سودانايل:
2025-05-10@20:02:33 GMT

الخليفة عبد الله: يا النور عنقرة الحبش ديل بجقمو

تاريخ النشر: 6th, September 2023 GMT

(مرت أمس 2 سبتمبر الذكرى 125 لمعركة كرري (1898). وفي هذه الذكرى أعيد نشر كلمة في دحض ذائعات عن الخليفة عبد الله، ممن كان يلقب بسيد الأجمعين، تضافر على الترويج لها بعض نافدي الصبر والمتمحلين وربما "داكين تاريخ" من الجماعة المعروفة بالصفوة. ولم تكن عينهم في إذاعتها على التاريخ بل على مكابدتهم الشقية لنظام الإنقاذ الذي أفرغهم من كل حيلة فقاتلوا ظلامه بظلامهم.

فلو كان التاريخ مرادهم لما ارتكبوا بحق الخليفة ما يعرف ب"الحاضروية "presentism ". وهي التشفي من الحاضر بالماضي في عبارة عامية.

أزعجني علم تاريخي غير دقيق في تقويم خليفة الصديق ساد في عقودنا الأخيرة. فقد أصبح الخليفة مثلاً يضرب في ركوب الرأس العقائدي أو الهوس الديني الذي يبلد حس المرء السياسي ويجعله أسير أيدولوجيته لا يسمع ولا يرى. ووجد فيه بعض خصوم الإنقاذ الحاكم سابقة تاريخية ل "صناجة" الإنقاذ العقائدية التي يفسرون بها عزلة النظام السياسية وتطفل العالم علينا. وأنا غير معني بالإنقاذ هنا بالطبع. ولكن بدا لي أننا ربما احتجنا إلى مراجعة صورتنا عن الخليفة كعقائدي مهووس.
فمما يعاب على الخليفة عبد الله أنه استعلى على مساع الإمبراطور منليك الحبشي الذي عرض عليه تحالفاً "أفريقياً" ضد القوى الأوربية الغازية. وكان من جاء بالعرض هو رأس منقشا رسول الإمبراطور. فقد طلب الرأس من خليفة الصديق أن يتحالفوا ضد قوى الإثم الأوربي و"الإنجليز الحمر" بالذات. ولم يقتنع الخليفة بذلك. ورد عائبو الخليفة تعنته إلى أصوليته الإسلامية. فقد أعمته كراهة الحبش المسيحيين دون أن يقف على الخطر الحق القادم وهو من المستعمرين الأوربيين لا ريب فيه. وواضح أن لائمي الخليفة أسقطوا ضيقهم بالأصولية الدينية، التي تفاقمت في عقودنا الأخيرة، على سياسة الخليفة تجاه الحبشة. ولكنهم ربما ظلموا الخليفة. فهناك شواهد على أن الخليفة مال إلى عرض الحبش، بل أكرم وفادة رأس منقشا في أوائل 1889، وترخص في مأكل ومشرب ضيافتهم. فقدموا لهم لحم الخنزير وبنت الحان حتى يفكوا عقدة لسانهم كما قال توماس باكنهام مؤلف "التكالب على أفريقيا" المشهور.
ولكن هناك ما هو أهم من هذا في دفع العيب عن الخليفة في تواثقه مع منليك. فقد اختلف المؤرخون حول جدية منليك في عرضه على الخليفة عبد الله التحالف ضد الغزاة الأوربيين. وكانت مجلة "التاريخ الأفريقي" المشهورة ساحة لحوار حول هذه المسألة في النصف الأول من الستينات بين الدكتور ج ن ساندرسن، استاذ التاريخ بجامعة الخرطوم والمختص بتاريخ صراع القوى الأوربية في أعالي النيل، والدكتور هارولد ماركوس أستاذ التاريخ بجامعة ولاية متشغان والمختص في تاريخ أثيوبيا. وكان من رأي ساندرسن أن منليك كان صادقاً في عرضه للتحالف مع الخليفة لصد الغزاة الأوربيين. وله في ذلك أدلة يضيق بها المجال هنا بالطبع. ويبدو أن كتابنا ورثوا عن ساندرسن هذا الرأي الذي يبدو فيه الخليفة سلبياً تجاه تودد منليك، أو سافر العداء له. وليس هذا بمستغرب فقد كان ساندرسن بيننا وتلقينا معارف التاريخ عنه.
ولكن لماركوس رأياً آخر وهو أن منليك لم يكن يضمر الصدق في عرضه الخليفة. فقد أضحت سياسته قائمة على "التقية" منذ نصره العظيم على أيطاليا في 1896 وتوحيده للحبشة. ومفاد تلك السياسة أن يتقي القوى الأوربية ذات الأطماع في شمال شرق أفريقيا ومنابع النيل كفرنسا وانجلترا ويستثمر خلافاتها، وألا يصدر عنه ما يورطه تحت طائلة مساءلة وعقاب. ورتب سياسته نحو الخليفة عبد الله على هذا النهج. فقد كان يريد له أن يكون خصماً لبريطانيا الغازية ينشغل بها عنه وينصرف بذلك عن المواضع المتنازع عليها بينهما بشرق السودان وغرب الحبشة. وكان شاغل منليك أن ينأ بالحبشة عن أطماع أوربا بضرب الأوربيين وغيرهم واحدهم بالآخر.
ومما يدل على أن منليك لم يقصد بالحلف الأفريقي ضد الاستعمار الأوربي سوى مضمضة لفظية أنه لم يقدم للخليفة عرضاً معلوماً ذا التزامات برغم إلحافه على عقد الحلف المعلوم مع الخليفة. بل ربما علم الخليفة باتفاق منليك مع بريطانيا في 14 مايو 1897. وهو اتفاق وقعه الإمبراطور مع رنيل رود أكبر معاوني لورد كرومر في مصر بعد أن أزعج بريطانيا التقارب الحبشي السوداني المزعوم. وكانت أول شواغل بريطانيا في الاتفاقية أن يلتزم منليك بوقف تسرب السلاح عن طريق الحبشة للسودان ما استطاع إلى ذلك سبيلا. ووقعت لمنليك منافع من هذه الاتفاقية مثل إطلاق يده في تملك أرض (13500 ميلاً مربعاً) تتبع الصومال البريطاني، وأن تكف بريطانيا عن جمركة ما تستورده الحكومة الأثيوبية من بضائع عبر ميناء زيلع. بل ربما كان تودد الخليفة إلى منليك هو أيضاً نوع من "التقية" يريد به تحييده حتى لا ينشغل بغير ملاقاة حملة كتشنر. بل تنازل الخليفة عن منطقة بني شنقول لمنليك لأنها كانت الموضع السوداني الذي طمع فيه منليك طمعاً عظيماً دون المواضع المتنازع عليها جميعاً.
قال مؤرخ بريطاني مميز عن الدكتور الترابي حين تكاثرت الكتابات السالبة عنه في التسعينات: "سداد الكاتب ليس في كراهية الترابي بل في كراهيته صاح". وكان يعني أن يحسن نقاده نقده بالاطلاع الواسع والنهج العلمي. ويستحق الخليفة، على ضوء ما تقدم من معارف عن علاقته مع منليك غائبة عن الكثيرين منا، أن كرهناه أن نكرهه . . . صاح.


IbrahimA@missouri.edu
////////////////////  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

الأمة.. إشكالية الهوية فيما بعد التاريخ (1)

لعل تسريبات الرئيس الراحل عبد الناصر، استثارت فيّ فكرة الهوية التي قد أثرتها في المقال السابق (تسريبات عبد الناصر وتساؤلات الهوية والقضية)، إذ إن هذه القضية فتحت جرحا يكاد الكل يتحاشى الكشف عن ضمادته، حتى لا ينزف فيصيب ثوب الأمة الذي يتجمل بمساحيق العروبة والإسلام، رغم قيح العلمانية والتغريب الذي يأكل في جسده، بل الأخطر هي حالة اللا هوية التي بدأت تتسرب في وجدان الشباب والفتيان، فلا موجّه ولا معين لتشكيل شخصيته، في زمن العولمة وآلة الإبهار الغربية، التي تدغدغ مشاعر الجيل لاعبة على حالة الانفصام التي تعيشها الأنظمة، حتى بدأت تتلاشى فكرة الأمة.

منذ عشر سنوات، وفي جلسة جمعتني بعدد من نخبة الساسة والمسؤولين في العالم الإسلامي -يشمل العرب- دار الحديث، كما كل جلسات من يهتمون بالشأن السياسي ممن ينتمون إلى التيار الإسلامي، بأحوال الشعوب العربية والإسلامية، وما تعانيه هذه الشعوب، في محاولة لفهم لماذا وصلت هذه الشعوب إلى ما وصلت إليه، لكن المستغرب، إنكار أحد الساسة الكبار في بلده، وكان مستشارا لرئيس الوزراء في ذلك البلد الكبير الصاعد والمنتشي بما حققه خلال الأعوام العشرين الماضية، المستغرب إنكاره استخدامي كلمة أمة للتعبير عن هذه الشعوب التي تجمعها جغرافيا ودين وإن اختلفت ألسنتهم، فجلهم يفهمون العربية، رغبة في التشبث بهويتهم الإسلامية، وذهب الرجل إلى أنه لم تعد هناك أمة، ولا يجب استخدام هذا المصطلح.

الأمر يتعلق بمجموعة بشرية ارتضت لنفسها هذا الدين كرابط، فلا مناص من أن نذهب إلى ما ذهبوا إليه، وتمسكوا به رغم مرور الزمن وما اعتراهم من، وهن جعلت قبضتهم تنحل شيئا يسيرا عن هذه الرابطة
وكما أي باحث، يجب للذهاب إلى مشكلة البحث أن نحرر المصطلحات المبحوثة، لذا فيجب أن نعرف معنى كلمة أمة في اللغة والاصطلاح، حتى نذهب معا إلى مدار البحث وصولا إلى نتيجة..

عرف المعجم الوسيط الأمة بأنها الوالدة، وأنها جماعة من الناس أكثرهم من أصل واحد وتجمعهم صفات موروثة ومصالح وأماني واحدة، أو يجمعهم أمر واحد من دين أو مكان أو زمان.

وتعرف الأمة في الاصطلاح عند الحكيم الترمذي بأنها: "الجماعة التي يؤمها الناس ويقصدونها، فإنما صارت الأمة في هذا المكان الجماعة؛ لأنه الذي يقصده الناس، ويبصرونه".

وفي علم السياسة، الأمة تتألف من أفراد يجمعهم نوع أو أكثر من أنواع الروابط التي تعلو عليهم، ويستجيبون طوعا لها في الوقت عينه، وهو أحد التعريفات التي انسحبت فيما بعد، على كل مجموعة من البشر يعيشون على رقعة جغرافية تجمعهم مصالح مشتركة، دون النظر إلى توافقهم الفكري أو العرقي أو الديني أو حتى الأيديولوجي.

السؤال الآن: هل المسلمون أمة؟ وهل تنطبق عليهم هذه التعريفات؟ من ثم هل تغيرت المعطيات، من ثم تغيرت التوصيفات لهذه الشعوب؟

واسمح لي عزيزي القارئ أن استخدم الآيات والأحاديث جنبا إلى جنب مع تعريفات الساسة والأكاديميين للبحث في المسألة، وإن كان ذلك سيزعج بعضهم، ولكني مضطر، لأن الأمر يتعلق بمجموعة بشرية ارتضت لنفسها هذا الدين كرابط، فلا مناص من أن نذهب إلى ما ذهبوا إليه، وتمسكوا به رغم مرور الزمن وما اعتراهم من، وهن جعلت قبضتهم تنحل شيئا يسيرا عن هذه الرابطة، واسمح لي أيضا أن أفرق بين ما هي عليه نظم الحكم في تلك البقعة الجغرافية من طنجة إلى جاكرتا، وبين الشعوب التي تعيش على هذه البقعة، وتمتد إلى خارجها بحكم هذه الرابطة، أقصد الدين.

"إذ كنتم أعداء، فألف بين قلوبكم" (آل عمران: 103)، فإن كانت الآية نزلت في الأوس والخزرج، إلا أنها تنسحب على كل شعوب الأرض الذين وصلهم الإسلام، ولأن الإنسان عدو ما يجهل كما قال الإمام علي بن أبي طالب، فإن حالة العداء تنشأ مع نشأة أي منظومة فكرية أو تنظيمية تحرك ثوابت أي مجتمع، لكن مع ثبات أصحاب هذه الفكرة ومع الوقت يألف الرافضون، وتتحول قلوبهم بأمر الله إلى الألفة مع أصحاب نهج الجديد، لا سيما بعد أن تثبت صوابية هذا المنهج.

إذن، فإن شعوبنا هذه لم تكن أمة فيما قبل نشر دعوة الإسلام، لكن ومع نشر هذه الدعوة، تحولت هذه الشعوب إلى حالة أخرى يربطها رباط الأخوة والدين ثم المصالح وبالتالي المصير، متمسكين في هذا بقوله تعالى: "فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين. فقد وضع الله معيار الأخوة بإقامة الدين، وربط النبي صلى الله عليه وسلم هذه الرابطة، بقوله: "من لم يهتم بأمر المسلمين، فليس منهم"، وإن كان الحديث فيه ضعفا لكن العلماء صححوا معناه.

ونستكمل حديثنا في الجزء التالي من هذا المقال بعون الله الأسبوع القادم..

مقالات مشابهة

  • مصرع شاب إثر اصطدام مينى باص بالدقهلية
  • الأمة.. إشكالية الهوية فيما بعد التاريخ (1)
  • العلامة فضل الله: نجدّد دعوة الدولة إلى تفعيل دورها الذي أخذته على عاتقها على الصّعيد الديبلوماسي
  • «ديوا» تدعم مبادرة جمعية النور لرعاية وتمكين أصحاب الهمم
  • الفاتيكان يختار أول بابا أمريكي عبر التاريخ.. وهذ اللقب الذي سيحمله
  • ماذا يعني اسم سيندور الذي أطلقته الهند على عمليتها ضد باكستان؟
  • بعد البابا فرنسيس.. من يكون الخليفة رقم 267 للقديس بطرس في الفاتيكان؟
  • ما الذي يقوله الشعراء؟
  • بإشراف الخليفة العام للطريقة التيجانية ..عدد من المسيحيين يعتنقون الإسلام بواغادوغو
  • بريطانيا مستمرة في تصدير الأسلحة لإسرائيل رغم اعلان تعليقها