على أعتاب الاحتفالات الجديدة باليوم الوطني في العشرين من نوفمبر هذا الأسبوع، وهي جديدة بتأسيسها لأول مرة لفكرة الارتباط التاريخي الذي يوافق مرور مائتين وواحد وثمانين عامًا على تأسيس الدولة البوسعيدية. ولا شك أنها ذكرى موغلة في الزمن إذا استعدنا كل المسار العماني، أو الموثق منه على الأقل في كتب التواريخ.
لكن بينما يجذبنا الثقل التاريخي للماضي، نريد نحن أبناء هذا العصر أن نجذبه للمستقبل، والحاضر بطبيعة الحال؛ بما أن هذه على الأرجح هي نيتنا المضمرة من هذه الاستعادة التي يجري الاحتفال بها هذا العام لأول مرة.
وللحالة إرباكاتها المؤكدة؛ ولعل أوضحها هو ما نريد قوله بالتحديد لأنفسنا، والرسالة التي نريد إيصالها لربما لأعقابنا وأسلافنا في نفس الوقت عن اللحظة؛ أي عندما نريد أن نقف بصدق أمام مرآة الضمائر الزمنية ونتحدث عن الوطن، أين يقف الآن؟ وإلى أين نمضي به؟
ومع أن الأسئلة تبدو كبيرة، لكن أجوبتها إن شئنا التبسيط ممكنة؛ فهي تنعكس في الحال نفسه، في حال المواطن نفسه، وكل مرحلة عمرية تجيب عن جزء من السؤال، عن الماضي يجيب المتقدم في العمر، وعن الحاضر يجيب متوسط العمر، وعن المستقبل يجيب حال صغير العمر.
وأما المحرك والدافع فليس غير الشباب الإنساني نفسه، فهذا قدر الشباب منذ كان الشباب، أن يكون هو المحرك والدافع، وأن يكون الأكبر منه سنًا هو الموجّه لدفة كل تلك الحركة، بكل ما يملكه من خبرة ومعرفة؛ هذا في الحدود النظرية، أما في الواقع التطبيقي فالأمر ليس بتلك السهولة والبساطة.
العماني المعاصر أكثر اطلاعًا على العالم من حوله، وبالتالي فهو أكثر رغبة في أن يرى أشياء يحسبها جيدة تحدث في وطنه، وعلى اختلاف التوجهات والأفكار والمبادئ، فإن الوطن يسع الجميع، وهذا مبدأ الأرض الأساسي. وإذا تمكنا من خلق مناخ فكري ونفسي يسع اختلافاتنا، فإننا على الأرجح سنكون أقرب ما يكون للمناخ الديناميكي الذي يتسع لكل أحلامنا، ومشاريعنا، وطموحاتنا الفردية والجمعية.
والمسألة التأسيسية في أصلها مسألة ثقافة عامة، كيف ننظر للوطن؟ هل ننظر للوطن نظرة الريعي الذي ينتظر المكاسب المادية؟ أم ننظر للوطن بوصفه مشروعًا إنسانيًا مفتوح الآفاق على مستقبل مستدام ومستقر لنا وللأجيال القادمة؟ أرضًا تضع إمكانياتها بين أيدينا أمانة من السابق للاحق، دمًا، وعرَقًا، وأملًا، وأرواحًا ضحّت بكل ما تملك من أجل أن تتحقق اللحظة التي نعيشها اليوم، من أجل أن نصل للحظة إمكانية تحقيق العيش الكريم والشريف للإنسان على هذه الأرض.
ليس الدافع النفسي الذي نسميه حب الأرض غير ترجمة لتطلعاتنا تجاه الأرض وإنسانها، فلاحها وصيّادها وبحّارها وراعيها، مهندسها وطبيبها وفنانها وسياسيها، فإذا كانت هذه الفكرة هي الفكرة التي تقودنا فنحن نسير على درب الأرض الحقيقي، الدرب الذي تتفتح به الأرض أكثر، ونعثر على كنوزها الدفينة داخلنا كما عثرنا على كنوزها الدفينة في باطنها، وإذا كانت الأرض هي ضمان الإنسان وأمنه، فالإنسان هو الآخر ضمان الأرض وأمنها.
كل مرحلة سابقة خلفّت للمرحلة اللاحقة مشكلاتها وصعوباتها، وفي أحيان كثيرة مصائدها، وعلينا أن ننتبه لها، بما أننا في هذه اللحظة، علينا أن ندرك أن الخارج لا يخلو من رغبات في تسخيرنا لخدمته، وأن العالم يحاول أن يضعنا ويحجر علينا في إطار محدد لا نخرج منه، وأن هذه الرغبة في عالم القوى الكبرى والمتوسطة والصغرى هي رغبة لا تخفى على أحد، وعلينا نحن بدورنا الخروج من هذه الأطر التي يحاول العالم إجبارنا على البقاء فيها.
فالوجود الإنساني والأفق الزمني أكثر سعة من ضيق الحفر التاريخية التي ما تزال تحاول تهديدنا واصطيادنا للعودة لمستنقع الماضي. وإذا كان لنا من الماضي أمثولة نتمثلها في حاضرنا ومستقبلنا فهي أن الأخلاق والمبادئ الإنسانية العليا كانت دائمًا هي طريق المستقبل، وأن من يريد العدل عليه الانتصاف من نفسه أولًا، ومن يريد الحق فعليه تأدية ما عليه من حقوق سلفًا، أما من لا يحركه غير سعيه لهزيمة الآخر والتفوق عليه مهما كان الثمن، فإنه لن يجني غير الخراب، طال الأمد أو قصر.
ولنا في تاريخنا من الأمثلة والدلائل ما لا حصر لها؛ فكم من دول عظيمة لنا سادت المحيط ومادته بداية عصر الاكتشافات الغربية، وبعد أن وحدت البلاد، وحررتها وصعدت، عادت وتقاصرت، وتهاوت، وتمزقت وانكسرت؛ لا لضعف في الخارج، بقدر ما كان ذلك لانشقاق الداخل، وحروبه الطويلة التي مزقت البلاد، وأهلكت العباد.
وإذا لم نستوعب دروسنا التاريخية جيدًا، فلا فائدة ترجى من استعادتنا للتاريخ لمجرد المفاخرة والمباهاة به. وإذا كان هدفنا مجرد المباهاة والمفاخرة بماضينا فذلك هدف هزيل، وغاية صغيرة لا تليق إلا بكسالى الحاضر، أما أهل الهمم فأفعالهم تتحدث عنهم، وكما قال المتنبي: أريد من زمني ذا أن يبلغني ما ليس يبلغه من نفسه الزمن.
نتمنى للوطن منطقة زمنية آمنة، منطقة يترسخ فيها قوته في قلوب أبنائه وفي ثقتهم به، منطقة لا يهددها اضطراب مستقبلي داخله أو خارجه.
نريد للوطن حالًا يجعله قبلة الناس ومحط أحلامهم وآمالهم، وطنًا يسع أبناءه ولا يجعلهم يتلفتون بحثًا عن سعة خارجه، وطنًا يجعل هموم أجياله نصب عينيه، ووطنًا لا يقبل المديح كذبًا، ولا يرضى الرياء الرخيص، بل وطنًا صادقًا مع نفسه، في عيون أهله التي هي مرآته، وفي ضمائرهم، وطنًا يعلي النقد ويدرك قيمته في البناء، وطنًا يسمع الشكوى ويحنو على الضعفاء أكثر من اهتمامه بالأقوياء، وطنًا يدرك أن العدل والعدالة ليست ترفًا ولا منة، بل ضرورة لحاضره ومستقبله، وأن النزاهة ليست ستارة وعلمًا نرفعه ليراه الخارج، بقدر ما هي ثقافة وخلق يتأصل ويترسخ بالممارسة والإدارة والسياسة الداخلية.
لهذا الوطن وحاضره وغده، نحن بحاجة إلى مزيد الثقة، في ذواتنا قبل الآخرين. بحاجة إلى الإيمان بأنفسنا قبل أن نؤمن بالعالم، فللعالم طرقه التي يبلغها بوسائله المختلفة، ونحن علينا أن نجد طريقنا الخاص، طريقنا الذي تشير إليه كل الأحداث التي وقعت في تاريخنا، دوّنت أم لم تدوّن، لأنها باقية في ضمائرنا، الطريق الذي يسعنا ويسع الإنسانية كلها، الطريق الذي تشير إليه الأرض، وتنادي به القلوب الصادقة.
اليوم الوطني فرصة للاحتفال بالوطن، لكنه تذكير كذلك بحبنا الصادق للوطن، وأن هذا الحبّ ليس شعارًا نرفعه وزينة نعلّقها، بقدر ما هو عمل نعمله، وحلم نسعى صادقين للوصول إليه.
إبراهيم سعيد شاعر وكاتب عُماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً: