الجزيرة:
2025-05-11@10:32:13 GMT

السياسة وصناعة الثقافة.. لعبة المتن والهامش

تاريخ النشر: 28th, May 2024 GMT

السياسة وصناعة الثقافة.. لعبة المتن والهامش

لا يقوم تهميش مثقف أو مبدع ما في الآداب والفنون بالضرورة على رداءة ما ينتجه، أو كسله في التسويق له، أو طغيان شقاء عيشه على انشغاله بتجويد إبداعه أو البحث عن أبواب ونوافذ يطلّ منها على القاعدة العريضة من الناس، إنما قد يكون هذا راجعًا إلى ما هو فوق طاقته، ألا وهو تآمر الظروف عليه، أو إزاحته بفعل فاعل يملك القدرة الفائقة على تدشين ثقافة ما، أو التحمس لأخرى وترويجها، والانتصار لها.

هندسة الثقافات

إن الالتفات إلى الثقافة باعتبارها أداة سيطرة، أو وسيلة للتمكن الاقتصادي، أو حيازة السلطة والمكانة الاجتماعية، جعل الساعين إلى تحقيق هذه الأهداف معنيين كثيرًا وعميقًا بحصار كل ثقافة تعمل ضد ما يقصدون، وإبعاد كل مثقف لا ينتج ما يفيدهم. على العكس من ذلك تمامًا، ينتصر هؤلاء لكل خطاب أو رؤية أو فلسفة تساعدهم في فرض مسارهم، بل يصنعون هذه الثقافة وينشئونها في كثير من الأحيان.

لا يقتصر الأمر في هذا على سلطات الدول، لاسيما في ظل نظم الحكم المستبدة والشمولية، إنما أيضًا في ركاب الإستراتيجيات العالمية الرامية إلى الهيمنة. فنشر الشيوعية كان جزءًا أصيلًا من سعي الاتحاد السوفياتي المنهار إلى تعزيز نفوذه المادي في العالم.

في المقابل فإن توظيف الثقافة الليبرالية لا يزال رافعة من روافع السياسة الرأسمالية الغربية عمومًا، والأميركية خصوصًا، حتى لو أصيب هذا المسار بداء الدعاية والتلاعب والمخاتلة. وفطنت الصين إلى أهمية الثقافة في تمهيد الأرض أمام تمدد مشروعها الرامي إلى أن تكون قوى عالمية عظمى، سواء في نظام قطبي ثنائي أو متعدد الأقطاب؛ أملًا في أن تنفرد هي بالساحة العالمية مستقبلًا، لذا شرعت أخيرًا في تكوين جماعات ومؤسسات ثقافية لاسيما في آسيا وأفريقيا تدور في فلكها.

قبل ذلك كانت هناك رؤيتان تحكمان نظرة القوى الاستعمارية لمسألة الثقافة، الرؤية الفرنسية التي أرادت اجتثاث ثقافات البلاد المُستعمَرة، وزرع الثقافة الفرنسية مكانها عنوة. والرؤية الإنجليزية التي هندست الثقافات، بهدوء ونعومة، على أساس المبدأ الأساسي للإمبراطورية البريطانية وهو "فرق تسد"، وفي خدمة الهدف الأساسي للبريطانيين، وهو الاستيلاء على الموارد الاقتصادية.

نخب مصنوعة

هذه الرؤى لا تُطلق في الفراغ، ولا تقف عند حد الأمنيات والرغبات والتطلعات، إنما تُترجم في إجراءات محددة، وكل إجراء ينادي صاحبه، وكل هدف يجذب أتباعه، ليس عن اقتناع بالضرورة، إنما لتحصيل منفعة ما. فالاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، وقبلهما إنجلترا وفرنسا، كانت لها نخب شجعتهم، أو صنعتهم على عيونها، لحمل الأفكار وإشاعتها في المجتمعات قاطبة، وفتحت لهؤلاء مؤسسات وهيئات، وأطلقت لهم منابر ومنصات ومطبوعات تصدروها، وتم في خفاء وبتحايل تصدير ما ينتجونه إلى الناس، الذين لم يكن بوسع أغلبهم أن يمسكوا بأيديهم الخيط الذي يربط هؤلاء بمشروعات هيمنة ما.

وسار كثير من الحكومات التي قامت في دول العالم الثالث بعد الاستقلال على النهج ذاته، إذ كان عليها أن تبحث عن حاملي خطابها إلى الناس، أو من ينتجون خطابًا؛ لتبرير سلوك أهل القرار وتدابيرهم، وتجميل صورتهم، وتسويق السائد والمتاح للناس باعتباره أفضل ما يمكن بلوغه، ثم دعوتهم إلى الصبر على الفقر والضيم والإهانة.

ولأن من مصلحة الساعين إلى الهيمنة أو التحكم، سواء كانوا يمثلون قوى استعمارية، أو شركات متعددة الجنسيات، أو تنظيمات عابرة للحدود، أو أيديولوجيات أن يكون الموالون لهم في الصدارة، حتى يضمنوا تأثيرًا واسعًا لخطابهم، فإنهم يسخون بالمال والجهد في سبيل أن يضعوا هؤلاء في صدارة المشهد، ويصنعوا من بينهم رموزًا، وفق آليات صناعة النجم المعروفة، ما يضمن أن العائد من وراء هذا، مهما زادت كلفته، سيكون كبيرًا.

لا يخلو عهد من أمثال هؤلاء المتصدرين للمشهد بتدبير وربما تآمر، رغم أن أمثالهم يكونون في الغالب الأعم ليسوا أصحاب إنتاج ثقافي عميق وراسخ وغزير ونافع للناس حتى يكونوا جديرين بحيازة الصدارة، أو مستحقين لانهمار ما يقولونه أو يكتبونه أو يرسمونه على أسماع الناس وعيونهم ليل نهار.

كما أن هذا المسلك ليس جديدًا على الإنسانية، فمنذ الأزمنة الغابرة، وتتدخل السلطة السياسية لتنتصر لفكرة على أختها، ومذهب على أخيه، وأصحاب رؤية على منافسيهم أو مختلفين معهم. وليس أدل على هذا في تاريخ الحضارة الإسلامية أكثر من انتصار الخليفة العباسي المأمون للمعتزلة، ثم انكسارهم بعده، وتفضيل أغلب الخلفاء الأفكار التي كانت تدعو إلى طاعة ولي الأمر، أو على الأقل لا تصنع رؤى مناهضة له.

المبدع الحقيقي

وفي الزمن القديم حكمت المثقفَ، شاعرًا كان أو ناثرًا أو عالمًا، ظروفٌ معينة، فرضتها سلطة الحكم والمال، جعلت أشخاصًا أو فكرة أو مذهبًا أدبيًا وثقافيًا أو مسارًا علميًا يعلو على ما عداه. فالكتاب الذي كان يروق لخلفاء وأمراء وموسرين كانوا يدفعون للوراقين والنساخين ما يضمن إنتاج نسخ كثيرة منه، تكون على أرفف المكتبات وبأيدي المجايلين واللاحقين من المؤلفين، بما يعطي الكتاب وصاحبه فرصة للبقاء أو الخلود. والعكس صحيح تمامًا، فكم من كتب مهمة لم يستطع مؤلفوها تجهيز نسخ كثيرة منها فتآكل قليلها، ثم ضاع، وصار نسيًا منسيًا.

هذا الأمر تكرر في كل الحضارات، خاصة قبل اختراع المطبعة، أما بعده فقد ظهرت أسباب جديدة إضافية، لتغليب ثقافة على أخرى، ومثقف على آخر، منها الأيديولوجيات التي جعلت أتباعها يوسعون الدروب لكتّاب ينتمون إليها، ويعلون من شأنهم، ويقدمونهم على من هم أكثر منهم موهبة، وأغزر إنتاجًا، وأفيد للناس.

ورغم أن فرض الأسماء والأفكار الموالية لمشروعات استعمارية أو لسلطة أو لأيديولوجيات أو تلك المشمولة برعاية أموال على حساب أصحاب الاستحقاق والجدارة، يبدو عملية عابرة، إذ إن الإبداع الحقيقي هو ما يبقى في النهاية، فإن  مثل هذه التصرفات طالما ظلمت كثيرين من المثقفين في طريقها، وألقت بهم في الهامش البارد.

إن المبدع الموهوب الحر أو المستقل، وذلك المنحاز للناس، عليه أن يبذل جهدًا مضنيًا، ويجمع دومًا بين الجدية والإجادة والتجديد، في سبيل أن يبقى في المتن ولا يُلقى به في الهامش، وقد يغرق تمامًا في الظلام. وإذا كانت قلة من المبدعين تقاوم وتصمد وتراهن على الناس وتنتصر لإبداعها، فإن الأغلبية تنكسر وتنسحب في قنوط، وتكون الثقافة هي الخاسر، والأكثر خسارة هو المجتمع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات

إقرأ أيضاً:

السياسة والحكم في النُّظم التسلطية لسفوليك.. مقاربة لفهم آليات البقاء والصراع

يعد كتاب "السياسة والحكم في النُّظم التسلطية" لميلان دبليو سفوليك من الأعمال الأكاديمية البارزة التي أسهمت في تطوير حقل دراسات السلطوية، وذلك من خلال تقديمه إطارا نظريا تحليليا شاملا لفهم طبيعة الحكم السلطوي وآليات عمله الداخلية والخارجية، وقد صدر الكتاب عام 2012 باللغة الإنجليزية، ونقلته إلى العربية الأستاذة عومرية سلطاني بترجمة علمية دقيقة صدرت حديثا عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر.

يرتكز سفوليك في أطروحته الأساسية على أن السياسة في الأنظمة السلطوية تدور حول صراعين متوازيين: أولهما بين الحاكم والمحكومين، وهو ما يسميه بـ"مشكلة السيطرة التسلطية"، وثانيهما بين الحاكم والنخب التي تشاركه السلطة، وسماها بـ"مشكلة التقاسم التسلطي للسلطة". ويرى المؤلف أن هذين الصراعين يشكلان جوهر السياسة السلطوية، وأن فهم آليات حلهما يفضي إلى تفسير بنية النظام واستقراره وتحولاته.

وصدرت عن "الشبكة العربية للأبحاث والنشر" ترجمة كتاب "السياسة والحكم في النظم التسلّطية" لميلان دبليو سفوليك، في 320 صفحة، وقامت بالترجمة الأستاذة عومرية سلطاني. وصارت متوفرة في مكتبتي الشبكة العربية في بيروت واسطنبول. pic.twitter.com/UNNvmp2mYN

— الشبكة العربية (@NetworkArab) April 27, 2025

صراعات الأنظمة السلطوية

وتتعلق "مشكلة السيطرة التسلطية" بطريقة فرض النظام لسلطته على المجتمع وضبط الجماهير، في حين تتعلق مشكلة "التقاسم التسلطي للسلطات" بتوازن القوى داخل النخبة الحاكمة، وطريقة إدارة الصراعات الكامنة فيما بينها.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2مؤتمر الدوحة يسأل: هل الاستشراق الجديد امتداد أم قطيعة؟list 2 of 2"مؤسسة التصوف".. كتاب جديد يضيء الوجه الاجتماعي والاقتصادي للمتصوفين الإسلاميينend of list إعلان

وفيما يخص مشكلة السيطرة التسلطية يرى سفوليك أن الحاكم المتسلط يلجأ إلى أداتين أساسيتين لمواجهة التهديدات المنبعثة من القاعدة الشعبية، وهما: القمع والاستمالة، حيث يمثل القمع الاستخدام المباشر للعنف، أو التهديد به، لإسكات المعارضة وتحييد التهديدات المجتمعية، ويشمل هذا القمع طيفا واسعا من الممارسات، تبدأ بالرقابة وتنتهي بالتصفيات الجسدية، في حين تقوم الاستمالة على إدماج النخب والشرائح الاجتماعية في بنية النظام، سواء أكان ذلك من خلال الامتيازات المادية أو المناصب السياسية أو خلق مؤسسات تمثيلية شكلية، وتُستخدم هذه الأداة لتفكيك الحركات المعارضة واستباق اندلاع التوترات، غير أن كلفتها الاقتصادية والسياسية قد تكون باهظة، كما أنها قد تفضي إلى إضعاف قبضة النظام على المدى البعيد.

وفيما يتعلق بالمشكلة الثانية "مشكلة التقاسم التسلطي السلطة"، يركز سفوليك على أن النُّظم التسلطية لا تواجه فقط تهديدات من المجتمع، بل من داخلها أيضا، خاصة من النخب التي يتقاسم معها الحاكم السلطة، وفي ظل غياب سلطة محايدة تضمن الالتزام بالاتفاقات الداخلية، تصبح الانقلابات والعنف وسيلتين حاكمتين لحل النزاعات داخل النخبة. وللتحكم في هذه المعضلة، تتبع الأنظمة التسلطية 3 إستراتيجيات رئيسة:

أولا: مراكمة السلطة الشخصية، وهي محاولة الزعيم المركزي تقليص نفوذ شركائه تدريجيا، واحتكار أدوات القمع والقرار السياسي، وتعزز هذه الصيغة استقرار النظام على المدى القصير، غير أنها تجعله هشا ومفرط الاعتماد على شخصية الحاكم، ومن أبرز الأمثلة على هذه الإستراتيجية: حافظ الأسد في سوريا وصدام حسين في العراق. ثانيا: إرساء مؤسسات حاكمة شكلية أو جزئية تسمح بدرجات من التمثيل المؤسسي للنخبة دون تهديد لهيمنة الحاكم، وهي إستراتيجية تتيح توزيعا محدودا للسلطة يقي من تفجر الصراعات، كما في تجربة الحزب الشيوعي الصيني أو الحزب الثوري المؤسساتي في المكسيك. ثالثا: إدارة العلاقة مع النخب من خلال التهديد المتبادل، أي عن طريق التوازن الدقيق بين قدرة الزعيم على قمع النخب، وقدرة النخب على الإطاحة به، وهذا ما يفرض حالة من الردع المتبادل تحفظ استقرار النظام. إعلان

ما يميز رؤية الكاتب للنظم التسلطية رفضه للتصنيفات السائدة التي تعتمد على نماذج مثالية للنظم التسلطية، من مثل النظام العسكري، أو نظام الحزب الواحد، أو النظام الشخصاني، حيث يرى سفوليك أن مثل هذه التصنيفات البسيطة تتجاهل الطبيعة المتداخلة المعقدة للأنظمة السلطوية، إذ قد يجمع النظام الواحد في الغالب بين سمات متعددة، فمثلا، النظام السوري في عهد حافظ الأسد وابنه بشار، هو نظام عسكري، ونظام حزب واحد، ونظام شخصاني في آن معا.

ما بواعث السياسة في الدكتاتوريات؟ يحاج ميلان دبليو سفوليك بأن جل النظم التسلطية عليها أن تحلّ صراعين أساسيين
أولهما أنّ الدكتاتوريين يواجهون تهديدات من الجماهير التي يحكمون وتلك مشكلة السيطرة التسلطية. وثانيهما منفصل عن الأول وينشأ من النخب التي يحكم معها الدكتاتوريون#صدر_حديثا pic.twitter.com/luh3PlF5vt

— الشبكة العربية (@NetworkArab) May 5, 2025

مقاربة تحليلية

وسعيا من سفوليك للتغلب على محدودية النماذج النمطية، يقترح مقاربة تحليلية تعتمد على 4 معايير يمكن قياسها كميا:

درجة تدخل الجيش في السياسة. طبيعة القيود المفروضة على الأحزاب السياسية. طريقة اختيار السلطة التشريعية. طريقة اختيار السلطة التنفيذية.

ومن القضايا اللافتة التي ناقشها سفوليك في هذا السياق العلاقة بين السلطوية والديمقراطية، حيث يرفض النظر إليهما على أنهما طرفا نقيض على سلسلة أو طيف واحد، فهو يؤكد أن الفرق بين النظامين ليس فرق درجة، بل فرقا نوعيا، يتمثل أساسا في غياب سلطة محايدة تفرض احترام القواعد المتفق عليها، وتكريس مبدأ العنف بوصفه أداة سياسية مشروعة في السلطوية.

ويرى سفوليك أنه يمكن -من خلال هذه المعايير الأربعة- تصنيف النُّظم السلطوية بدقة أكبر، حيث يتم وضع كل نظام على سلسلة متصلة أو طيف تحليلي يتراوح بين درجة أدنى وأعلى في كل معيار من هذه المعايير. ويستند هذا التحليل إلى قاعدة بيانات واسعة شملت كل نظام سلطوي استمر ليوم واحد على الأقل بين عامي 1946 و2008.

إعلان

ويبين سفوليك من خلال استخدامه نظرية الألعاب أو نظرية اللعبة -وهي فرع في التحليل الرياضي، له تطبيقات في العلوم الاجتماعية وعلم السياسة والاقتصاد، يدرس طريقة اتخاذ القرارات في المواقف التي يكون فيها عدد من الأطراف يتفاعلون معا ويحاول كل منهم تعظيم مكاسبه مع توقع تصرفات الآخرين، كيف يتخذ الفاعلون السياسيون في النظم السلطوية قراراتهم بناء على توقعاتهم لسلوك الآخرين، في ظل غياب سلطة محايدة تضمن تنفيذ الاتفاقات، ويصبح العنف في هذه الحالة الحكم النهائي والمرجع لحسم النزاعات، الأمر الذي يضفي على السياسة السلطوية طابعا هشا وعنيفا.

يعتمد سفوليك في تحليله على أدوات نظرية الألعاب لفهم الخيارات الإستراتيجية للحاكم والنخبة والمعارضة في بيئة لا يحكمها قانون مستقل أو قواعد مؤسسية راسخة، بل تهديد دائم باستخدام العنف، وتظهر تحليلاته أن الطريقة التي يعالج بها النظام هاتين المعضلتين، السيطرة والتقاسم، تحدد شكل الحكم السلطوي، ودرجة استقراره، وإمكانية تحوله أو انهياره.

في ضوء الثورات التي اجتاحت العالم العربي يعتبر المؤلف أن سقوط رأس النظام لا يعني بالضرورة انهيار النظام السلطوي بأكمله (رويترز) النُّظم السلطوية ومآلاتها

ويستعرض سفوليك عدة سيناريوهات لتفاعل هذه التوترات:

في حين ينجح الزعيم في مراكمة سلطاته إلى الحد الذي لا تملك فيه النخب القدرة على مقاومته، يتحول النظام إلى أوتوقراطية شخصوية، كما حدث في حالة صدام حسين بالعراق، أو حافظ الأسد في سوريا.

وفي حال الوصول إلى تسوية مؤسسية بين الزعيم والنخب، فإن النظام يصبح أكثر استقرارا، كما في الصين المعاصرة أو المكسيك في عهد الحزب الثوري المؤسسي.

وقد أسهم هذا الإطار النظري في تفسير تنوع النُّظم السلطوية ومآلاتها، كما وفر أدوات تحليلية لفهم طرائق انهيار بعضها وأسباب ذلك، وطرائق وأسباب بقاء بعضها الآخر، ويؤكد سفوليك أن بناء مؤسسات داخل النظام السلطوي لا يعكس بالضرورة نية للتحول الديمقراطي، بل قد يكون آلية لإدارة الصراعات الداخلية وتحقيق الاستقرار دون التنازل عن احتكار السلطة.

إعلان

وفي ضوء الثورات التي اجتاحت العالم العربي عام 2011، يسلط المؤلف الضوء على مسألة في غاية من الأهمية، ينبغي التنبه لها وهي تأثير الماضي السلطوي الطويل على فرص التحول الديمقراطي، ويوضح أن مؤسسات الحكم السلطوي تخلف إرثا ثقيلا من الممارسات والقيود والهياكل التي لا تزول بزوال الحاكم فقط، لذا فإن سقوط رأس النظام لا يعني بالضرورة انهيار النظام السلطوي بأكمله، وهو ما تجسد في تجارب مثل مصر وتونس بعد الربيع العربي، حيث أعاقت القوى المتجذرة في الدولة إمكانية الانتقال السلس إلى الديمقراطية.

ويرى سفوليك أن ثورات الربيع العربي لا يمكن فهمها فقط بوصفها تعبيرا عن إرادة شعبية تسعى للتغيير، بل ينبغي تحليلها أيضا بعدّها اختبارا حاسما لبنية الأنظمة الداخلية السلطوية ذاتها، فكل نظام سلطوي واجه هذه الانتفاضات كشف عن مدى قدرته المؤسسية على مقاومة الصدمات السياسية، وعلى هذا يعلل سفوليك تباين نتائج الثورات بين الدول -من انهيار سريع للأنظمة كما في تونس، إلى صمود دام طويلا كما في سوريا– بناء على مدى تماسك المؤسسات السلطوية داخل كل نظام، وليس فقط بمدى حدة المعارضة أو مطالب الجماهير، فالتحول أو الثبات، في هذا المنظور، يعتمد على الترتيبات الداخلية للنظام أكثر من أنه نتيجة مباشرة لغضب شعبي.

وعلى إحكام البنية النظرية التي يقدمها سفوليك في أطروحته، فإن بعض الباحثين في مجال السياسة يشيرون إلى محدودية الكتاب لقصوره عن التفاعل مع العوامل الاقتصادية والاجتماعية، من مثل دور الطبقات، والدين، والاقتصاد السياسي، والحركات الاجتماعية، فضلا عن أن التركيز على النخب ودوائر السلطة قد يغفل ديناميات المقاومة المجتمعية من أسفل.

لكن تبقى مساهمة سفوليك بالغة الأهمية، إذ إنها قدمت نموذجا علميا دقيقا لتحليل السلطوية، مدعوما ببيانات تجريبية وشواهد تاريخية، الأمر الذي يجعل هذا العمل مرجعا لا غنى عنه للباحثين في العلوم السياسية والدراسات المقارنة.

إعلان

مقالات مشابهة

  • عاجل | مراسل الجزيرة: شهيدان ومصابون بنيران مسيرة إسرائيلية استهدفت خيمة نازحين غربي مدينة خان يونس
  • ترامب يزور الشرق الأوسط وعينه على بعض من السياسة وكثير من المصالح
  • ممارسات المحتل الإماراتي تهدِّد التنوع النباتي والحيواني الفريد وتعرِّض الجزيرة للخطر والتدمير
  • عاجل | مراسل الجزيرة عن مصدر طبي سوداني: 24 قتيلا و41 مصابا بنيران مسيرة للدعم السريع استهدفت سجن مدينة الأبيض
  • نائبة رئيس وزراء كوسوفو: دور كبير للمملكة في السياسة الدولية
  • مصر أكتوبر: الرئيس السيسي يرسخ مكانة مصر في السياسة الدولية
  • برلمانية: السياسة المصرية الخارجية متوازنة مع كل القوى العالمية
  • لعبة الساحات المفتوحة.. استدعاء 45 لاعبة لتدريبات المنتخب العراقي
  • السياسة والحكم في النُّظم التسلطية لسفوليك.. مقاربة لفهم آليات البقاء والصراع
  • إنطلاق أعمال مؤتمر المسؤولية الطبية وصناعة السياحة العلاجية