شخصية معروفة في العالم العربي بفضل خطابه الشهير الذي ألقاه أمام مجلس الأمن الدولي في عام 2003، والذي أعلن فيه رفض فرنسا لقيام تحالف دولي تقوده الولايات المتحدة بغزو العراق.

عاد من جديد بعد غيبة طويلة ليقول لنا بأنه "لم يعد بالإمكان تجاهل المجازر التي تحدث في غزة، والتي تشكل تهديدا حقيقيا للمنطقة بأسرها".



سياسي وشاعر وروائي وقانوني، يعتبر دعم حكومة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لدولة الاحتلال "فضيحة تاريخية".

دومينيك دوفيلبان المولود في عام 1953 في مدينة الرباط المغربية لعائلة ثرية، كان والده عضوا في مجلس الشيوخ عن الفرنسيين المقيمين في الخارج بالمغرب.

تلقى دوفيلبان تعليمه الابتدائي في المغرب ثم انتقلت الأسرة للعيش في فنزويلا حيث تلقى تعليمه الإعدادي هناك، وواصل تعليمه الثانوي متنقلا بين نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية وتولوز الفرنسية.

عاد إلى فرنسا ليلتحق بجامعة باريس حيث حصل على إجازتين واحدة في الأدب، وأخرى في القانون. ثم التحق بالمدرسة الوطنية للإدارة عام  1978.

وفي تلك الفترة انضم إلى "حزب التجمع من أجل الجمهورية" بزعامة جاك شيراك الذي أصبح أحد أقرب المقربين منه، وأسند إليه إعداد تقارير دورية عن السياسة الدولية والعلاقات الخارجية لفرنسا بحكم عمله في السلك الدبلوماسي.

ومع ترشح شيراك للرئاسة عام 1995، كان دوفيلبان حاضرا ومتوثبا للعمل في حملته الانتخابية، وكوفئ بعد فوز شيراك بتعيينه في منصب الأمين العام لرئاسة الجمهورية، وهو منصب مهم في الهرم التنفيذي الفرنسي.


ثم لاحقا عينه شيراك في عام 2002 وزيرا للخارجية، خلفا لخصمه وعدوه اللدود نيكولا ساركوزي، وذاع صيته بعد الكلمة التي ألقاها أمام مجلس الأمن الدولي وأكد فيها رفضه الغزو الأميركي للعراق، كما دخل في مساجلات مع وزير الخارجية الأميركي كولن باول، وفند الادعاءات الأميركية بعلاقات العراق بتنظيم القاعدة وامتلاكه أسلحة دمار شامل.

وضمن الصراع السياسي مع ساركوزي أصبح دوفيلبان رئيسا للحكومة الفرنسية بين عامي 2005 و2007 تعزيزا لمكانته السياسية على أمل أن يكون خليفة شيراك وأن يقطع الطريق على ساركوزي.

وحاول دوفيلبان حرق أوراق منافسه ساركوزي عبر الكشف عن تورطه في فضيحة "كليرستريم"، لكنها لم تعطي النتيجة المطلوبة إذ تبين زيف الوثائق التي قدمها، مما جلب عليه متابعات قضائية ظلت مستمرة حتى عام 2011 حيث برئ منها.

بعد نجاح ساركوزي في الانتخابات الرئاسية في عام 2007، غادر دوفيلبان المشهد السياسي وتفرغ للتأليف وكتابة الشعر، كما أصبح محاميا لدى محاكم باريس، وحاول خوض الانتخابات الرئاسية عام 2012 لكنه فشل في الحصول على التوقيعات اللازمة لذلك.

عرف دوفيلبان بالإضافة إلى كونه سياسيا صلبا، بأنه شاعر وروائي وكاتب، ومن أشهر أعماله: "المائة يوم أو روح التضحية" الذي يدور حول آخر أيام الإمبراطور نابليون بونابرت الذي يبدي دوفيلبان إعجابه بشخصيته وبإسهامه في مسار فرنسا السياسي والتاريخي. وأيضا كتاب "عالم آخر: مجموعة خطابات تتناول التغيرات السياسية على الساحة الدولية وغزو العراق والبناء الأوروبي"، وكتاب "تاريخ الدبلوماسية الفرنسية".

وقد تناولت عدة كتب سيرة دوفيلبان بشكل منفرد أو في إطار جماعي، ومنها كتاب "أشباح ساركوزي". كما صنع فيلما يتحدث عنه يحمل اسم "كي دورسيه" وهو فيلم من إخراج الفرنسي برتراند تافارنيه، وتدور القصة حول الخطاب الذي كان يحضر ليلقيه في الأمم المتحدة والذي يعلن فيه رفض فرنسا لاحتلال العراق من قبل الولايات المتحدة الأمريكية.

دوفيلبان الذي تفرغ للكتابة ولممارسة المحاماة بعيدا عن السياسة وجد نفسه مشدودا بخيوط خفية إلى ما يجري في قطاع غزة والمنطقة العربية، عبر إطلاق عدة تصريحات ومقالات ناقدة بشكل هجومي لما يقوم به رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو من جرائم.

ويعترف دوفيلبان بأنه "في أعقاب أحداث 7 أكتوبر(تشرين الأول)، اعترفنا جميعا بحق إسرائيل في حماية أمنها والدفاع عن نفسها"، لكن "هذا الحق لا يجب أن يفسر كإذن غير محدود للقصف والتدخل والاستهزاء بأمن الدول المجاورة"، موضحا بأنه "لا يمكن السماح لرئيس الوزراء الإسرائيلي بإدخال بلاده في متاهة الحرب المستمرة".


كان صوت دوفيلبان أكثر شجاعة وقوة في مقال نشرته له صحيفة "لوفيغارو" حين قال بكل وضوح وغضب "إن من واجب فرنسا أن ترفع صوتها في وجه المجازر المرتكبة في غزة"، دعوة يطلقها معتبرا إياها "صحوة ضمير".

لا تعجبه فرنسا الحالية وموقفها من الجرائم في غزة معتبرا أن "الوعي المشوه وعدم فهم المصالح الحقيقية والخضوع لقانون الأقوى هو ما سيخنق صوت فرنسا. صوت الجنرال ديغول الذي هز العالم في حرب 1967، صوت شيراك بعد الانتفاضة الثانية" بحسب قوله.

وتساءل الديغولي العنيد "أي منطق ذلك الذي يفسر لنا دعوة فرنسا لضبط النفس بينما يقتل الأطفال عمدا، كيف نفهم موقف فرنسا الرافض لإجراء تحقيق دولي حول جرائم الحرب المرتكبة، كيف نفهم الموقف الفرنسي الذي كان أول المعبرين عنه رئيس الجمهورية والذي أيد دون تحفظ سياسة إسرائيل في الحفاظ على أمنها".

يوجه دوفيلبان رسالة صادمة لمن يحاوره من الصحفيين الغربيين حين يؤكد له "هناك إرهاب في فلسطين والضفة الغربية، إرهاب منظم ومنهجي يقوم به الجيش الإسرائيلي".

ويلاحظ مثل غالبية العالم الازدواجية في المعايير التي يطبقها الغرب في أوكرانيا والشرق الأوسط، فأكثر ما يواجهه في  رحلاته الأخيرة إلى أفريقيا، وفي الشرق الأوسط أو أمريكا اللاتينية، الانتقاد نفسه دائما، " يقولون لي انظر إلى الطريقة التي يعامل بها السكان المدنيون في غزة، أنتم تدينون ما حدث في أوكرانيا، ولكنكم تصمتون في مواجهة المأساة التي تجري في غزة، هل توافق على ذلك؟".

ويبدي موافقته لما يقوله الجنوب العالمي بقوله " نحن نعاقب روسيا عندما تهاجم أوكرانيا، ونعاقب روسيا عندما لا تحترم قرارات الأمم المتحدة، ولكن وعلى مدى 70 عاما يتم التصويت على قرارات الأمم المتحدة، عبثا، ولم تحترمها إسرائيل".

يدعو إلى الانتباه والقلق لأن القضية الفلسطينية التي لم تطرح على الطاولة ولم تسلط عليها الأضواء " تظل بالنسبة للشعوب العربية أم المعارك" بحسب قوله.

يعد دو فيلبان من الأصوات الشجاعة في فرنسا التي نددت بجرائم الاحتلال في قطاع غزة، وواجه بحزم حملة اتهامه بـ"معاداة السامية" في محاولة لتهميشه سياسيا. في الوقت ذاته، يحذر الغرب من أن سياسة التساهل مع نتنياهو بشأن ما ترتكبه من جرائم سينعكس سلبا على الغرب في وقت تتغير فيه الخريطة الجيوسياسية العالمية.

يواصل دومينيك دو فيلبان تمييز نفسه عن الخطاب السياسي الرسمي السائد في فرنسا تجاه الحرب على غزة، ويقف في وجه تيار رسمي جارف واصفا الحرب بأنها "أكبر فضيحة تاريخية لم يعد أحد يتكلم عنها في فرنسا وفي الإعلام المحلي".

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي عالم الفن كاريكاتير بورتريه بورتريه فرنسا غزة دوفيلبان فرنسا غزة الإبادة دوفيلبان بورتريه بورتريه بورتريه بورتريه بورتريه بورتريه سياسة سياسة عالم الفن عالم الفن عالم الفن عالم الفن عالم الفن عالم الفن سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی عام فی غزة

إقرأ أيضاً:

«فلسطين 36»... بريطانيا وجذور المجزرة

ترجمة: بدر بن خميس الظفري

كل من يحاول فهم سبب استمرار الدولة البريطانية ووسائل إعلامها ـ رغم ادعائها القيام بدور الرقابة على السلطة ـ في تبرير الجرائم التي ترتكبها إسرائيل بحق المدنيين في غزة، سيجد الإجابة في فيلم جديد.

الفيلم لا يروى أحداث اليوم، بل يعود إلى حكاية تعود إلى ما يقرب من تسعين عامًا.

فيلم «فلسطين 36»، من إخراج المخرجة الفلسطينية المبدعة آن ماري جاسر، يكشف من التفاصيل المرتبطة بالأحداث الجارية في غزة خلال العامين الأخيرين ما هو أعمق بكثير مما يمكن للقارئ أن يجده في أي صحيفة بريطانية، أو أن يشاهده على شاشة قناة «بي بي سي»، هذا إن وجد أصلًا أي تناول يُذكر لغزة منذ أن أعاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب توصيف عمليات القتل والتهجير المستمرة بأنها «وقف إطلاق نار».

يمتاز الفيلم ـ على غير العادة في الأفلام الفلسطينية ـ بميزانية تُضاهي أعمال هوليوود الكبرى، وبمشاركة ممثلين معروفين لدى الجمهور الغربي، مثل جيريمي آيرونز وليام كننغهام.

إن الفيلم محطة مفصلية من التاريخ الاستعماري البريطاني لا تُروى هذه المرة من زاوية المستعمر، بل من زاوية ضحاياه. الرقم «36» في العنوان يعود إلى عام 1936، عندما انتفض الفلسطينيون ضد بطش الاستعمار البريطاني، الذي يُشار إليه عادة ـ وبشكل مضلل ـ باسم «الانتداب البريطاني» الصادر عن «عصبة الأمم».

لم تكن المشكلة بالنسبة للفلسطينيين مقتصرة على عنف الاحتلال البريطاني المنهجي على مدى ثلاثة عقود، بل إن الدور الذي أدّته بريطانيا كمفوَّضة بحفظ السلام بين الفلسطينيين والسكان اليهود القادمين حديثًا، كان غطاءً لمشروع أشد خطورة.

فالبريطانيون هم من فتحوا الطريق أمام اليهود للخروج من أوروبا ـ حيث لم تكن ترغب فيهم حكومات تحمل نزعات عنصرية، ومنها بريطانيا نفسها ـ ليُزرعوا في فلسطين. وهناك جرى إعدادهم ليكونوا القوة المسلحة للدولة اليهودية المقبلة، دولة أرادتها بريطانيا تابعة لها، تدفع بمشروعها الإمبراطوري في المنطقة.

باختصار، كانت الإمبراطورية البريطانية المثقلة بأعبائها تأمل أن تُوكل مهامها الاستعمارية تدريجيًا إلى «دولة يهودية» حصينة. كان أحد أهم أولويات بريطانيا هو سحق موجة القومية العربية التي اجتاحت بلاد الشام ردًّا على الحكم الاستعماري البريطاني والفرنسي. والقومية العربية حركة سياسية علمانية وحدوية، تسعى إلى تجاوز الحدود التي رسمتها القوى الاستعمارية، وترسيخ الهوية العربية في مواجهة الهيمنة الأجنبية. ولهذا السبب كانت بريطانيا وفرنسا على عداء شديد معها. كما أن موقع فلسطين كان بالغ الأهمية؛ لكونها صلة الوصل بين مركزَي الحركة القومية في لبنان وسوريا شمالًا، ومصر جنوبًا. ولهذا كان لا بد ـ في نظر بريطانيا ـ من إخماد روح التحرر في فلسطين بأي ثمن، إلا أن القمع المفرط لم يُسكت الفلسطينيين، بل غذّى ثورة أخذت شكل انتفاضة كبرى عام 1936، عُرفت في الغرب باسم «الثورة العربية» واستعادها الفلسطينيون كأول «انتفاضة» لهم.

لاحقًا، ستشهد فلسطين انتفاضتين كبيرتين ضد استعمار استيطاني أكثر قسوة وفظاعة، هما انتفاضة 1987 وانتفاضة عام 2000. وقد كبرت ثورة 1936-1939 إلى حد أنّ عدد الجنود البريطانيين في فلسطين الصغيرة فاق، في ذروتها، عدد الجنود البريطانيين في الهند كلّها، وفق ما يذكره المؤرخ الفلسطيني رشيد الخالدي.

وهذه القصة التي يرويها فيلم «فلسطين 36» ليست جزءًا من مناهج المدارس البريطانية، ولا تُطرح في وسائل إعلامها بوصفها خلفية ضرورية لفهم ما يجرى اليوم في فلسطين التاريخية. ولهذا سيصدم كثير من البريطانيين عند مشاهدة الفيلم من حجم العنف الاستعماري الذي مارسته بلادهم، كما سيكتشفون التشابه الصارخ بين ذلك السلوك وبين ما يحدث اليوم في غزة.

الفيلم يقدّم تذكيرًا قويًا بأن فئة من الناشطين لا تزال تصف وحشية إسرائيل تجاه الفلسطينيين بأنها استثناء، أو ظاهرة خاصة بالنظرية الصهيونية وحدها.

لكن فيلم المخرجة جاسر يثبت خطأ هذا التصور؛ فالعنف الاستعماري الإسرائيلي اليوم ليس سوى نسخة مطوّرة أكثر تقدمًا وتكنولوجيا من الأساليب التي استخدمها الاحتلال البريطاني قبل قرن تقريبًا. والجيش الإسرائيلي ـ وهنا المفارقة ـ تعلّم هذه الأساليب من البريطانيين، بشكل حرفي.

أحد أبرز الشخصيات في الفيلم هو الضابط البريطاني أورد وينغيت، الذي كان يقود غارات ليلية على القرى الفلسطينية لبث الرعب بين سكانها. وكان وينغيت يشرف على تشكيل فرق عقابية من الجنود البريطانيين وعناصر الميليشيات اليهودية الوافدة حديثًا، لتطبيق «استراتيجيات الحرب الهجينة» التي أصبحت لاحقًا أساس العقيدة العسكرية الإسرائيلية.

وعندما توفي وينغيت في حادث طائرة ببورما عام 1944، نعاه ديفيد بن غوريون، مؤسس دولة إسرائيل، قائلاً إن «وينغيت لو عاش، لأصبح أول رئيس لأركان الجيش الإسرائيلي».

ويُظهر الفيلم وينغيت وهو يرتكب جرائم حرب بشكل روتيني مثل استخدام طفل فلسطيني كدرع بشري، وجمع النساء والأطفال في ساحة مكشوفة محاطة بالأسلاك الشائكة وحرمانهم من الماء تحت حرّ الشمس، وإحراق المحاصيل، وتفجير حافلة تقلّ رجالًا فلسطينيين اعتقلهم عشوائيًا.

كما يبرز الفيلم دور الضابط البريطاني تغارت، الذي استورد إلى فلسطين تصميم الحصون العسكرية التي كان قد بناها في الهند لقمع الانتفاضات هناك. هذه الحصون أصبحت النموذج الأولي للجدران والأسوار ونقاط التفتيش التي شطّرت فلسطين اليوم، وحوّلتها إلى شبكة من السجون المفتوحة، وفي مقدمتها سجن غزة الكبير.

ومع متابعة مشاهد الفيلم التي تظهر الإذلال والقتل على أيدي القوات البريطانية، تتضح الأسباب التي دفعت كل جيل فلسطيني إلى حالة أعمق من الغضب واليأس.

فقمع بريطانيا الوحشي لثورة 1936 مهّد مباشرة لمسار طويل انتهى بانفجار السابع من أكتوبر 2023 على يد حركة حماس، وما أعقب ذلك من حملة إبادة استعمارية تشنّها إسرائيل اليوم. ومن المؤكد أنّ هذه الإبادة لن تُخضع هذا الجيل من الفلسطينيين، تمامًا كما لم تُخضع أجيالًا سبقتهم في الثلاثينيات. إنها فقط تعمّق الجراح، وتزيد الإصرار على المقاومة.

ويتناول الفيلم أيضًا ـ وإن بطريقة غير مباشرة ـ الدور الذي قامت به بريطانيا في ترسيخ نزعة أيديولوجية متطرفة يُنسب ظهورها اليوم غالبًا إلى إسرائيل وحدها.

فقد كان إخضاع الضابط البريطاني أورد وينغيت للفلسطينيين بوحشية، ونظرته إليهم بوصفهم كائنات أدنى من البشر، مقابل تعلقه الشديد باليهود، نابعًا من إيمانه بأيديولوجيا الصهيونية.

وغالبًا ما يُغفل أن الصهيونية، قبل أن تتحول إلى قومية يهودية حديثة، كانت راسخة منذ قرون في وجدان تيارات مسيحية أوروبية اعتقدت أن «إعادة» اليهود إلى موطنهم القديم خطوة ضرورية لتحقيق نبوءات «نهاية الزمان» التي ستمهّد، وفق معتقداتهم، لعودة المسيح وإقامة ملكوته على الأرض. ومن بين هؤلاء المسيحيين الصهاينة كان اللورد بلفور، صاحب «وعد بلفور» عام 1917 الذي تعهّد بإقامة «وطن قومي» لليهود في فلسطين.

أما الشعب الفلسطيني ـ الذي تشير دراسات جينية إلى أن كثيرًا من أفراده ينحدرون من الكنعانيين القدماء الذين عاشوا في المنطقة منذ آلاف السنين ثم اعتنقوا المسيحية والإسلام لاحقًا ـ فقد كان يُنظر إليه لدى أمثال وينغيت بوصفه عقبة أمام تحقيق النبوءة الإلهية. وإذا لم يُخلوا وطنهم «طوعًا» لإفساح المجال لليهود، فعليهم أن يُجبروا على ذلك.

وقد دفعت الصهيونية الحديثة الإسرائيليين إلى الاتجاه نفسه؛ إذ تُظهر استطلاعات الرأي تزايد التأييد لأفكار تقوم على التطهير العرقي وإبادة الفلسطينيين. وتزخر منصات التواصل الاجتماعي بمنشورات لجنود إسرائيليين يتباهون فيها بممارساتهم الوحشية تجاه سكان غزة.

ويعيد الفيلم ربط هذه الأصول الفكرية بما يجري اليوم. فالمراجعات النقدية للفيلم في الصحافة البريطانية جاءت باهتة؛ حتى صحيفة «الغارديان» الليبرالية اكتفت بوصفه بأنه «مؤثّر»، في لهجة تشبه مواساة طفل كتب موضوعًا مدرسيًا متواضعًا.

وليس ذلك مستغربًا؛ فالمؤسسة البريطانية، تمامًا كالمؤسسة الأمريكية التي ورثت دور «شرطي العالم» بعد الحرب العالمية الثانية، ما زالت تنظر إلى القومية العربية بوصفها تهديدًا، وإلى إسرائيل بوصفها مركزًا استعماريًا مهمًا، وإلى فلسطين بوصفها مختبرًا لأساليب الرقابة والتصدي للانتفاضات، وما زالت ترى الفلسطينيين أقل شأنًا من البشر.

ولهذا لم يتردد رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر في الدفاع عن قرار إسرائيل منع الغذاء والماء والكهرباء عن سكان غزة بمن فيهم مليون طفل، أي تجويعهم في مخالفة صريحة للقانون الدولي.

ولهذا السبب يواصل ستارمر ومؤسسات الدولة البريطانية إرسال السلاح لإسرائيل وتزويدها بالمعلومات الاستخبارية التي تستخدمها في استهداف المدنيين، كما رحّب بالرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ في مقر رئاسة الحكومة بعدما أعلن الأخير أنه لا وجود لـ«مدنيين غير متورطين» في غزة.

ولهذا لا تزال القوات البريطانية تدرّب الضباط الإسرائيليين داخل المملكة المتحدة، كما يفعل الضباط البريطانيون الذين يسافرون إلى إسرائيل للتدرّب على أساليب جيشها. ولهذا أيضًا تواصل بريطانيا توفير الحماية الدبلوماسية لإسرائيل وتهديد المحكمة الجنائية الدولية بسبب سعيها إلى محاسبة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على جرائم ضد الإنسانية في غزة. ومن هنا أيضًا جاء تعديل حكومة ستارمر لتعريف الإرهاب داخل بريطانيا بغرض تجريم من يعبر عن رفضه للإبادة المرتكبة في غزة.

والحقيقة أن الحكومة والمدارس ووسائل الإعلام في بريطانيا لم تعد مصادر يمكن الاتكال عليها لفهم التاريخ الاستعماري البريطاني، سواء في فلسطين أو في أي من البلدان التي مارست بريطانيا ضدها القهر عبر العالم. وإذا أردنا فهم الماضي والحاضر معًا، فلا بد من الإصغاء أولًا إلى ضحايا ذلك العنف.

مقالات مشابهة

  • روبيو: ندعم سوريا السلمية المزدهرة التي تنعم بسلام
  • ترامب يحذر الدول التي تغرق الولايات المتحدة بالأرز الرخيص
  • «فلسطين 36»... بريطانيا وجذور المجزرة
  • العليمي يبحث مع سفراء فرنسا وبريطانيا وأمريكا أوضاع المحافظات الشرقية
  • مرصد الأزهر: نائب فرنسي يدعم مسلمي فرنسا ردًا على استطلاع متحيز وهجمات المساجد
  • مذكرات سجين.. كيف واجه «ساركوزي» العزلة وحماية الأمن في السجن؟
  • طبيبتان فلسطينية وسورية في مواجهة اللوبي الصهيوني (بورتريه)
  • وزارة الخارجية تدين المجزرة البشعة التي ارتكبتها المليشيا المتمردة في منطقة كلوقي
  • حصري لـCNN.. تفاصيل مفاجئة بقضية القارب الذي ضربته القوات الأمريكية في الكاريبي: لم يكن متجها إلى الولايات المتحدة
  • جائزة فيفا للسلام لـ ترامب.. حسام حسن يرفع سقف طموحات مصر قبل معركة مونديال 2026