ترجمة - قاسم مكي -
عندما كتب الشاعر الآيرلندي ويليام بتلر ييتس قصيدته «المجيء الثاني» في عام 1919 قدّم دون قصد خدمة لأجيال من الصحفيين. فحين يواجه المعلقون أزمة سياسية يمكنهم اقتباس السطر المألوف من القصيدة «الأشياء تتداعي. المركز لا يّقْوَى على الصمود» وذلك قبل الإحالة الى السطر التالي «الأخيار تخور عزيمتُهم.
(في هذه القصيدة يعبر ييتس عن تشاؤمه من المستقبل بعد الحرب العالمية الأولى؛ فالنظام الأخلاقي الذي يرتكز عليه تماسك العالم ينهار والأخيار ينسحبون والأشرار يتصدَّرون المشهد - المترجم.)
كنت أنفض الغبار عن هذه الأسطر الشعرية مرة أخرى وأنا أشاهد صعود اليمين الجذري في أوروبا. لكن الانتخابات الهولندية الأخيرة عَقَّدَت الحكاية. ففي هولندا «المركز» لم يصمد فقط بل فاز. صحيح حزب «الديمقراطيين 66» التقدمي جاء في المركز الأول بفارق ضئيل. لكنه في الغالب سيتولى تشكيل الحكومة الهولندية القادمة فيما يُرجّح أن يفقد حزب الحرية اليميني المتطرف دوره في الحكم.
توحي الانتخابات الهولندية بأن السرديات الكئيبة حول الصعود الذي لا هوادة فيه لأقصى اليمين في أرجاء أوروبا ليست دقيقة. فالحكاية الحقيقية مختلفة قليلا.
في معظم أوروبا الناخبون غاضبون ومحبطون. لذلك يسارعون الى إسقاط الأحزاب الحاكمة. وإذا كانت هذه الأحزاب تنتمي الى الوسط التقليدي ستجتاح أحزابُ الهامش الراديكالية الانتخابات. لكن عندما يصل اليمين المتطرف الى سدّة الحكم سرعان ما يصاب الناخبون بخيبة الأمل ومن ثمّ يعودون الى أحزاب الوسط في الانتخابات التالية.
حصل حزب الحرية بقيادة خيرت فيلدرز على فرصته للمشاركة في الحكومة في عام 2023 لأن ناخبين هولنديين عديدين فقدوا الثقة في أحزاب الوسط التقليدي. لكن حزب خيرت، وهذا متوقع، لم تكن لديه حلول يسيرة للمشاكل التي أغضبت الناخبين وخصوصا مشكلتي المهاجرين الباحثين عن اللجوء وأزمة المساكن.
وهكذا اتجه الهولنديون الآن الى وجه جديد تمثل في روب جيتين زعيم حزب الديمقراطيين 66 الشاب وصاحب الحضور القوي في التلفزيون. لكن دعونا نكن واقعيين. إذ من المرجح جدا أن يضجر الناخبون تماما من جيتين بحلول الانتخابات القادمة ويصوتوا للتغيير مرة أخرى. وقد يجد أقصى اليمين فرصة أخرى لتولي الحكم في هولندا.
سبق أن مرَّت النمسا بهذه الدورة. فحزب الحرية اليميني الشعبوي كان جزءا من حكومة ائتلافية في الفترة 2017- 2019 قبل أن تحيط به فضيحة سياسية. لقد تراجعت شعبيته بشدة. لكن الحزب تعافى تحت قيادة جديدة وفاز بأكبر عدد من مقاعد البرلمان في انتخابات 2024 على الرغم من عجزه عن تشكيل ائتلاف حكومي.
وإذا كانت الحكاية التي تتشكل في أوروبا تتحدث عن تناوب (في الحكم) بين الوسط واليمين المتطرف ستكون لذلك تداعيات خطيرة لبريطانيا وفرنسا وألمانيا. ففي كل هذه البلدان الثلاثة تواجه حكومةُ وسطٍ متعثرة معارضةً تكتم أنفاسها وتهدد بإسقاطها.
الدروس المستفادة من هولندا وأيضا من النمسا وإيطاليا والمجر وسلوفاكيا هي أن «الشيء الذي لا يمكن أن يخطر على البال» يحدث فعلا وأحزاب اليمين المتطرف يمكنها كسب السلطة السياسية. لكن ربما ليس بالضرورة أن تحتفظ بها. فحتى فيكتور أوربان الذي ظل يحكم المجر منذ عام 2010 يتخلف في استطلاعات الرأي قبل الانتخابات المقررة في العام القادم.
في البلدان الأوروبية الكبيرة التي لا زال الوسط (المركز) بها صامدا فرنسا هي الأقرب الى حافّة (الانهيار). فقد مر عليها خمسة رؤساء وزارة منذ بداية عام 2024 ويتصدر حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف استطلاعات الانتخابات الرئاسية التي ستجري خلال 18 شهرا. ومن الممكن أن يجد أقصى اليمين أخيرا طريقه الى قصر الإليزيه في عام 2027.
وفي ألمانيا كثيرا ما يقال إن الحكومة الائتلافية الحالية بقيادة فريدريش ميرتس «آخر فرصة للوسط.» إذا كان ذلك كذلك سيكون لدى الوسط سبب يدفعه الى الشعور القلق. فميرتس لم يكمل بعد سنة في الحكم لكن ثلثي الناخبين يرفضون حكومته الائتلافية. وحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف يتصدر الآن بعض استطلاعات الرأي العام.
وفي بريطانيا الحزبان اللذان هيمنا على السياسة في القرن الماضي (المحافظون والعمال) يقبعان كلاهما خلف حزب الإصلاح الشعبوي اليميني في الاستطلاعات.
قد لا تكفي نسبة ال 30% أو نحو ذلك من الأصوات التي يحصل عليها هذا الحزب بانتظام لإدخاله في الحكم في نظام انتخابي يعتمد التمثيل النسبي كما في ألمانيا. لكن في النظام البريطاني قد تكفيه للفوز بأغلبية برلمانية. (في النظام البريطاني يفوز المرشح الحاصل على أعلى الأصوات في دائرته الانتخابية خلافا للتمثيل الانتخابي النسبي الذي يحصل فيه الحزب على عدد من المقاعد حسب إجمالي الأصوات التي يحصل عليها مرشحوه- المترجم).
لاتزال هنالك أكثر من ثلاث سنوات متبقية قبل عقد انتخابات عامة. لكن نايجل فاراج زعيم حزب الإصلاح هو حاليا مرشح وكلاء المراهنات المفضل لمنصب رئيس وزراء بريطانيا القادم.
وإذا تولى اليمين المتطرف الحكم في بلد كبير في غرب اوروبا سيعتبر ذلك زلزالا سياسيا. لكن ذلك حدث من قبل في الحقيقة. فجورجيا ميلوني التي لديها جذور سياسية في حركة الفاشية الجديدة في حقبة ما بعد الحرب العالمية أصبحت رئيسة الوزراء قبل ثلاث سنوات.
ولايزال يسار الوسط في إيطاليا متوجسا بشدة من ميلوني. ففي منصبها كرئيسة للوزراء اتخذت مواقف محافظة جدا من الهجرة والقضايا الاجتماعية. لكنها تجنبت القومية المتشددة وتآكل المؤسسات الديمقراطية، وهما كلاهما خصيصتان لأوربان أو دونالد ترامب.
أيضا نجت ميلوني حتى الآن من السخط الشعبي الحاد ضد من هم في سدة الحكم والواضح في بريطانيا وفرنسا. وكما يبدو غالبا ما ستكون ثاني رئيس وزراء إيطالي منذ الحرب العالمية الثانية يكمل فترته المقررة في الحكم (خمس سنوات).
وبتحقيقها لذلك تشير ميلوني الى احتمال مقلق للسياسة الأوروبية. فالمستقبل ربما لن يكون اختيارا بين الوسط وأقصى اليمين ولكن مَحْوَا تدريجيا للفارق بين المعسكرين.
جيديون راكمان كبير معلقي الشئون الخارجية بصحيفة الفاينانشال تايمز
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الیمین المتطرف فی الحکم
إقرأ أيضاً:
أمين اللجنة العليا للدعوة: الكليات الأزهرية تسهم في منع تغريب العقول
شارك الدكتور حسن يحيى، الأمين العام المساعد للجنة العُليا للدعوة، نيابةً عن الدكتور محمد الجندي، الأمين العام لمجمع البحوث الإسلاميَّة، ظهر اليوم، في الندوة التي نظَّمها قِسم الدراسات الإسلاميَّة بكلية التربية بنين في جامعة الأزهر بالقاهرة تحت عنوان: (دور الأزهر في مكافحة وتفكيك الفكر المتطرف)، بحضور عدد من أعضاء هيئة التدريس، وطلاب الكلية، وعدد من الباحثين المهتمِّين بقضايا الفِكر والدعوة.
وخلال كلمته التي ألقاها نيابةً عن فضيلة الأمين العام، أكَّد الدكتور حسن يحيى أنَّ الأزهر الشريف بقيادة فضيلة الإمام الأكبر أ.د. أحمد الطيب، يقوم بدور محوري في تفكيك الفكر المتطرف، ومواجهة الانحرافات الفكريَّة؛ من خلال جهود عِلميَّة وميدانيَّة متكاملة، تستند إلى منهجه الوسطي، ورؤيته المتزنة التي تجمع بين الأصالة والمعاصرة.
وأوضح الدكتور يحيى أنَّ جهود الأزهر في هذا المجال تتنوّع بين العمل الميداني الدعوي والتوعوي، والجهد الأكاديمي والعِلمي، والجهد الإعلامي والفكري، مشيرًا إلى أنَّ مؤسسات الأزهر –وفي مقدِّمتها مجمع البحوث الإسلاميَّة– تعمل على تفنيد شُبهات الجماعات المتطرفة، ودحض أدلَّتها المزعومة؛ من خلال اللقاءات الميدانيَّة، والمنصَّات الإلكترونيَّة، والإصدارات العِلميَّة، والمَجَلَّات المتخصِّصة، وعلى رأسها: مَجَلَّة الأزهر الشريف.
وتابع الأمين العام المساعد للجنة العُليا للدعوة أنَّ الأزهر الشريف عقد مؤتمراتٍ عِلميَّةً كبرى جمعت علماء ومفكِّرين من داخل مصر وخارجها؛ مثل: مؤتمر الأزهر العالمي لمواجهة التطرف والإرهاب عام 2014م، ومؤتمر التجديد في الفكر الإسلامي عام 2020م، اللذين خرجا بتوصيات مهمَّة أكَّدت انحراف الفكر المتطرف وضرورة مجابهته عِلميًّا وفكريًّا وإعلاميًّا.
ونبَّه إلى أنَّ الأمن الفكري يُعدُّ ضرورةً وجوديَّةً في ظل ما يشهده العالَم من تحديات فكرية وثقافية تهدِّد هُويَّة الأمَّة وثوابتها، مؤكِّدًا أهميَّة دَور الكليَّات الأزهريَّة في دراسة الفكر الإسلامي الأصيل، وتناول قضايا الأمن الفكري ومشكلات الفِكر المعاصر في ضوء الإسلام، وكشف حرب المفاهيم والمصطلحات التي تستهدف تغريب العقول، وإحلال مفاهيم دخيلة بدلًا من المفاهيم الأصيلة.
ولفت الدكتور حسن يحيى في ختام كلمته إلى أنَّ العقيدة السليمة هي الأساس الأول للأمن الفكري؛ إذ تضبط حركة الفِكر وتوجِّه السلوك الإنساني، وتحمي المجتمع من الانحراف، مشيرًا إلى أنَّ التشكيك في العقائد، ومحاولات فرض الإلحاد، والتفلُّت من القِيَم باسم الحريَّة والإبداع- من أخطر ما يهدِّد المجتمعات اليوم؛ ممَّا يستوجب ترسيخ المنظومة العقديَّة في نفوس الشباب، وتعزيز صلتهم بالله تعالى.