كيف يصوغ الشرع مخرجًا لسوريا الجديدة؟
تاريخ النشر: 10th, May 2025 GMT
ما إن انتهت الترتيبات الأساسية لحكومة الشرع حتى بدأت تظهر إلى السطح تحديات جديدة لها تضاف إلى التحديات التي ظهرت منذ اللحظات الأولى، متمثلة في التمرّد الفاشل في الساحل الذي قام به فلول النظام يوم 6 مارس/ آذار 2025، وتداعياته التي عرفت بأحداث الساحل، ثم تنسيق بين أطراف سورية أخرى شرق وجنوب سورية تسعى لإضعاف الحكومة المركزية مع دول تسعى لزعزعة الحكم، وأخيرًا بناء مؤسسات الجيش واحتواء القوى العسكرية الثورية المشاركة في عملية ردع العدوان.
                
      
				
وبعد مرور نحو خمسة أشهر على سقوط النظام ومن السعي الدؤوب مع الحلفاء الإقليميين والدوليين لا يزال موضوع الاقتصاد يراوح مكانه، والعقوبات الأميركية المعيقة ما زالت باقية، وما خفف منها لم تظهر آثاره بعد، وكان على الشرع أن يتبنّى إستراتيجية فعالة لمواجهة تلك التحديات.
بناء القوة من خلال السلامفي البداية استند الرئيس الشرع في مواجهة تلك التحديات إلى مبادئ أساسية لا تمثل إستراتيجية متكاملة، إلا أنها أخذت تتبلور مع الوقت وتسارع الأحداث، حتى أصبح بالإمكان النظر إليها كإستراتيجية واضحة المعالم، وبالتزامن مع نضوج هذه الإستراتيجية، يمكن ملاحظة أن ملامح الشخصية العسكرية المتسلحة بالقوة والتي ظهرت خلال معركة ردع العدوان أخذت بالتواري منذ اليوم الأول لصالح شخصية رجل الدولة.
لقد لاحظ الشرع بشيء من الواقعية أن مزيدًا من الحرب لن يؤدي إلى السلام بالضرورة، بل إلى تأجيل بناء الدولة، بل واحتمال انهيارها، وأن اللحظة التي أحدثها التغيير يجب ألا تنفد قبل استغلالها كاملة لاستعادة الدولة وعلاقاتها الدولية، وتنظيف البيئة المحلية والإقليمية المسمومة التي تسببت بها سياسات النظام السابق، إذا ما أراد تحقيق تقدم في استقرار الدولة، واستعادة مكانتها في المجتمع الدولي.
إعلانوجد الشرع كذلك أن الاستناد إلى السلام هو المدخل لبناء القوة، وأن استخدام المزيد من القوة لبناء الدولة سيكون بمنزلة تحطيم ما تبقى من القوة فيها، فقرر استخدام السلام وتصفير المشاكل إلى الحدود القصوى؛ باعتبار ذلك أنسب طريق لاستقرار الدولة وإعادة التموضع في العلاقات الخارجية.
هكذا بدأ سريعًا بالتحرك بالاستعانة بالحلفاء، لإنشاء علاقات دولية جديدة والتعريف بهُوية الحكم الجديد وسياساته العامة، آخذًا بالحسبان تهدئة المخاوف الناشئة عن الخلفية الأيديولوجية، وبالتزامن أخذ يرسل رسائل إلى كافة الدول المعني بها، عبر التصريحات ووسائل الإعلام، وقد نجح في تقديم ذلك، وفاجأ الجميع بالانفتاح والرغبة في بناء سوريا المستقرة، ومنْع أن تكون منطلقًا للهجمات أو الإضرار بالدول الأخرى، والتركيز على المستقبل والتنمية بدل الماضي، وأظهر عقلانية واعتدالًا على غير المتوقع.
الاستناد إلى نفوذ الحلفاءعكس الشرع جميع السياسات الخارجية التي طبقها بشار الأسد، ونجح في تسويق صورة عن سوريا جديدة يطمح الجميع أن يكون مثلها، ولكن ذلك ما كان ليتحقق بسرعة كبيرة لولا مساعدة الحلفاء.
فالواقع أن الشرع استند إلى ثلاث دول رئيسية معنية أكثر من غيرها بتحقيق الاستقرار في سوريا، وتثبيت نتائج التحول الرئيسية المتمثلة في طرد الإيرانيين من سوريا، ووقف تدفق السلاح إلى حزب الله، وإنهاء التهديد الدولي المتمثل في صناعة وتصدير الكبتاغون إلى دول الإقليم والعالم، وتفكيك شبكاته، وإنهاء أزمات المنطقة التي تحول دون تنميتها، وفتح أفق جديد لها، هذه الدول التي استند لها هي: تركيا، والسعودية، وقطر.
كانت دول المنطقة قد تلقت خبر سقوط النظام وصعود الحكم الجديد بحذر ملحوظ، باستثناء تركيا وقطر، وأدرك الشرع منذ اللحظة الأولى الحاجة إلى حامل عربي مكافئ للحامل الإقليمي التركي.
كانت تركيا أول دولة أرسلت مسؤولًا رفيعًا إلى دمشق في الأيام الأولى لسقوط النظام، كان هذا أمرًا مفهومًا، فقد كانت تركيا حليفة للمعارضة وحاضنة لها في سنوات الثورة الأربع عشرة، ولكن التخلص من إرث نظام الأسد وتصفير المشاكل يتطلب احتضانًا عربيًا يتيح من جهة فرصة للتكافؤ والتوازن الإقليمي بين الشمال والجنوب، وفي نفس الوقت يكون بوابة للاحتضان العربي الشامل، وأساسًا لتبديد المخاوف، وهو أمر سيجنّب البلاد تكلفة نشوء سياسة المحاور والاستقطاب.
إعلانساعدت تركيا وقطر في التمهيد لعلاقة جديدة مع المملكة، وفي الوقت نفسه أظهر الشرع وفريقه رغبة كبيرة بالعلاقة مع المملكة السعودية، وأرسل بالتزامن رسائل عديدة وتصريحات مختلفة تهدف للتأكيد على أن دمشق تسعى لعلاقات استثنائية مع المملكة، ولم يأخذ الأمر وقتًا طويلًا حتى استضاف ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الشرع وبدأت مرحلة جديدة.
ومع يقين المملكة بأن احتضان الحكم في دمشق في مصلحتها ومصلحة المنطقة لم تتردد في تقديم الدعم السياسي والمالي اللازم لإعادة سوريا إلى العالم، ورفع العقوبات المطبقة عليها بسبب سياسات الأسد القمعية في سنوات الثورة.
مع إعادة التموضع السوري في العلاقات الدولية، وتوسع الاحتضان العربي والأوروبي، وتزايد الاهتمام بترسيخ الاستقرار في سوريا لتعزيز نتائج التغيير الحاصل في الحكم، صارت الأرضية مواتية للعمل على رفع العقوبات بالتعاون والاستناد إلى الحلفاء، وقد تمّ بالفعل رفع معظم العقوبات الأوروبية، أو تجميدها أو تخفيفها، وبقيت العقوبات الأميركية تشكل العقبة الرئيسية.
ولا تزال الحكومة تعمل مستعينة بكل أوراقها وعلاقاتها الدولية الجديدة من أجل إزالة العقوبات الرئيسية منها، وبشكل خاص المتعلقة بالبنك المركزي ونظام سويفت للتحويلات المالية، وتفكيك المقاربة الأميركية الحذرة والمتأثرة بالمقاربة الإسرائيلية في التعامل مع الحكم الجديد بدمشق.
الاستناد إلى شرعية الثورةعلى الرغم من أن علاقة هيئة تحرير الشام بالثورة السورية شهدت تطورات وعلى مراحل مختلفة، فإنها في نهاية المطاف تبنَّت علم الثورة بينما كانت تعد وتخطط لعملية ردع العدوان التي أنهت نظام الأسد.
وحين انتصرت قوات قيادة العمليات العسكرية، كان الشرع بحاجة لتوسيع القاعدة الاجتماعية لتوطين الحكم الجديد، ولم يكن هذا ممكنًا دون أن يتم نسبة النصر إلى تراكم طويل من النضال منذ أول يوم لاندلاع الثورة في 2011، وليس إلى هيئة تحرير الشام وحسب، وقد فعل ذلك، وصار الخطاب السياسي يقرّ ويؤكد بكل الطرق وفي كل المناسبات على هذه المرجعية للشرعية.
إعلانلكن بقدر ما ستسمح هذه الشرعية المستمدة من نضال السوريين وكفاحهم في الاستقرار ومساندة الحكم والعمل على استقراره وتعزيز السلام، بقدر ما سترفع الطموحات إلى مستوى تحقيق تطلعات السوريين من الثورة، وفي شكل أكثر تحديدًا إنشاء نظام سياسي ديمقراطي تعددي يحترم الحريات الشخصية والعامة، ويحافظ على الكرامة الإنسانية لمواطنيه.
وهو أمر سيقود إلى مؤتمر للحوار الوطني، ثم إعلان دستوري، ثم تشكيل حكومة انتقالية تعكس تنوّع المجتمع السوري، ومن الواضح أن إرضاء المجتمع السوري وأخذ تطلعاته بجدية حتى الآن عزز القاعدة الاجتماعية للحكم، وجعل معظم المناطق السورية مستقرة وداعمة للحكومة المركزية في دمشق.
مواجهة التقسيم والتمرّداستخدم الشرع تكتيكًا مستمدًا من السيرة النبوية الشريفة، حين فتح النبي (صلى الله عليه وسلم) مكة عفا عن أعدائه إذا تركوا سلاحهم ودخلوا بيوتهم، فأعلن الشرع عند دخول دمشق أن الحكم الجديد سيتعامل بالعفو عن جميع منتسبي قوات الجيش والأمن السابقين باستثناء مرتكبي المجازر والجرائم ومن تلطخت أيديهم بدماء السوريين، أراد تغليب مصلحة الدولة على الانتقام، وتحقيق السلام على العقاب، ولكن أحداث الساحل ومحاولة التمرد المسلحة من فلول النظام أجبرت الحكومة في دمشق على استخدام القوة، ووقوع ضحايا، كان هذا هو الاستثناء الوحيد.
أراد الشرع رأب الصدع بالتفاوض واستخدام كل عناصر القوة لكن دون الدخول في صراع مسلح، فاتبع إستراتيجية تفاوض معقدة مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) الكردية التي أنشأت الإدارة الذاتية شمال شرق سوريا، مستفيدًا من تقاطع المصالح بين الولايات المتحدة، وتركيا، واستقرار المنطقة، وتضييق خيارات قيادة القوات مع الإعلان الأميركي عن نيّة الانسحاب العسكري من شرق الفرات، ورغبة الجيش التركي بعملية عسكرية حاسمة، فانتهى الأمر بلقاء تفاوضي مباشر سهّله الأميركيون، ثم توقيع اتفاق مشترك بناء على قاعدة سلطة سياسية مركزية في دمشق، ودمج قوات قسد العسكرية داخل الجيش، وُقع الاتفاق بإشراف أميركي، وهو في طريقه للتنفيذ.
إعلانوبطبيعة الحال يواجه بعض الصعوبات من قبل قيادات قسد؛ لأنه يعني فعليًا تفكيك مشروعهم، ومحاولات عرقلته من قبل أطراف أخرى تأمل بتدخل دولي جديد، ودور روسي يساند في إضعاف الحكم المركزي وإنشاء حكم لا مركزي سيمهّد بالضرورة للانفصال.
الأمر نفسه جرى في الجنوب، حيث سعى أحد رؤساء مشيخة العقل في السويداء إلى عرقلة استقرار الدولة وبسط سيطرتها على المحافظة والتواصل مع الإسرائيليين، إلا أن الشرع حافظ على مد العلاقة مع أطراف مختلفة، مؤيدة للحكومة المركزية في دمشق، واحتواء الأنشطة الهادفة إلى زعزعة الاستقرار وإفشال السيطرة الحكومية، فاتبع نهج النفس الطويل، وضبط ردود الأفعال والتصريحات، وأظهر سياسة ضبط النفس طويلة المدى.
وبالرغم من حدوث بعض الاشتباكات في منطقة جرمانا في محيط العاصمة مع مليشيات تتبع الشيخ الهجري، فإنها سرعان ما تنتهي باتفاق لإعادة الأمن.
وساهمت التصريحات الإسرائيلية المتكررة عن حماية إسرائيلية لدروز سوريا وقصف أماكن تابعة للقوات الحكومية لدعم مقاتلي جرمانا، في توسع القاعدة الاجتماعية الداعمة للشيخ الهجري ومشروعه في إضعاف الدولة، وإنشاء حكم ذاتي في السويداء موالٍ للإسرائيليين ومدعوم منهم.
استخدم الشرع الإستراتيجية نفسها في بناء مؤسسات الدولة، حيث تم تطبيق العزل السياسي في الحدود الدنيا، واستيعاب كوادر النظام في منظومة الحكم الجديد، وفي الوقت نفسه سعى لبناء مؤسسة الجيش على أساس الاحتواء وتوزيع المكاسب في مقايضة السلاح وبناء الجيش، الذي سيستغرق منه وقتًا طويلًا بعض الشيء، إذ من غير الممكن أن يتم بناء جيش من الصفر في وقت قصير.
ثم عمل على استيعاب المنشقين السابقين مجددًا في قوات الجيش، واستطاع بذلك منع اقتتال داخلي محتمل، وضمان حرص الجميع على استقرار الدولة، صحيح أن عمليات الإدماج الكاملة في الجيش للفصائل لا تزال بطيئة وفي بدايتها، لكن توفير التمويل والسلاح العسكري الإستراتيجي أمر ضروري.
إعلان في المآلاتلا يزال الرئيس الشرع يظهر التزامًا بالإستراتيجية التي اتّبعها، وقد حقّقت حتى الآن نجاحات في مختلف الصعد، هذه الإستراتيجية غير المألوفة والمرغوبة في آن معًا في سوريا ساعدت في الإمساك بزمام الأمور في العلاقات الدولية، وساهمت في الحد من التدخل الإسرائيلي الذي حاول الإسرائيليون استخدامه للضغط على دمشق، وعدم الانجرار إلى مواجهة مبكرة معها، وساعد في منح الشرع فرصة لتحقيق التوازن بين المصالح السورية ومصالح الدول المتضاربة: أوروبا، روسيا، الولايات المتحدة، وتركيا، والدول العربية، وضمان المكاسب الإستراتيجية للإقليم والأمن العالمي، والظهور بمظهر الضامن وتعزيز الثقة به كقائد.
نجحت إستراتيجية قوة السلام وعمليات الاحتواء المرافقة لها تلك في تغليب منطق الدولة، والحشد لبنائها، مستفيدة من زخم التغيير، وشرعية الثورة، لكن الوقت الطويل الذي تستلزمه تلك الإستراتيجية لتحقيق نتائجها قد يأكل من الشرعية وقد يضعف الحماس والالتفاف حول الحكم الجديد، وسيتطلب الإبقاء على الزخم أمرين على الأقل: تحقيق إنجازات ملموسة أكثر تظهر تحسينًا في حياة السوريين اليومية، وتوسيع مشاركة الكفاءات السورية في مؤسسات الحكم على نحو يضمن شعورها بعدم التهميش.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الحکم الجدید فی دمشق
إقرأ أيضاً:
حواري مع رئيس سوريا الجديد
في مدينة نيويورك قبل عدة أسابيع، جلست في مقابل أحمد الشرع، وهو الرجل الذي اعتقلته قواتنا في العراق سنة 2006 بسبب أفعاله مع القاعدة، وبات الآن رئيسًا لسوريا. وليست رحلة أحمد الشرع من كونه شابًا متطرفًا في العراق إلى كونه رأس دولة، بالرحلة بعيدة الاحتمال وحسب، ولكنها أيضا رحلة غير مسبوقة.
قبل أن أتحاور مع الشرع على مسرح قمة كونكورديا، قضيت بعض الوقت في استعراض مساره، المسار الذي ذكرني ببعض أحلك فصول حقبة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر وآمال الربيع العربي الأشد هشاشة. لقد اعتقلت القوات الأمريكية في العراق أحمد الشرع عام 2006 حينما كان يزرع عبوة متفجرة بالقرب من الموصل. وقد كان زعيم خلية تابعة للقاعدة في العراق، والقاعدة هي الجماعة المسؤولة عن بعض أقسى الهجمات في تلك الفترة. قضى الشرع خمس سنوات في منشآت الاعتقال التابعة لنا وكان معتقلا في عامي 2007 و2008 حينما رجعت إلى العراق قائدًا للقوات الإضافية وحينما تمكنت قواتنا من هزيمة القاعدة في العراق.
وفي حين أنني لم أعرفه قط ولم أسمع باسمه في تلك الفترة، فقد كنت أعرف نوعيته: الملتزم أيديولوجيا، الخطر تكتيكيا، والتهديد الخطير لقواتنا. والحق أنني فيما كنت أتهيأ لمحاورته، فكرت في الأسر التي لقي أبناؤها أو بناتها أو أزواجها أو زوجاتها مصرعهم على يده هو ورفاقه الجهاديين، وفي ما قد يدور في أذهانهم حينما يرون القائد الذي ائتمنوه سابقًا على أحبائهم جالسًا قبالة زعيم سابق من زعماء القاعدة في العراق.
لقد كان ما جرى بعد إطلاق سراح الشرع في عام 2011 أمرًا يستعصي على التوقع. إذ رجع إلى سوريا وسرعان ما ظهر فيها قائدًا لجبهة النصرة، وهي الجماعة التابعة للقاعدة والعنصر الذي ظهر ضمن العناصر المناهضة لنظام بشار الأسد الدموي. (وخلافًا لبعض السرديات المنتشرة في مواقع التواصل الاجتماعي، لم يكن الشرع واحدًا من «أصولنا» حينما عملت مديرا لوكالة المخابرات الأمريكية في ما بين 2011 و2012، بل وخلافا لتوصياتي في تلك الفترة، لم تقدم حكومة الولايات المتحدة في تلك الفترة غير أقل المساعدة للقوات التي كانت تقاتل عناصر النظام السوري).
بحلول عام 2016 قطع الشرع علاقاته مع القاعدة وأعاد تقديم حركته باسم هيئة تحرير الشام. وأصبحت هذه الهيئة في نهاية المطاف هي العنصر المهيمن في محافظة إدلب بشمال سوريا وقوة عسكرية ذات شأن كبير. بل إن هيئة تحرير الشام، في ظل قيادته، أقامت هياكل حكم أولية ـ من محاكم وأنظمة تجارية ومنشآت تعليمية ـ وإن تكن ذات طبيعة استبدادية وإسلامية.
ثم حانت اللحظة الحاسمة في أواخر عام 2024 التي غيرت مسار سوريا، إذ أطاحت قوات الشرع بنظام بشار الأسد الدموي. وسعت عناصر هيئة تحرير الشام إلى تحرير حلب في الشمال من قوات النظام، فلما سقط النظام بسهولة ما كان لأحد أن يتوقعها، واصلت عناصر الهيئة التقدم جنوبا لتحرير حماة وحمص من سيطرة النظام. ومع انهيار عناصر نظام الأسد أمامهم، بات الطريق إلى دمشق مفتوحًا، فاندفعت قوات الشرع دافعة بشار الأسد وزوجته إلى الفرار إلى روسيا.
بحلول يناير من عام 2025، أدى الشرع القسم رئيسا لسوريا. وبعد سنين من فرض العقوبات على نظام بشار الأسد واعتبار هيئة تحرير الشام منظمة إرهابية، رفعت الولايات المتحدة كثيرا من العقوبات ورفعت مكافأة الملايين العشرة من الدولارات المرصودة لرأس الشرع (برغم أن عقوبات الكونجرس تبقى مفروضة، ويجب رفعها الآن، مع ربط مساعدات مستقبلية أيضا بأفعال على الأرض تقوم بها الحكومة الجديدة). ولقد التقى الرئيس ترامب بالشرع في الرياض في مايو خلال تجمع نسقته قيادة المملكة العربية السعودية، ونشر الرئيس الأمريكي بعد ذلك منشورًا بملاحظة إيجابية على الشرع في موقع تروث سوشيال.
حينما التقيت بالشرع في كواليس قمة كونكورديا، على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة أذهلني سلوكه، فهو هادئ الكلام، عميق، متزن. ولديه رؤية مثيرة للإعجاب ومعرفة كبيرة بمكونات اقتصاد سوريا والبنية الأساسية فيها. لم يتكلم بنبرة الثائر، وإنما بنبرة الرجل المثقل بتاريخ هو عازم على إعادة صياغته. فقد قال في حوارنا على المنصة: «إنه ليس بوسعنا أن نحاكم الماضي بناء على قواعد اليوم وليس بوسعنا أن نحاكم اليوم بناء على قواعد الماضي».
وكان لقوله ذلك صدى ـ لا لدى الجمهور وحده، وإنما لديّ أنا الآخر ـ حتى حينما تذكرت أن هذا هو الرجل الذي قاد هجمات القاعدة ضد قواتنا في العراق. أما الجمهور، الذي كان يضم الكثيرين من الأمريكيين السوريين المتحمسين الذين طالما تمنوا الإطاحة ببشار الأسد، فقد سرهم كلامه ذلك واستبشروا به خيرا. وأنا مثلهم. والحق أننا جميعا «معجبون» بما أقر أنه يحاول تحقيقه.
يسعى الشرع الآن إلى توحيد سوريا، البلد الذي يجري فيه كثير من خطوط الصدع الإثنية والطائفية والقبلية في الشرق الأوسط. وهو يحاول إقامة حكم يكون ممثلا لكل كيانات سوريا الكثيرة وضامنا لحقوق الأقليات بالتوازي مع حكم الأغلبية. وهو يسعى إلى إشراك كثير من عناصر سوريا المتعددة تحت سلطة الدولة، وأن يعيد بناء اقتصاد سوريا الذي مزقه الحرب وبنيتها الأساسية التي تخربت. وقد أقام قنوات اتصال غير رسمية مع إسرائيل ودعا إلى إلغاء عقوبات قانون سيزر التي أقرها الكونجرس الأمريكي وفرضها على النظام السابق. وخطابه وطني لا جهادي. وموقفه برجماتي لا أيديولوجي.
فهل هذا تحول حقيقي؟ هذا ما سيجيب عليه الزمن. لقد وقعت بالفعل أفعال ووقائع يجب أن تحملنا على التريث، منها إعدامات للدروز في جنوب سوريا وللعلويين على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وهي إعدامات مرتبطة بقواته.
لكن بوصفي شخصا قضى عمره في دراسة التمرد، ومكافحة التمرد، وحكم ما بعد الصراع، فإنني أعلم أن التعافي في الجغرافية السياسية أمر نادر، وهش. ومن مصلحة الشعب السوري الآن، وكذلك جيران سوريا، والولايات المتحدة، أن ينجح الشرع وتنجح معه سوريا.
لم تكن محاورة الشرع، وهو الذي كان في الجانب الآخر طول سنواتنا الأولى في العراق، محض لحظة تأمل شخصي (لا يخلو من قدر من الغرابة). وإنما كانت أيضا تذكرة بأن التاريخ ليس خطيًا، وأن أبعد الناس احتمالًا يمكن في بعض الأحيان أن يكونوا الأكثر تأثيرا. فلنرجُ أن يكون هذا هو الحال في حالة أحمد الشرع. وسواء ثبت الرجل على ما تحول إليه أم تراجع، فإن الرهانات بالنسبة لسوريا ـ وبالنسبة لنا ـ كبيرة بدرجة هائلة.
 الجالية المصرية في فرانكفورت تتابع باهتمام المتحف المصري الكبير عبر بث مباشر
الجالية المصرية في فرانكفورت تتابع باهتمام المتحف المصري الكبير عبر بث مباشر