِ حتَّى الحِيتانُ في الماءِ، وفَضْلُ الْعَالِم عَلَى الْعابِدِ كَفَضْلِ الْقَمر عَلى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وإنَّ الْعُلَماءَ وَرَثَةُ الأنْبِياءِ وإنَّ الأنْبِياءَ لَمْ يُورِّثُوا دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا وإنَّما ورَّثُوا الْعِلْمَ، فَمنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحظٍّ وَافِرٍ» فلك أن تتخيل أن الملائكة تحفك بأجنحتها وأن الحيتان في أعماق البحار تستغفر لك، فهذه من المبشرات الغيبية التي أخبرنا به الرسول صلى الله عليه وسلم.
ويجب على طالب العلم أن يتحلى بالتواضع وحسن الخلق، فالمتكبر يدعي المعرفة ويمنعه كبره من السعي للحصول على الحقيقة، وأن كل معرفة مكتسبة هي نفي لجهل سابق، فأحرى بالإنسان بعد أن ينفي عنه الجهل أن يكون متواضعا لأستاذه ومتواضعا أمام الله، الذي من عليه بأن منحه هذه المعرفة، ولذلك كان العلماء أهم أكثر تواضعا وخشية وخوفا من الله لتوسع مداركهم ومعرفتهم بقدر الله وقدرته، فلذلك قدروا الله حق قدره، فأصبحوا أكثر خلق الله خشية له، قال الله تعالى في كتابه العزيز: «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ».
وكذلك على طالب العلم أن يكون شجاعا وجريئا في البحث عن المعرفة، وأن يبعد عنه صفة الخجل، فقد قال الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام: «لا ينال العلم خجول ولا متكبر».
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ال ع ل م أن یکون
إقرأ أيضاً:
علي جمعة يوضح الفرق بين القلب والفؤاد..فتعرف عليه
قال الدكتور علي جمعة مفتي الجمهورية السابق وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف عبر صفحته الرسمية على فيس بوك إن يقول سبحانه وتعالى يقول: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110].
الفرق بين القلب والفؤاد
إذًا فهناك ما يُسمَّى بالقلب، وهناك ما يُسمَّى بالفؤاد. وكلمة «القلب» في اللغة العربية سُمِّيَت بذلك؛ لأن القلب له أحوال، فهو يتقلَّب في هذه الأحوال. وقال الشاعر:
وما سُمِّيَ القلبُ إلَّا أنَّه يتقلَّبُ * وما أوَّلُ ناسٍ إلَّا أوَّلُ النَّاسِ
فأوَّل مَن نَسِيَ سيدُنا آدمُ عليه السلام.
وسُمِّيَ القلبُ لأنَّه يتقلَّب في الأحوال، ولذلك يقول سيدُنا ﷺ: «إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ». إذًا تقلُّبُ القلب بين الأحوال هو من أمر الله؛ فالله سبحانه وتعالى هو الذي يُثبِّت القلوبَ على حالٍ، أو يُقَلِّبُها بين حالٍ وحالٍ؛ فكلُّ ذلك بيد الله سبحانه وتعالى، يفعل ما يشاء. فإذا كان القلب في حالة الثبات على الخير، فإنَّه يُسمَّى «فؤادًا».
إذًا القلب يتقلَّب بين الأحوال؛ بين الخير والشر، وبين العلو والنقصان، فالإيمان يزيد وينقص. فإذا كان في حالة العلو، وكان في حالة الوضوح، وكان في حالة الثبات، كان «فؤادًا». لكنَّ الإنسان لا ينبغي له أن يأمَنَ مكرَ الله، بل لا بدَّ أن يُراقِبَ نفسَه، وأن يكون دائمَ المراقبة حتى لا يَذِلَّ، ولا يُخطِئ، ولا يتدهور حالُه مع الله سبحانه وتعالى من حيث لا يشعر؛ لأنَّه قد يُستدرَج وتتدهور حالُه دون أن يشعر. قال تعالى في شأن هؤلاء: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 182، 183].
إذًا فالإنسان العاقل يكون خصيمَ نفسِه، متدبِّرًا في حاله، يخشى أن يُستدرَج. فإن ترك الإنسانُ نفسَه للمعاصي استُدرِج، وتدهوَر؛ فتراه يرتكب المعاصي وهو يُنكِرها أوَّلًا، ثم يألفها ثانيًا فلا يُنكِرها، ويفعل المعصية دون نكير، لا يجد في قلبه حرجًا من فعلها، ثم بعد ذلك يتدهور حالُه مع الله سبحانه وتعالى فيستحلُّها.
في البداية يُبرِّرها لنفسه بقوله: «كلُّ الناس تفعل ذلك»، ثم يألفها حتى لا يرى فيها بأسًا، ثم يستحسنها، ثم يُخطِّئ مَن يُخالِفُه فيها؛ فالمعصية التي يفعلها هي في نظره «الصواب»، وغيرُها هو الخطأ. إذًا هذا استدراج.
في الأولى فعلها وهو مُتوجِّسٌ خيفةً،
وفي الثانية فعلها من غير توجُّس،
وفي الثالثة فعلها مُستَحِلًّا لها،
وفي الرابعة فعلها مُستَحسِنًا لها، ومُخطِّئًا مَن خالفها.
فهل لا يزال قلبُ ذلك الإنسان على حالةِ الفؤاد، أم أنَّه قد خرج من حالة الفؤاد إلى حالةٍ أخرى؟ يبدو أنَّه قد قُلِب.
الفؤاد
إذًا حالةُ الفؤاد قد تكون هي الحالةَ العُليا الصافية، ثم ينقلب على عَقِبَيْه، فإذا انقلب القلبُ لم يَعُدْ يُؤدِّي وظيفتَه، فيدخُل عليه الكِبْر، وهذا الكِبْر يمنعه من أداء وظيفته، فلا تستطيع أن تضع فيه شيئًا، ولا أن تستفيد منه فيما صُنِع له. فيصف الله حالَ هؤلاء بقوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ}؛ فما معنى هذا؟
أوَّلًا: أنَّهم كانوا على حالة الفؤاد، وهي حالةٌ خيِّرة.
ثانيًا: أنَّ الله سبحانه وتعالى قد استدرجهم، فأخرجَ الفؤادَ من حالته.
ثالثًا: أنَّه قَلَبَه؛ فنتج عن هذا القلبِ تعطيلُ الوظيفة؛ فالفؤاد الذي كان محلًّا لنظر الله، ولتَنَزُّلِ الرحمات من عند الله، أُغلِق وقُلِب، فذهبت وظيفتُه: وظيفةُ التلقِّي، ووظيفةُ الشفافية، ووظيفةُ البصيرة، ووظيفةُ الرؤية السليمة الربانية الإلهية التي يرضى عنها ربُّنا سبحانه وتعالى.