غزّة.. مَن يُحيطها بذراعيه.. ويتمتم بالنّار؟
تاريخ النشر: 10th, November 2025 GMT
المتوكل طه
عباءته المتجعّدة فضفاضة شفيفة. يندفع نحو البيوت المقصوفه، فيردّ الأكمام على كتفيه، ويرفع الركام، ويسحب المخبوزين تحت البنايات المترنّحة.
يحمل ساطوراً هائلاً، ويقف على مداخل المدينة، كأنه حارسها.
هو الذي فخت الجدران الاسمنتية بإصبعه، وحمل المقاتلين،الشهداء مع وقف التنفيذ، ليعيدوا الأرض إلى أصحابها، ويُثخنوا في ضبّاط الموت الموت.
يذرع المخيمات والبلدات، ويُلقي السلام على الناس.
يقف على صخرة راسخة، ويقول: إن القتلة يستهدفون الأطفال والنساء والأسواق البريئة! فهل هؤلاء بشرٌ ؟ أم أنّ أسفارهم الملغومة هي مَن يمدّهم بالذرائع لحرق اللحم الطريّ والطيور والرّضّع والزغب اللبنيّ؟ فكيف يقيمون معهم “السلام” ،الذي لا يُفضي إلا إلى الهلاك والعنصرية والجنون والإبادة والفظائع المصوّحة؟ ماذا بقي فيهم ليحبّوا السلام، ونؤمن أنهم من نسل آدم؟
لقد رأوه، لكنّهم لا يعرفون اسمه، على وجه التحديد، لكنّ البسطاء يعرفون، ببداهة البصيرة المضيئة ،أنّ هذا الشيخ يدرك نِفاق الغرب، الذي يبرّر فناءنا وشطبنا من قوائم الحياة! فيسألونه: هل انتهت الحروب الصليبية يا شيخ، أم أن كيان القتل هو ما يُمثّل المملكة اللاتينية الأخيرة على شواطئنا؟ ولهذا يدعمونها .. على حساب دمنا النظيف !
وبعد كل مئة جنازة جماعية، يسمعونه يقول لرجل يهرول نحو المقابر: كيف لبعض “أخوتنا” أن يُعانقوا هؤلاء الوحوش؟ ويفتحوا عواصمهم لأصواته المُنكَرة؟ ويصطّفّون معه ، بتصريحاتهم المهزومة أو صمتهم الحقير، في إطلاق النار على الصغار ونوافذ الحبق؟
وبعد القصف، الذي يتجدد كل دقيقة، يقف متكئاً على عمارة، لم تصلها القذائف بعد، ويعدّ على أصابعه القنابل التي سقطت، والشهداء.. فيتلعثم، ويعاود الكرّة، لكنه يتوقّف، فقد تجاوز الشهداء الأرقام..!
نَظرَ الشيخُ في كأسِ النار؛ ثمة مَنْ يبتسم في قَعْرها، قال! والأوارُ يلمع على شفتيه ؛سيولدُ هنا، بعد الحطام والشظايا، وسيكون له عَرْشٌ ساحر، وستصل عرباتُه إلى أفاعي السواحل المُهاجرة.
في حضوره تتفوّقون على أنفسكم، وإنْ نظر إليكم ستتمّ المعجزة ، وسيضحك لكم الزمان !
ستكون خيولُه بلا عدد؛ جلودُها ماءٌ، وأجنحتُها غامضة، وستبدو أشجارُه ترياقاً للقلوب .
لقد حملته في أحشائها لينتقمَ لها، لكنّه تجاوز الرمادَ، وتمرّس بالمعرفة والجموح، حتى دقّ عُنقَ الخرافة .
– لا مجد بلا معاناة – ..
وبكى الشيخُ حتى ابتلّت لحيته ! ثم صرخ : النصر ! العظيم !.. إنتظروه ..
إن أُمَّهُ تصرخُ من آلام المخاض .سيتناول أعداؤه العَشاءَ في الجحيم،ولن تكون شمسٌ في السماء، سيكون شمسَ آلأرضين .سيُغطّي الأرضَ بدمهم، ويتبعهم إلى آخر الحشرجات .ستعلو صواريه، وينزل بالغيث حيثما يشاء، وسيفقأ عينَ البولاد والبوارج .ستشكره البواشق، ويمحي عُرفَ الديك الزائل، وتتلاشى صور أعدائه كالهواء .ستحترق الأبواق، ويذوب المعدن من الصراخ.
ستفيض الوديان والحُفر والأخاديد بالعفونة، والديدان وثياب الحديد، إلى أن تتجشّأَ الفراخ،ثم تدبَّ النار والطهارة، وتمطرَ غيومُ الصيف ،سبعة أيامٍ بلياليها .
ربما لم تلده أُمّه، بل خرج من مرْجَل العويل والقهر .
سيجفّ على قميصه النُعمان، ويتقشّر فوق دفقات العَرقِ تحت الظهيرة .
سيدخل المدينةَ العصّية، كما دخلوا مدائن الأساطير .
سيلاعب السَبْعَ في الكمان .
سيحمل إليه أبناءُ التّيه صناديقَهم، ويفرحون بالعفو.
سيعضّ قلبَه عطرُ الزهرة ذات الخُصلاتِ الفاحمة .
وهو ليس هشّاً ولا نبيّاً، لكنه ينسى، كعادة البشر، أن ثمةَ خَوَنةً في البيت .
سيصل إلى المجهول والبعيد، ويتحدّث عنه التائهون في الأصقاع، وينسجون حوله الهالاتِ الني يريدونها .
سترقص له الغزلانُ في الغيوم، ويعذّبه بطنُ الجدول، ويحلم بحليب الياسمين .
سينثرون الأرزَ لياقةً تحت أسواره، ويشرق بالحِبْر الأبيض، وتسبح على جدرانه الغاباتُ والأحلام.
وحينما يبلغ القمةَ سيرى وُعورةً لا تبلغها أو تقطعها إلاّ الآلهة، فيضطر أنْ يسلك طريقَ البحر والمواقد .
سيرتجف ويقشَعرّ، هذا القوي العنيد، ولن ينحني، لأنه بعيدٌ عن العار وشهوة الخشب. ولن يتعجرف كالمُهر الأَرْعَن.
لن يخذله جسده، ولن تتجرأ عليه الأيام ، وسيبقى عابداً زاهداً بسيطاً .. وباسلاً إلى أنْ يشيبَ الأحفاد ، ويحملوا خارطةَ الروح.
ولأنَّ الإفتراء ضعفٌ، والرؤيا بشرى، فلا بأس أن تضحكوا أيّها المتوحّشون، لأنكم لن تجدوا حتى الدمع، بعد حين .
ويبدو أنَّ فذاذته تكمن في أَنّهُ أنقذنا من أنفسنا .
إنه مكافح سماوي، وإنني أراه ؛ في فرط الرُّمّان، وعلى سواحل الماكرات الّليّنة،وفي ريق السراج، وفي كأس النار.
وصرخ الشيخ: إنني أراه .. إنني أراه !
ماذا ترى يا شيخ؟
قال: إنها بداية النهاية، إنها نهاية البداية.
فاستعدوا يا قوم!
ثمّ يواصل السير إلى الشمال ،وإلى الجنوب، كأنه يتفقّد الأحوال.. ولطالما رأوه يسحّ من عينيه دموعاً حمراء، يجمعها في كفيه، ويدلحها على الحقول الظمأى.
فمه مالح، وعيناه زرقاوان داكنتان، وشعره يضفضف بالفضّة، ويكاد طوله يغطّي الآفاق.
قال له صاحب دكان: أنا أعرفك يا شيخ..!
فابتسم، وقال أنا أعرف جدّ جدّ جدّك، كان يلعب معي على الشاطئ، وقد شهدتُ عُرس أبيه..
يحمل الجرحى والأشلاء المتناثرة في الأسواق، وإن كانوا مئة، على ساعديه، ويسارع بهم إلى المشفى.
يزيج أنقاض الأحياء، ويعيد فتح الطريق، ويرشّ الماء على التراب.
امتلأ ثوبه ببقع الدم التي دبّغته، لكثرة الشظايا والقنابل التي أصابت جسده، حتى لا تصيب البيوت.
يرونه جالساً عند رؤوس الأطفال المقتولين، يبكي، وهو يمسّد رؤوسهم المفغورة.
يخطً بإصبعه الأرض، فينشقُّ أخدود كبير طويل، لدفن الضحايا. ويبقى عند شواهدهم يتمتمُ بالنار والرذاذ.
هو شيخ من الماء، يسكن قرب البيوت على شاطىء غزة.
هو الذي ينسرب من تحت الأبواب، ليعود امرأه فقدت كلّ أبنائها..يربط على قلبها بالنعناع، ويقبّل قدميها.
وهو الذي يُلقي بالركام بعيداً حتى يصل إلى لعبة القُطن، يحملها ليعيدها إلى تلك الطفلة المُثخنة الباكية.
ينتقي بإصبعيه قطع الحيطان المهدّمة، وما تقصّف من سقوف وجدران وشجر، وينعفها في السماء.. بعيداً، فتشهق بنثار الضوء.
وهو الذي أعاد المئذنة، التي شطروها، إلى حالها، ولبّدها بريقة لتظلّ واقفة.. كالمسلّة والنداء.
يعتلي حصانه الرّاعد، ويعرج به إلى السماوات، ليبكي على أبواب العَرْش لترحم غزّة.
وهو الذي حتَّ بإظفره جدولاً لتجري المياه العادمة المتفجّرة.. إلى المَصَبّ البعيد، حتى لا تغرق الحقول والأحياء.
وهو الذي يتراكض كالغيوم في الليالي، يحمل الأكياس على كتفه.. يوزّعها على المذبوحين والمتحلّقين في العتمات.
يفتح شريانه ليتدفّق النعمان، لترتوي البيارات العطشى، وتنفجر أراضيها بالشقائق وأزرار العندم.
ويغسل، بعد كل قنبلة، الطرقات، فيبدو ما تبقى من البنايات والشوارع مصقولاً بالرقراق الشاحذ.
وأراه، يجلس القرفصاء، وجهه إلى الشرق، وقد غرز كفيه، مثل معوليْن في قاع الحدّ الجنوبي والحدّ الشمالي، ويحاول أن يحمل غزة من جذورها، ويحملها إلى شرفة في بيته العالي، ويضعها هناك، ويحيطها بذراعيه.
إنه البحر.
*من كتاب المقاومة.
المصدر: الثورة نت
كلمات دلالية: وهو الذی هو الذی الذی ی
إقرأ أيضاً:
ما الذي تخشاه "إسرائيل" من دخول الصحفيين الدوليين لغزة؟
غزة - خاص صفا رغم سريان وقف إطلاق النار في قطاع غزة، إلا أن "إسرائيل" ما تزال تحظر دخول الصحافيين الدوليين إلى القطاع، خشيةً من نقل الحقيقة ومشاهدة العالم لجحم الفظائع والجرائم التي ارتكبتها على مدار عامين من حرب الإبادة. ومنذ بدء الحرب على غزة، تفرض سلطات الاحتلال حظرًا كاملًا على دخول الصحافة الأجنبية، ما يحرم المجتمع الدولي من الاطلاع المباشر على حقيقة الجرائم البشعة، والأوضاع الإنسانية الكارثية التي يعيشها المواطنون في القطاع. وفي الخامس والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر الماضي منحت محكمة الاحتلال العليا "إسرائيل" 30 يومًا إضافيًا للرد على التماس قدمته رابطة الصحافة الأجنبية في عام 2024 للمطالبة بدخول الصحفيين الدوليين إلى قطاع غزة، والطعن في الحظر الذي تفرضه منذ بدء حرب الإبادة. ودعت لجنة حماية الصحفيين "سي بي جي" المجتمع الدولي إلى الضغط على "إسرائيل" لرفع جميع القيود التي تحول دون دخول الصحفيين إلى غزة فورًا. وعلى مدى عامين، سعت حكومة الاحتلال إلى تأجيل النظر في دخول الصحفيين إلى القطاع 7 مرات، بهدف منعهم من أداء واجبهم الصحفي، والحيلولة دون نقل ويلات الإبادة وتداعيتها الكارثية إلى العالم. لكن جيش الاحتلال نظّم جولات صحفية محدودة وخاضعة لرقابة عسكرية مشددة داخل غزة، وحدّد الصور ومقاطع الفيديو التي يمكن نشرها، ومنع إجراء المقابلات مع الفلسطينيين، مما "يعزز الدعاية الإسرائيلية، ونشر مشاهد ميدانية خاضعة بالكامل لسرديته الرسمية ومجرّدة من التغطية الحرة والمستقلة". وفي محاولة لطمس الحقيقة ومنع نقلها للعالم، تعمّد الاحتلال قتل 256 صحفيًا فلسطينيًا، منذ بدء حرب الإبادة على قطاع غزة. حجب الحقيقة مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي في غزة إسماعيل الثوابتة يقول إن استمرار الاحتلال في منع الصحافة الدولية من دخول قطاع غزة هو سلوك متعمد وممنهج، يهدف إلى حجب الحقيقة ومنع العالم من مشاهدة وتوثيق آثار الجرائم والانتهاكات التي ارتكبت بحق السكان المدنيين خلال الحرب. ويوضح الثوابتة في حديث خاص لوكالة "صفا"، أن الاحتلال يُدرك أن وجود الصحافة الحرة سيكشف حجم الدمار، وأنماط الاستهداف، ووقائع الإبادة الجماعية، وسيُسقط الرواية التي يحاول ترويجها عالميًا. ويرى أن منع وصول الإعلام المستقل يمثل انتهاكًا واضحًا لحرية العمل الصحفي التي تكفلها المواثيق الدولية، وعلى رأسها المادة (19) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. ويؤكد الثوابتة أن الاحتلال يتصرف خارج إطار القانون الدولي، وبمنطق القوة والهيمنة. ويضيف أن الاحتلال يخشى من دخول الصحفيين الأجانب إلى غزة، لأن الواقع أقوى من دعايته، ووجود صحافة حرة ومهنية سيؤدي إلى تفكيك روايته أمام المجتمع الدولي، وسيوثق بالصوت والصورة جرائم الحرب والقصف العشوائي، واستهداف العائلات المدنية، والمستشفيات، والملاجئ، ومخيمات النزوح. تضليل إعلامي وما تخشاه سلطات الاحتلال، وفقًا للثوابتة، هو المشهد الإنساني الذي لا يمكن تزييفه: الأحياء المدمرة بالكامل، المقابر الجماعية، الأطفال المصابون بالجوع، والأسر التي تُباد كاملة. ويؤكد أن الاحتلال يخشى الحقيقة، لأنها تفضحه، وتُؤسس لمسار محاسبة دولي لا يمكنه الهروب منه. ومن وجهة نظره، فإن سماح الاحتلال بدخول عدد محدود جدًل من الصحفيين وفق شروط صارمة، أبرزها مرافقة الجيش ومنع التحرك الحر، هو محاولة لإنتاج سردية إعلامية مُحكمة وموجّهة، حيث يتحكم الاحتلال بما يُشاهد وما يُنشر، ويمنع تصوير الجرائم أو الاقتراب من مواقع الاستهداف، ويتيح فقط ما يخدم روايته. ويقول إن هذا النمط من "التغطية المرافقة للجيش" هو تضليل إعلامي منظم وواضح، يخلق مشاهد منتقاة بعناية، بهدف إظهار الاحتلال بصورة قانونية أو أخلاقية، بينما يُخفي الانتهاكات الحقيقية. والخطر، وفقًا لمدير عام المكتب الإعلامي، يُكمن في تغييب الحقيقة وتحويل بعض وسائل الإعلام إلى أدوات لتبييض الجرائم، وإعادة إنتاج رواية غير صحيحة للعالم، مما يساهم في تشويه الوعي الدولي وتزييف الوقائع التاريخية. تعميّة الصورة وأما الكاتب والمحلل السياسي إياد القرا فيرى أن الاحتلال يريد تعميّة الصورة عن قطاع غزة، وعدم نقل الحقيقة والرواية الفلسطينية الحقيقية والصحيحة عما جرى من إبادة فعلية في القطاع. ويوضح القرا في حديث لوكالة "صفا"، أن كل ما جرى هو سماح الاحتلال لبعض الصحفيين الأجانب بدخول غزة، والذين يدعمون روايته في مناطق يُسيطر عليها، دون السماح بأي تغطية إعلامية للصحفيين ونقل الحقيقة. ويضيف أن هذا ما يشكل جزءًا من تزوير الحقيقة، والتغطية على جرائم الاحتلال في القطاع، وتسويقها للمجتمع الدولي، رغم روايته الكاذبة. ويشير إلى أن الاحتلال تعمّد قتل الصحفيين الفلسطينيبن، الذين حاولوا نقل جزء من حقيقة ما يجري في القطاع للعالم. وأكثر ما تخشاه "إسرائيل" هو نقل الحقيقة وتأكيد الراوية الواضحة حول إبادة غزة، وقتل الأطفال والنساء، وتدمير المدن الفلسطينية دون أي مبرر أو ذريعة لذلك، وهذا سيُستخدم كإثبات لدى محكمة الجنايات الدولية والإعلام الدولي. وفق القرا ويبين أن "إسرائيل" منزعجة جدًا إزاء ما نقل من صور من قطاع غزة، وبشأن تعذيب الأسرى في معتقل "سدي تيمان"، لأن نقل هذه الصور للمجتمع الدولي سيحدث تغييرًا كبيرًا في الموقف الدولي، خاصة أنها فشلت في تقديم روايتها في مواجهة الجرائم التي ارتكبتها في القطاع. ويعتقد القرا أن الاحتلال لن يسمح للصحفيين الأجانب بدخول غزة، لأن ذلك سيكشف حجم الجريمة التي ارتكبتها حكومة الاحتلال، مما يشكل كابوسًا لها. "لذلك تحاول تأخير كل هذه الإجراءات بقدر ما تستطيع، لكن في ظل الواقع الموجود، وعمليات التدمير والمسح الشامل سيكون من الصعب التعامي عن جرائمها في القطاع".