لا يتناول كثيرون في البلاد العربية مسألة علاقة اللغة بعلم النفس أو بالتحليل النفسي خصوصا، مع أن هذا الأخير لا يكاد يكون ممكنًا من غير فهم جيد للغة؛ فكيف قد يستطيع طبيب نفسي أن يشخّص أحدًا دون جملة من الأسئلة يطرحها عليه ليسبر أعماقه ويلقي نظرة فاحصة إلى مكنونه؟
وأعتقد أن قصور الاهتمام في مواضيع كهذه ليس في الحقيقة نابعا من صعوبتها في السياق الأكاديمي ولا من تعذّر آلات التحليل فيها، وإنما هو نابع برأيي من أمرين اثنين: الأول هو النظرة السطحية إلى اللغة بوصفها مجرد وعاء لأفكار الإنسان شأنها شأن الإناء الذي يُحمَل فيه الطعام، وهذه نظرة مجردة بعيدة عن الصحة في سياق اللغة؛ فرغم اختلاف باحثي وعلماء اللسانيات في هذا الشأن، إلا أن أكثر الخلاصات البحثية تثبت وجود تشابك أعمق بين اللغة وتفكير الإنسان، وتأثير أبعد مدىً للمدخلات اللغوية في سلوكيات البشر.
ولا يمكننا الحديث عن علم النفس دون ذكر (سيغموند فرويد)، الطبيب النمساوي المؤسس للتحليل النفسي ورائد علم النفس الحديث، ولكن حتى فرويد نفسه أسيئت قراءته من قبل كثير من دارسيه، الأمر الذي جعل هذه العلاقة التي لم ينفكّ فرويد يصرّح ويلمّح بها في كتبه غائبةً عن دائرة الضوء، حتى جاء المحلل النفسي الفرنسي (جاك لاكان) الذي أعاد قراءة فرويد قراءة فاحصة لم يستطع خلالها إلا الانبهار بهذا التشابك الهائل بين شؤون الكلمات وشؤون النفس في مؤلفات النمساوي فرويد، لاسيما فيما يتعلق بالجزء اللاواعي من النفس «اللاشعور منتظم بنيويًّا على هيئة لغة». وفي هذا يقول لاكان عن كتاب تفسير الأحلام لفرويد: «افتحوا أي صفحة من صفحات هذا الكتاب، فلن تجدوا فيها إلا حديثا عن شؤون الكلمات»، بل إنه يصل للقول إن مؤسس اللسانيات البنيوية (دي سوسير) لم يكن إلا «ناقلاً متحمّسًا» وليس مخترعًا لقوانين البُنية، وإنما يعود الفضل في ذلك إلى مؤسس التحليل النفسي. كما أنّ الفرنسي لاكان خلَص إلى فكرة مثيرة للاهتمام وهي أن اللغة سابقة على الذات، وأن الطفل على حد قوله لا يصبح ذاتًا إنسانية إلا بعد دخوله النسق الرمزي للثقافة وهو اللغة، وهو جواب لاكان عن سؤال: أيهما يصنع الآخر، هل الإنسان يصنع اللغة أم اللغة تصنع الإنسان؟ فاللغة عند لاكان ليست مجرد أداة يستخدمها الإنسان للتعبير، بل هي التي تشكّل ذاته وهويّته، وفي ذلك قال: «الدالّ هو ما يمثّل الذات لدالٍّ آخر» مشيرًا إلى أن هوية الإنسان وذاته تتشكل من خلال شبكة الدوال (الكلمات والرموز) التي تتفاعل فيما بينها.
ولكن ما هي مظاهر هذا التشابك بين اللغة والنفس وكيف بوسعنا أن نفيد منها؟ وجد فرويد أن اللغة تشبه القناة التي تتسرب منها مكونات اللاوعي الإنساني، وقد تجلى ذلك في عدة ظواهر لغوية، منها مثلاً زلّات اللسان، تلك الأخطاء العفوية التي اعتبرها فرويد خيانات من اللاوعي تكشف عن مخاوف أو رغبات مكبوتة. وبالحديث عن أبعاد العلاقة بين اللغة وعلم النفس تجدر الإشارة إلى دورين مهمّين تلعبهما اللغة في هذا الحقل، دور تشخيصي ودور علاجي، فبالنسبة للأول تمثل اللغة أداة تشخيصية بالغة الأهمية في التحليل النفسي، ومن أشكال ذلك: تحليل المحتوى للموضوعات التي يتحدث عنها المريض وتلك الموضوعات التي يتجنبها، ودراسة الأسلوب اللغوي الذي يكشف عن سمات الشخصية واضطراباتها، مثل الخطاب المتشظي عند مرضى الذهان، والخطاب المتماسك ظاهرياً لكنه فارغ دلالياً عند مرضى الهستيريا، والدقة المفرطة والتكرار عند الوسواس القهري. وبالنسبة للعلاج، فإن العملية العلاجية في التحليل النفسي تعد لغوية بامتياز، ومن خطواتها: تحويل المعاناة من حالة جسدية أو عاطفية غامضة إلى كلمات، ثم يأتي دور إعادة الصياغة حيث يساعد المعالج المريض على إعادة صياغة قصته الشخصية بلغة جديدة وفهم إيجابي مختلف لتجاربه، كما من المهم كسر الصمت، ومحاولة إثارة الحديث عن الصدمات التي ظلت حبيسة الكتمان طويلا. ومع تطور علم النفس اللغوي ظهرت تطبيقات عصرية في كلا الجانبين التشخيصي والعلاجي، أفادت من السجلات الكثيرة للمرضى لملاحظة أنماط تشخيصية، لتفحص لغة المريض بشكل أكثر دقة وترفد المعالج بوسائل لغوية تمثل طرقا أنجع للعلاج.
وهذا غيض من فيض يصوّر لنا أهمية اللغة ومحوريّتها في فهم النفس البشرية وحتى في صنع الشخصية وبنائها، فكم لها من تطبيقات عملية ينتبه لها البعض ويغفل عنها الكثيرون، وكم استُخدمت تطبيقات علم اللسانيات لبناء وعيٍ وهدم آخر، ونخر حضارة وإرساء أخرى، وهذا ما يجعل دول الاستعمار أكثر ريادةً في أبحاث علم اللسانيات لمعرفتها بقوة هذا السلاح، فمن لا لغة له لا ذاكرة له، ومن لا ذاكرة له لا حضارة له.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: التحلیل النفسی بین اللغة علم النفس فی هذا
إقرأ أيضاً:
سنغافورة تدعو إلى ضبط النفس مع تصاعد الاشتباكات بين تايلاند وكمبوديا
دعت وزارة الخارجية السنغافورية اليوم الأربعاء كلا من تايلاند وكمبوديا إلى ممارسة ضبط النفس والتوصل إلى حل للخلافات بينهما من خلال الحوار والمفاوضات، وذلك وسط تصاعد الاشتباكات على الحدود بين البلدين.
وأضافت الوزارة - حسبما ذكرت شبكة "تشانيل نيوز آشيا" في نشرتها الناطقة بالإنجليزية - أن هذا سيكون أمرا مهما للعلاقة طويلة الأمد بين البلدين وأيضا رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان).. معربة عن قلقها البالغ إزاء استئناف الاشتباكات على طول الحدود التايلاندية - الكمبودية والتقارير التي تفيد بسقوط ضحايا من الجانبين.
ونصحت الوزارة السنغافوريين بتأجيل السفر إلى مناطق النزاع في المناطق الواقعة على الحدود بين تايلاند وكمبوديا، كما طالبت رعاياها في البلدين بالالتزام بنصائح الحكومات المحلية وتوخي الحذر من أجل سلامتهم الشخصية.
ويتبادل الجانبان الاتهامات بشأن انتهاك بنود اتفاق السلام الذي وقعه رئيس الوزراء التايلاندي أنوتين تشارنفيراكول ورئيس الوزراء الكمبودي هون مانيت في شهر أكتوبر الماضي بحضور الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.