على وقع التصعيد في لبنان.. نازحون في الشوارع والحدائق العامة
تاريخ النشر: 2nd, October 2024 GMT
يشهد لبنان أزمة سكنية غير مسبوقة منذ بدء التصعيد العسكري بين إسرائيل وحزب الله الأسبوع الماضي، وأسفر عن نزوح حوالي مليون شخص من المناطق المعرضة للقصف، وفق تقديرات رسمية.
وفي حين تمكن بعض النازحين من العثور على مأوى لدى أقاربهم أو في منازل تمكنوا من استئجارها، وجد عدد كبير منهم أنفسهم مضطرين للنوم في العراء، سواء في الشوارع أو الحدائق العامة، أو اللجوء إلى المساجد كمأوى مؤقت.
ويأتي ذلك نتيجة النقص الحاد في الأماكن المتاحة بمراكز الإيواء، إضافة إلى العجز عن تحمل الارتفاع الجنوني في تكاليف الإيجار، مما يفاقم حدة الأزمة الإنسانية التي تواجه البلاد.
هند واحدة من الذين اضطروا إلى النزوح بعد الهجوم العنيف الذي استهدف منطقة حارة حريك في الضاحية الجنوبية لبيروت، الذي أسفر عن اغتيال أمين عام حزب الله حسن نصر الله، حيث لجأت بداية إلى منزل صديقتها في عين الرمانة بشكل مؤقت، على أمل العثور على شقة للإيجار بعيداً عن معقل حزب الله وبسعر مقبول.
اصطدمت هند بواقع عقاري مرير، حيث ارتفعت أسعار الإيجارات إلى مستويات خيالية، وتقول لموقع "الحرة"، "شقة متواضعة من غرفتين وفي حالة سيئة كانت تؤجر بحوالي 1500 دولار شهرياً، مع اشتراط المالك دفع الإيجار مقدماً لستة أشهر أو سنة، إلى جانب عمولة المكتب العقاري، مما جعل الأمر مستحيلا بالنسبة لنا كعائلة مدخولها الشهري لا يتجاوز الألف دولار".
بعد استنفاد جميع الخيارات، وجدت هند نفسها مضطرة لاستئجار غرفة في فندق مهجور منذ عقود، يفتقر إلى الماء والكهرباء، مقابل 700 دولار شهرياً، وتقول "ما هذا الجشع؟ يكفي ما نعيشه من فقر ونزوح، لماذا يُستغل الناس في ظل الأزمات والحروب؟"
أثار الارتفاع الكبير في أسعار الإيجارات استياء اللبنانيين، لاسيما أنها تأتي في ظل ظروف أمنية صعبة واقتصادية خانقة يمر بها بلدهم.
ومع تصاعد الأزمات المتلاحقة التي يشهدها لبنان، تجد العديد من العائلات نفسها في مواجهة قاسية مع الظروف المعيشية والأمنية المتدهورة.
منال، وهي متضررة من الوضع الراهن، تروي تجربتها المؤلمة "هربت وعائلتي من الضاحية الجنوبية دون أن نأخذ معنا حتى أمتعتنا. ما يحدث هو جريمة بحقنا، سواء من الذين يورطون لبنان في الحرب أو من يستغلون هذا الوضع لتحقيق أرباح طائلة".
لم تكن هذه المرة الأولى التي تضطر فيها منال للنزوح. فقد غادرت بلدتها الحدودية عيترون بعد تعرضها للقصف مع اندلاع المعارك بين حزب الله وإسرائيل في الثامن من أكتوبر 2023.
انتقلت منال إلى الضاحية الجنوبية لبيروت، إلا أنها وجدت نفسها مجدداً مضطرة وعائلتها لمغادرة المنطقة، هذه المرة إلى جبيل، حيث استضافهم زميل زوجها.
عجز زوج منال عن استئجار منزل في ظل الارتفاع الهائل بأسعار الإيجارات، وتقول لموقع "الحرة": "وصل بدل إيجار شقة مفروشة من أربع غرف إلى 2000 دولار شهرياً، مع إجبار المستأجرين على دفع مبالغ كبيرة مقدماً لتغطية أشهر عدة".
وتصف منال حالتها بالقول "نحن نعيش مأساة تلو الأخرى، ننتقل من بيت إلى بيت كأننا في رحلة هروب لا تنتهي. كل ما نتمناه الآن أن ينتهي التصعيد العسكري، فثمن الحروب لا يدفعه سوى الأبرياء".
بدوره، يؤكد رئيس اتحاد روابط مخاتير عكار ومختار بلدة ببنين، زاهر الكسار، أن الأوضاع في لبنان باتت صعبة للغاية، خصوصاً بعد التصعيد العسكري الأخير الذي دفع بأعداد كبيرة من النازحين إلى ببنين.
ويوضح في حديث لموقع "الحرة" أنه "تم افتتاح مدرستين ومعهد في البلدة لاستيعاب النازحين، كما فتح العديد من الأهالي منازلهم لاستضافة معارفهم"، ومع ذلك، يقول الكسار إن نسبة من أجّروا منازلهم للنازحين تبقى ضئيلة، بينما ظهرت بعض الحالات "الشاذة: وفق تعبيره، التي استغلت الأزمة عبر عرض منازلها للإيجار بأسعار مبالغ فيها.
ويضيف أنه "استقبل شخصياً عدداً كبيراً من النازحين في منزله"، مستدركاً "لكنه بحاجة إلى خدمات أساسية مثل الأدوية التي لا تتوفر بشكل كافٍ عبر القنوات الرسمية".
ويشرح الكسار أن "العديد من النازحين يعيشون في منازل فارغة من الأثاث، ويحتاجون بشكل ملح إلى الفرش، البطانيات، والطعام اليومي"، معرباً عن قلقه من أن الوضع الاقتصادي المأساوي في البلدة قد لا يسمح للأهالي بالاستمرار في تقديم الدعم لفترة طويلة".
في ختام حديثه يتساءل "أهالي ببنين يقومون بواجبهم، لكن إلى متى سيتمكنون من تأمين كل هذه الاحتياجات؟".
تأثر سوق الإيجارات في لبنان بشكل كبير جراء أزمة النزوح الأخيرة، وفقاً للباحث في المعهد اللبناني لدراسات السوق، خالد أبو شقرا.
ويوضح لـ"الحرة" أن "زيادة الطلب وتراجع العرض على الشقق الناتج عن توقف حركة البناء منذ عام 2019 بسبب الأزمة الاقتصادية وتدهور القطاع العقاري، أديّا إلى ارتفاع الإيجارات وتراجع الخيارات المتاحة".
ويشير أبو شقرا إلى أن "بعض أصحاب العقارات يرفعون الأسعار بسبب مخاوف من المشاكل الأمنية أو عدم القدرة على صيانة عقاراتهم بعد تأجيرها".
ويضيف أن بعض العقارات الكبيرة مثل الفيلات تُؤجر لأكثر من عائلة، مما يزيد من تكاليف صيانتها، كما يؤثر موقع الشقة كذلك في سعر الإيجار.
وبينما يواجه الكثير من النازحين صعوبات في تحمل تكاليف الإيجار، يؤكد أبو شقرا أن "قلة منهم قصدوا مراكز إيواء، بينما يعتمد العديد منهم على مواردهم الشخصية، التي قد لا تكفيهم سوى لشهر أو شهرين، مما يضطر البعض إلى بيع ممتلكاتهم لتأمين الإيجار".
ومع استمرار التصعيد العسكري، تبقى قدرة النازحين المستأجِرين على تسديد الإيجارات غير مضمونة.
وفي ظل الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، أفاد البنك الدولي بأن 70% من اللبنانيين يعيشون تحت خط الفقر متعدد الأبعاد. يقول أبو شقرا إن "الفقر يتركز بشكل خاص في المناطق التي تستضيف النازحين، مثل طرابلس وعكار، مع العلم أن العديد من النازحين يعتمدون على مصادر دخل محلية، مثل الزراعة أو التجارة، التي فقدوها نتيجة النزوح".
كذلك تؤكد المستشارة القانونية للجنة الأهلية للمستأجرين، المحامية مايا جعارة، أن الطلب على الشقق المفروشة شهد زيادة كبيرة مؤخراً، لاسيما في بيروت وجبل لبنان والشمال، نتيجة الأحداث الأخيرة والنزوح غير المسبوق.
وتبيّن جعارة لموقع "الحرة" أن السوق العقاري يعاني من تضخم ملحوظ، يؤثر بشكل خاص على سوق الإيجارات، في حين يظل التأثير أقل على أسعار العقارات، مشيرة إلى أن "الإيجارات تتجاوز 50% من دخل الأسر، وهو ما يتعارض مع المعايير الدولية التي تحدد ألا تتجاوز تكلفة السكن ثلث الدخل".
كما أن هناك تضخما صوريا وفق ما تقوله جعارة "قد يكون سببه عدم الرغبة في التأجير بسبب المخاطر وخوفاً من استهداف المستأجِر من قبل إسرائيل، فيأتي رفض التأجير عن طريق طلب بدلات مرتفعة".
عوامل عدة أسهمت في هذا الوضع، أبرزها كما توضح المحامية اللبنانية "توقف القروض السكنية بسبب الأزمة المالية والمصرفية، بالإضافة إلى احتجاز أموال المودعين".
ورغم انخفاض أسعار العقارات منذ بداية الأزمة المالية في 17 أكتوبر 2019، إلا أن الأسعار عادت تدريجياً إلى الارتفاع بوجود تفاوت كبير بين المناطق وفقاً لقدرات سكانها، تتابع جعارة.
وتشير إلى أن "التضخم في سوق الإيجارات بلغ نسباً غير مقبولة، إذ اتجه الشباب اللبناني إلى الاستئجار في ظل غياب القروض السكنية، بينما تسببت الظروف الناتجة عن النزوح السوري ونزوح سكان الجنوب بسبب أحداث غزة في تفاقم الأزمة".
وبحسب جعارة، أدى "طمع بعض الملاك والمطورين العقاريين في رفع أسعار الإيجارات عبر إقناع الملاك بعرض ممتلكاتهم للإيجار".
في ظل ارتفاع أسعار الإيجارات من قبل بعض تجار الأزمات، برز عدد كبير من اللبنانيين الذين قدموا منازلهم مجاناً للنازحين، ومنهم أهالي بلدة برجا، "إذ استقبلت الغالبية العظمى من سكان البلدة النازحين وفتحت لهم منازلها دون أي طلب لبدل إيجار" بحسب ما يقول الناشط جمال ترو لـ"الحرة".
وهو شخصياً استقبل عائلتين لم يكن يعرفهما من قبل في منزله، وانتقل للعيش مع أصدقائه في غرفة صغيرة.
ويضيف ترو أنه "في كل أزمة هناك من يستغل الوضع، لكن الغالبية الساحقة من الناس يتمتعون بقلوب رحيمة"، على حد تعبيره، مردفاً "المسألة الآن تتعلق بالإنسانية، وهذه اللحظة تمثل تضامناً اجتماعياً بين جميع اللبنانيين".
ويقول "أخلاقنا وتربيتنا ومبادئنا لا تسمح لنا بأن نتعامل بشكل غير إنساني".
ويعتقد ترو أن "السياسيين هم من مارسوا سياسة فرق تسد لتقسيم المجتمع، لأنهم يدركون أن توحد اللبنانيين يهدد مواقعهم"، معتبراً أن "التضامن بين اللبنانيين اليوم رسالة يجب أن تُبنى عليها أسس العقد الاجتماعي الجديد وهي لبنان الموحد، بعيداً عن الصراعات الطائفية والعقائدية والمناطقية، فهذا هو الطريق الوحيد لحل أزماتنا وبناء دولة تحظى باحترام المجتمع الدولي".
في ذات السياق، واصل المحامي رفيق غريزي تواصله مع أصدقائه الذين تعرضوا للقصف حين بدأ التصعيد العسكري على جنوب لبنان، حيث نصحهم بالمغادرة حفاظاً على سلامتهم، إلا أن العديد منهم كانوا مترددين بداية في اتخاذ هذه الخطوة، واصفاً الموقف بأنه "صعب"،
يتابع "ليس من السهل على الإنسان أن يتقبّل مغادرة منزله والانتقال للعيش في منازل غرباء أو مراكز إيواء".
عمل غريزي على التنسيق مع ناشطين في بلدات مختلفة لتأمين منازل للنازحين، بالإضافة إلى توفير الفرش والبطانيات لتلبية احتياجاتهم الأساسية، ويقول لموقع "الحرة" إن "الظروف الإنسانية تستدعي وقوف الجميع إلى جانب النازحين، بغض النظر عن الانتماءات السياسية".
"الدعم الحكومي للنازحين كان ضئيلاً حتى قبل بدء التصعيد العسكري الكبير بين حزب الله وإسرائيل"، وفق ما يقوله أبو شقرا "حيث لم تتجاوز مساهمة الدولة 10% من التكلفة الفعلية لرعايتهم"،
ويضيف أن "كل 100,000 نازح يكلفون ما بين 73 و100 مليون دولار، في حين لم تتجاوز المساعدات الدولية والمحلية 34% من هذا المبلغ"، مما يعني أن النازحين يعتمدون بشكل كبير على أنفسهم.
ويقول أبو شقرا إن "المجتمعات المضيفة تواجه صعوبات في تلبية احتياجات النازحين، إذ تعاني البلديات والجمعيات الأهلية من أزمات مالية، ومع فتح مراكز الإيواء من المؤكد أن تكاليف المياه والكهرباء سترتفع".
تعرب المحامية مايا جعارة عن قلقها من صعوبة عودة الأسعار إلى مستوياتها الطبيعية، موضحةً أن "لبنان يعاني من قاعدة اقتصادية تجعل من الصعب تخفيض الأسعار بشكل كبير بعد ارتفاعها"،
وتضيف أن "الاستجابة للعرض والطلب يجب أن تترافق مع وضع ضوابط تحمي المواطنين الذين يعيشون تحت خط الفقر".
ووجهت جعارة انتقادات حادة للمسؤولين في السلطة اللبنانية، مشيرةً إلى غياب سياسة إسكانية واضحة، حيث أن مجلس النواب لم يقم بأبسط واجباته.
وترى أن "حق السكن هو حق أساسي وإنساني، ولا ينبغي تركه فقط للعرض والطلب، بل يجب وضع ضوابط لحماية المواطنين".
"كت يجب أن تتدخل السلطة السياسية في الأزمات عبر قوانين وإجراءات استثنائية لحماية مصالح كل من الملاك والمستأجرين"، تضيف جعارة، لافتة إلى إمكانية تبني عقود إيجار موسمية لمدة ثلاثة أشهر كحل مؤقت يضمن حقوق المالكين في استرجاع ممتلكاتهم دون تأخير بعد انتهاء فترة التأجير.
من جهته، يقول أبو شقرا إن السلطة السياسية "لا تتدخل في تحديد أسعار الإيجارات"، فالعقد "شريعة المتعاقدين" في ظل نظام اقتصادي حر يقوم على العرض والطلب. ورغم ذلك، يدعو إلى ضرورة التضامن الإنساني بين اللبنانيين وعدم استغلال الأزمة لتحقيق مكاسب مادية.
من جانبه يبعث الكسار برسالة إلى أهالي البلدات التي استقبلت نازحين، يدعوهم فيها إلى "ضرورة التعامل مع ضيوفهم بأخلاق عالية".
كما يحث النازحين على احترام سكان البلدات التي استضافتهم، وتجنب رفع الشعارات الدينية أو حمل السلاح.
المصدر: الحرة
كلمات دلالية: التصعید العسکری أسعار الإیجارات من النازحین العدید من حزب الله فی لبنان أبو شقرا
إقرأ أيضاً:
الريشة السوداء لمحمد فتح الله.. عن فيليس ويتلي القصيدة التي تمشي
هي رواية عن أفريقيا يكتبها عربي من شمالها، هو الروائي والشاعر الليبي محمد فتح الله، وهي قصة شاعرة أفريقية من زمن العبودية. رواية بكر، قصَد فيها كاتبها تأمل الوجود وظلمه وخسارات المبدع فيه، والكتابة حين تكون لحظة مقاومة يتنازع فيها الشاعر مع السارد أو يأتلفان لإبداع رواية تليق بالشاعرة "فيليس ويتلي".
"فيليس الريشة السوداء" حكاية الشاعرة الأميركية من أصل أفريقي فيليس ويتلي، وإن بدت القصة فيها معروفة وشائعة ولطالما تغري بالتناول، إلا أن فتح الله يعيد ترتيب الحكاية بما يجعلها قصيدة طويلة وتأملية وفلسفية.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2وليد سيف يختتم رباعيته الأندلسية برواية “غرناطة آخر الأيام”list 2 of 2الوجع والأمل في قصص "الزِّرُّ والعُرْوَة" لراشد عيسىend of listالبطولة فيها هي خسارات الكائن البشري، والفقد والحزن والذاكرة والشعر أيضًا حينما تكتبه شاعرة سوداء فتملأ الكون بياضًا. والفضاء فيها غامبيا، التي تشع بياضًا وألفة كلما ذُكرت الشاعرة السوداء، وأميركا سوق يُباع فيها من كانوا أحرارًا في بلادهم.
كتبت فيليس في ليل عبوديتها ببوسطن عن "الآلهة والشياطين، عن جورج واشنطن زعيم أميركا، كما عن يسوع، عن أفريقيا التي وُلِدت فيها دون أن تتذكر ملامحها، وعن أميركا من غير أن تفتح لها ذراعيها يومًا".
هي إذن فيليس التي "كانت أَمَة، ثم شاعرة، ثم زوجة، ثم أمّا، ثم فقيرة منسية".
يرتب فتح الله حكايته كقصيدة، لكنه يبدأ من خاتمتها في فصل أول هو "نهاية قصيدة"، اكتملت، بدأت في شهقة ولادة بغابات غامبيا وانتهت بشهقة الموت في بوسطن في غرفة منسية مهجورة.
وبينهما حكاية الفتاة التي أخذت اسمها الجديد من اسم السفينة التي أقلتها من غامبيا "فيليس"، وأخذت لقبها من عائلة أصبحت خادمة لديها "ويتلي".
ولادة فيليس ولادتان: الأولى في غامبيا التي غادرتها في سفينة العبيد في السابعة من عمرها مأسورة ومرغمة، والثانية في بوسطن. في الأولى أمسكتها يد غليظة وقادتها إلى ملاذها عبدة في أميركا، وفي الثانية ولدت في بوسطن حيث أمسكت هي ريشتها السوداء لتخط بها قصائدها.
تطل غامبيا من شقوق ذاكرة فيليس بغاباتها ونهرها الذي يدلها خريره على بيتها كلما تاهت قدماها في غابات قريتها في الغرب الأفريقي.
إعلانترسم عبر استدعاء الذاكرة بيوت الطين وأقواسها، وضوء النهار، "إذ يتسلل إلى أكواخ الطين والقصب كأنه يريد أن يوقظ أحدًا، يلامس وجوه الجدات، ويمسح برؤوس الأطفال النائمين بلا أحلام".
أما أمها فكانت "قصيدة شفوية لا تكتمل، كأغنية لا يسمح لنا بإنشادها كاملة".
شعر يليق بفيليسعبر صفحات الرواية كلها لا يتحرر فيها فتح الله من الشاعر فيه، وتبدو الرواية قصيدة تأملية طويلة، رواية لا تتشعرن إلا بالقدر الذي أراده روائي حاذق يكتب عن شاعرة، ويريد لسرده أن ينطق لغتها أيضًا.
هكذا بدا اسمها، التي لم تعد تذكره، "ربما يشبه تغريدة طائر، أو قبلة أم على جبين طفل رضيع"، أما أبوها "فكان طويلًا كأن قامته جذع شجرة. كنت أراه يسير في الغابة فينصت له الطين، وتتبعه النسور من أعلى كما يتبع الأنبياء أتباعهم".
غامبيا إذن الجنة الأولى التي انتُزعت منها "ويتلي" أو فقدتها مع كل لحظة مأساوية تعصف بها. يبدع الروائي والشاعر الليبي محمد فتح الله، المولود في بنغازي عام 1981، في لوحاته التأملية التي تتفتق عنها مخيلة شاعر.
يكتب في لوحة أولى عن الفقد، إذ هو أحد التجليات النفسية لويتلي، فهو "ليس انكسارًا، بل انكشافًا، انكشاف الإنسان على هشاشته، على حدود فهمه، على جرحه الوجودي القديم".
وكتب عن الحزن، وعن النسيان باعتباره ليس انتصارًا على الحزن بل تعايشًا معه، فهو كمن يعقد هدنة مع ألم لا سبيل إلى هزيمته، فيصادقه ويمنحه غرفة صغيرة في البيت، يشعل له قنديلا ويقول له: "ابق هادئًا لا توقظ ما مات".
تقول السيرة الذاتية لفيليس ويتلي إن الفتاة الهزيلة ضعيفة البنيان، لدى استقرارها في بوسطن عند عائلة ويتلي، إنه بالقدر الذي عاشت فيه حياة الخادمة والعبدة، بقدر ما منَحها ذلك البيت الأميركي فرصة الإطلال على عالم القراءة والكتابة.
فقد تولى ابنا جون ويتلي، رب العائلة وسيد فيليس، تعليمها القراءة والكتابة، وبذلك انغمست فيليس في اكتشاف الإنجيل وعلم الفلك والجغرافيا والتاريخ والأدب البريطاني، وتأثرت على نحو خاص بالشاعرين الإنجليزيين جون ميلتون وألكسندر بوب، إضافة إلى تأثرها بالكلاسيكيات اليونانية.
كتبت فيليس أولى تجاربها الشعرية عام 1767، وهي في سن الـ14 تقريبًا، ونشرتها "صحيفة نيو بورت ميركوري" (Newport Mercury)، إلا أن مرثية "القس جورج وايتفيلد" -التي نشرت عام 1771- تعدّ العمل الشعري الذي بفضله بدأ تداول اسمها على الصعيد الوطني الأميركي، لا سيما أنها لاقت إعجاب قراء الصحيفة.
وجد هذا الرثاء المؤثر جمهورًا في كل من الولايات المتحدة وإنجلترا، ولأن المرثية نُشرت مصحوبة بالتعريف بالمؤلف على أنها امرأة مستعبدة، ففُتِن عدد من القراء بالشاعرة والقصيدة معًا.
ويرصد فتح الله معاناة سوداء تكتب شعرًا، فهو اختصاص الغالب والقاهر والسيد، أما العبد كما في التراث العربي فـ"لا يجيد إلا الحلب والصر".
وفي واحدة من قصائدها وعلاقة الآخر بها تقول:
"إن كانوا يرونني مرآة
فسأعكس لهم صورهم
لكن بالحبر الذي أختاره".
في البيت الجديد يوغل الروائي فتح الله عبر رواية الساردة العليمة فيليس ويتلي، ويظهر بيتًا ممزقًا، يعيش أفراده في حال اغتراب، وينتهي بموت الأب والأم.
إعلانيبني فتح الله روايته كما لو أنه يكتب ديوان شعر؛ يختار فصول روايته كما لو كانت عناوين قصائد: "نهاية قصيدة، جنة أولى، الطريق إلى البحر، الليل الأخير، غامبيا: أغنية الماء الأخيرة، غامبيا أربعة أشياء قبل النسيان، غامبيا حين ودعتني الأشياء، في البحر، موت عادي جدًا، قرب وبعد، مدينة لا ترى السماء، بيت لا يعرف الضحك، مولي امرأة بلا ظل، الطفل الذي لم يرني، سيد البيت وظله، سيدة لا ترفع صوتها، في بيت آل ويتلي، في حضرة الحرف الأول، الطفل الذي يتهجى صمته"، ويختم فصول الرواية بالقصيدة التي ماتت معه.
الكتابة فعل مقاومةعلى سرير موتها تلخص فيليس فلسفتها عن الشعر وجدوى الكتابة التي رفعتها لدى سيدها حينا ما لبثت أن تجاهلها ورماها إلى أقدارها، سوداء يقتلها الجوع والحياة الرديئة.
تقول: "فهمت أن الكتابة لم تكن خلاصًا بل مقاومة، وأن الشعر لم يكن موهبة، بل جسرًا مشى فوقه صوتي ليصل إلى ذاته، وأن الرب الذي كنت أكتب عنه كثيرًا، لم يكن يسكن الكنيسة، بل قلبي حين لا يقوى على شيء إلا الحرف. أنا فيليس بنت غامبيا التي لم أعد إليها، ابنة العبيد الذين لم يُدوَّن لهم نسل".
ماتت ويتلي عن عمر ناهز 31 عاما، وكانت أول امرأة إفريقية تنشر ديوانًا شعريًا في العالم الناطق بالإنجليزية. ماتت، ولكن اسمها بقي كجملة ناقصة، رفض التاريخ أن يتمها فأتمها الشعر.
عن عوالم روايته البكر وينابيع ثقافته، التقت الجزيرة نت الروائي والشاعر محمد فتح الله، وكان هذا الحوار:
ربما أغراني فيها ذلك التناقض العجيب بين وهن الجسد وقوة الكلمة. فيليس ويتلي كانت كأنها قصيدة تمشي على رماد التاريخ، أنثى سمراء تُقتاد من ضفاف أفريقيا مكبّلة، ثم تُكتب في دفاتر البيض كأنها خطأ في دفتر العبودية. كنتُ أرى في حياتها سؤالًا يتجاوز حدود اللون والرقّ: كيف يمكن للإنسان أن يصير شاعرًا وهو لا يزال يُباع ويُشترى؟
لقد أغرتني سيرتها لأنها لم تكن بطلة بمعنى البطولة التقليدية، بل كانت كائنًا يقاوم بصمته، بعقله، بسموه الداخلي، بقدرته على جعل الألم جمالًا. أردتُ أن أكتب عنها لا باعتبارها امرأة من الماضي، بل باعتبارها مرآة للحاضر، مرآة لكل روحٍ ما زالت تبحث عن معنى لحريتها، عن خلاصٍ داخل اللغة ذاتها.
عشت معها عبوديتها لأنني أدرك معنى أن يسلب من المرء إرادته وحريته واسمه، فقد عشت هذا السلب في سجون القذافي في أبو سليم سيئ الصيت تحديدا في طرابلس، وأنا الآن عاكف على عمل يحكي هذه التجربة المريرة التي كانت فاصلة في حياتي وتكويني النفسي والأدبي واللغوي.
اللغة كائن حي ثمة لغة شفيفة تلامس تخوم الشعر وكأننا أمام شاعر يكتب رواية، كيف تفسر هذا التداخل؟أنا لا أؤمن بالحدود بين الأجناس الأدبية، بل أؤمن بأن اللغة نفسها هي الكائن الحيّ الذي يتشكل وفق انفعال الكاتب. حين أكتب، لا أسأل نفسي: هل أنا أكتب رواية أم قصيدة؟ بل أسأل: هل أنا أقول الحقيقة كما ينبغي أن تُقال؟
ربما تسلّل الشعر إلى السرد لأن القصة في جوهرها قصيدة طويلة، لأن الإنسان لا يحكي إلا ليُخفّف من وطأة صمته، ولا يصف إلا ليُعيد ترتيب العالم كما يراه قلبه. اللغة عندي ليست وسيلة نقل، بل وسيلة خلاص. لذلك جاءت الرواية محمّلة بنبرةٍ شعرية، ليس تزيينًا للأسلوب فحسب، ولكن لأن صوت فيليس ويتلي نفسه كان شعرًا منذ البداية، حتى حين كانت تصمت.
الشيء بالشيء يذكر، نعم أنا أنظم الشعر ولي ديوان "ناشئة الشوق" تحت الطبع في دار الوليد بطرابلس ليبيا، بعض قصائده كتبتها في الظلام في السجن وكانت أصدق وأعمق عاطفة لأنها تفتقت من تربة المعاناة ومشقة الكتمان.
تكويني الأدبي تشكّل عند تقاطع الشعر بالفكر، والوجدان بالتاريخ، كل ذلك كان تحت مظلة الصمت والتأمل، التأمل في الناس حولي في كلامهم وشعورهم، في نفسي أنا. كنتُ دائمًا أبحث عن معنى الإنسان في منطقة الظل، حيث لا يضيء المنطق ولا تكفي اللغة. الفلسفة بالنسبة إليّ ليست تنظيرًا، وإنما تجربة روحية.
ولا أغفل نشأتي الأولى في الكتاتيب وحفظي للقرآن ذلك المعجز اللغوي الذي جعلني أتذوق الكلمة وأتأمل الحرف فأندهش للمعنى.
ربما تأثرت بمدارس عديدة دون أن أكون أسيرًا لأيٍّ منها؛ استهوتني الأسئلة التي طرحها الوجوديون حول الحرية والقدر، كما سحرتني النظرة الصوفية إلى العالم، تلك التي ترى في المعاناة طريقًا إلى الصفاء.
في الريشة السوداء حاولت أن أجعل من سيرة فيليس مرآةً للروح البشرية وهي تواجه سؤالها الأبدي: من نكون حين تُسلب منا أسماؤنا؟ كل ما كتبته في الرواية هو محاولة للاقتراب من تلك الإجابة التي لا تُقال بالكلمات، بل تُحَسّ بالنور والظلمة معًا.
الروايات الأولى تحمل إرهاصات البداية ووهمها وشهوتها، هل خامرك هذا الإحساس أثناء الكتابة؟نعم، وربما لهذا السبب بدت الرواية بالنسبة إليّ أشبه باعتراف طويل. كنتُ أكتب وأنا أشعر أنني أضع قلبي للمرة الأولى على الورق، دون أقنعة، دون هندسة مسبقة. الرواية الأولى لا تُكتب بالحدس، بالقلق، بالرغبة في أن تقول كل ما لم يُقل بعد.
شعرتُ أحيانًا بأنني أركض وراء وهْم الكمال، وأحيانًا أخرى بأن الرواية تكتبني أنا. كانت تجربتي مع الريشة السوداء أشبه بولادة مؤلمة، فيها الفوضى والعشق والصدق جميعًا. وربما لو لم تكن الأولى لما تجرّأت على أن أكون بهذه العري الروحي أمام القارئ.
نعم، فيها وهم البداية، لكن أيضًا فيها لذّتها الطفولية، تلك التي لا تُستعاد إلا مرة واحدة.
كتب الكثير عن أفريقيا والاستعمار والعبودية، هل برأيك ما زالت ذيول الاستعمار والإمبريالية والعنصرية موجودة على الصعيد الإبداعي في الغرب؟بلا شك، ما زالت موجودة ولكنها ارتدت أقنعة جديدة. الاستعمار استغنى عن الجيوش التي تعبر البحار، وأصبح سردياتٍ تعبر العقول. الغرب ما زال يكتب عن أفريقيا كما لو كانت أرضًا رمزية لا بشر فيها، يختزلها في الغرابة والحرارة والغابة، ولا يرى فيها عمق الروح.
الإمبريالية الأدبية أخطر من السياسية، لأنها تُعيد إنتاج الهيمنة عبر اللغة، عبر الصورة، عبر تصدير مفهوم "الإنسانية" من منظور واحد، ولكن في المقابل، هناك أصوات جديدة، من أفريقيا ومن الشتات، بدأت تكتب بلغة الوعي، لا بلغة الردّ والتبرير وإثبات الذات. الريشة السوداء بالنسبة إليّ محاولة لكسر هذا التمركز، لكتابة أفريقيا من داخلها، لا من نوافذ الآخرين، أن أقول للعالم: لسنا ضحايا التاريخ فقط، بل صُنّاعه.