عندما يأتي المساء
تاريخ النشر: 15th, November 2025 GMT
د. إبراهيم بن سالم السيابي
كان المساء يهبط ببطء على المقهى الصغير في إحدى المجمعات التجارية في قلب المدينة، حيث يجتمع رفيقان منذ سنواتٍ طويلة. جلس الأول وهو يحرّك كوب قهوته بلا رغبة، تبدو على ملامحه مسحة حزن ثقيلة. قال بصوتٍ خافت:«كبرنا يا صديقي… ولم يعد في العمر ذلك البريق الذي كان يشعل فينا الأحلام.
توقف قليلًا، ثم تابع وهو يستند إلى الكرسي وكأنه يثقل على نفسه:
«بعد التقاعد… أشعر بالملل والإهمال من الجميع، حتى الرسائل بين الرفاق باردة، بلا روح، أو تلك الرسائل المكررة في مجموعات وسائل التواصل. أشعر وكأني أصبحت عالة على المجتمع، لا حلم لي ولا طموح. وحتى الحب… لم أعد أستطيع أن أُدخل في حياتي أشخاصًا جددًا؛ لا رفاق، ولا أصدقاء، ولا أي روح جديدة تقترب من عالمي الصامت».
ترك كلماته تتناثر، ثم أضاف بشيء من الانكسار:
«وتساءل يا رفيق: هل كبرنا إلى هذه الدرجة؟ هل انتهى كل شيء؟»
ابتسم الرفيق الآخر، وهو ينظر كل حين إلى شاشة هاتفه الجوال، قبل أن يجيب بنبرة مُطمئنة:
«أنت لم تكبر، يا صديقي… أنت فقط تستمع للمساء أكثر مما يجب. العمر- كما يقولون- مجرد رقم، لا تستطيع السنوات أن تمنع مشاعرنا، ولا أن تقيد طموحاتنا. كل مرحلة عمرية لها عطاؤها، إن أردنا لها أن تُثمر». ثم مال نحوه وكأنَّه يريد أن يوقظه من غفوته النفسية:
«الإنسان قادر على العطاء حتى آخر يوم في عمره، ما دام الله قد أنعم عليه بالعقل والصحة. الإحباط هو العدو الحقيقي، ذلك الجزء القاتل من حياة الناس، وهو الطريق الأسرع نحو الاكتئاب. بينما الله عز وجل يُطالبنا بالسعي، وبأن نُعمر الأرض، وبأن نكون نافعين لأنفسنا ولغيرنا».
سكتَ قليلًا، ثم أضاف بصوت يملؤه اليقين:
«أنت لست عالة على المجتمع… بل المجتمع هو الذي لم يتقن الاستفادة منك بعد. فخبرات عقودٍ من العمل، ومسيرة طويلة من العطاء، لا ينبغي أن تُطوى بمجرد انتهاء الوظيفة».
ومن بين هذا الحوار الهادئ، خرج سؤال أكبر من مجرد حكاية بين رفيقين:
لماذا يقف المجتمع أحيانًا في مسافة صامتة من كبار السن والمتقاعدين؟
ولماذا يتبادل البعض النوادر المضحكة عن هذه الفئة، غافلين عن أنَّ الكرامة الإنسانية لا تسقط بالعمر؟
ولماذا تتعامل بعض المؤسسات وكأن خبراتهم انتهت بانتهاء دوامهم الرسمي؟
ما الذي يضير هذه المؤسسات لو تذكّرت هذه الفئة من حينٍ لآخر، أو أن إدارات المحافظات بادرت بإشراكهم في مجالس المشورة في ولاياتهم ومحافظاتهم؟ ما الذي يمنع إدماجهم في دوائر الرأي والخبرة؟ كيف يمكن أن نخسر عطاءً واضحًا ومؤثرًا لمجرّد انتهاء التوقيع على سجل الدوام؟
إن المتقاعدين ليسوا هامشًا في المجتمع؛ هم جزء من تاريخه، ومن بنائه، ومن ذاكرته المؤسسية. كانوا على رأس العمل يومًا ما، ولهم بصمات واضحة، وإنجازات يراها الجميع.
ورغم كل ذلك، فإن المسؤولية لا تقع على المجتمع وحده.
والإنسان بعد التقاعد قد يجد نفسه أمام فرصة أكبر ليعيد اكتشاف ذاته، وأن يخوض تجارب كان يؤجلها لسنوات. فجزء من استعادة الروح هو أن يبادر هو أولًا؛ أن يتعلم، يكتب، يزرع، يحب، يساهم، ويبحث عن مساحات جديدة للعطاء، ولا ضير ان يتعرف على رفاق جدد او يجدد علاقته بمن ابتعد عنهم أو ابتعدوا عنه نتيجة الانشغال.
فالحلم لا يشيخ… لكنه يحتاج من يوقظه.
ولعل الدور الأهم يقع كذلك على الأسرة؛ فهي الأقرب إلى المتقاعد، وهي الحضن الأول الذي يعيد إليه دفء الحياة.
كلمة ودّ، مساحة للاستماع، دور بسيط داخل البيت أو العائلة، أو إشراكه في قرار، كلها أشياء تُشعره بأنه حاضرٌ ومؤثر. أما التجاهل العائلي… فقد يكون أشد قسوة من التجاهل المجتمعي نفسه.
ولعل المشكلة ليست في المساء الذي يقترب، بل في النظرة التي غالبًا ما تنسى شروقًا طويلًا سبق ذلك المساء. فالعمر لا يسلب الإنسان دوره، ما لم يسلبه المجتمع… أو يسلبه هو من نفسه.
ويبقى الدرس الذي ختم به الرفيق كلامه:
«حين يأتي المساء… تذكر أن الشمس لا تغيب، بل تنتقل إلى جهة أخرى من العالم، لتنير حياة آخرين.
وذلك ما يفعله الإنسان حين يظن أن دوره انتهى؛ فالعطاء لا ينطفئ، بل يتخذ شكلًا آخر».
وبعد أن هدأ الحديث بينهما، تبسم الرفيق الآخر بخفة، قبل أن يتعازما- على طريقة العُمانيين دائمًا- على دفع فاتورة الحساب. ضحكا قليلًا، ثم نهضا، وكأنَّ بشاشة تلك اللحظة القصيرة أعادت شيئًا من خفة الروح إلى الرفيق والتي كادت تثقلها هموم العمر.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً: