البُعد الاجتماعي.. وصدارته للمشهد المُتغيِّر
تاريخ النشر: 16th, November 2025 GMT
د. عبدالله باحجاج
ينبغي على كل دولة خليجية أن تقف على الأسباب التي تقف وراء فوز الشاب بهوية إسلامية مُثيرة للجدل زُهران ممداني بمنصب عمدة عاصمة النيوليبرالية العالمية، مدينة نيويورك، مُكتسحًا كل مرشحي القوى الليبيرالية وروابطها التاريخية.
الكثير يفسر ذلك بثورة على هذه القوى والروابط، لكنهم لم ينفُذُوا إلى الأسباب الكامنة وراءها، ودونها لا يُمكن استيعاب ما حدث في نيويورك، وما قد يمتد إلى خارجها؛ سواءً داخل أمريكا نفسها أو في كل أنحاء العالم، خاصةً وأن الأسباب التي أنتجت ممداني متوفرة في كل العالم؛ بما فيها المنطقة الخليجية، وليس شرطًا أن يظهر ممداني جديد في كل العواصم، لأنَّ ذلك سيكون مرتبطًا بالأنظمة الديمقراطية، أما غيرها فستأخذ التداعيات سيناريوهات متعددة أبرزها اندلاع توترات اجتماعية.
وهنا لا بُد من تقديم قراءة واعية ومسؤولة في التوقيت المناسب لدول المنطقة التي نسخت النظم المالية والاقتصادية النيوليبرالية التي تُنتج بدورها الأسباب التي دفعت بممداني إلى الفوز بمنصب عمدة نيويورك التي تبلغ ميزانيتها العمومية 116 مليار دولار، وتضم 300 ألف موظف. ولا شك أن فوز هذا اليساري يدق جرس الإنذار على النموذج النيوليبرالي وعلى الاشتراكية التقليدية، ليس فقط في أمريكا التي بدأت فيها بعض الولايات الأمريكية تتأثر بتجربة فوز ممداني، ويعتبرونه رمزًا لليسار الجديد، وإنما عالميًا في كل الدول التي تتبنى النيوليبرالية؛ إذ إن تطبيقاتها العالمية قد كدَّست الثروات الخرافية في أيدي أقلية داخل كل دولة، وتسببت في إخفاء الطبقة المتوسطة، بينما الأغلبية من السكان في هذه الدول بين معيشة خانقة بسبب ضعف الرواتب وارتفاع أسعار الخدمات الأساسية كالمياه والكهرباء، وبطالة مُخيفة ومتعاظمة دون وجود حلول شاملة. ومقالنا السابق المعنون بـ"عندما تتراجع فكرة المواطنة"، أوضحنا خلاله طبيعة المخاطر الناجمة عن هذا التراجع، ونختصرها هنا باحتمالية تفجر الطائفية والإثنية في الدول غير الديمقراطية.
وفوز زُاهران ممداني المولود في أوغندا، وتربعه على عرش عاصمة الاقتصاد النيوليبرالي، جاء بعد أن جعل هذا النظام الأغلبية تنزلق نحو الفقر والهشاشة، فمثلًا: بلغ معدل الفقر الرسمي في أمريكا عام 2024 نحو 6.10%؛ أي ما يعادل 9.35 مليون شخص، وفي نيويورك وحدها 23% من السكان تحت خط الفقر؛ أي ما يُقارب مليوني شخص. وهنا تتضح لنا دلالات فوز ممداني؛ فخطابه الانتخابي قد انطلق من هذه الآلام الاجتماعية؛ إذ رفع شعار العدالة الاجتماعية عبر الخدمات الأساسية المجانية وتوسيع الخدمات الاجتماعية كالنقل العمومي المجاني وتجميد زيادات الإيجارات، وفرض ضرائب على الأثرياء. وقد كان وراء فوزه، كتلة الشباب تحت سن 35 سنة، والطبقة الوسطى العاملة، وكذلك ما يُطلق عليهم السكان المُلوَّنين، والمشتركون في وسائل النقل والمستأجرون، وهو تحالف انتخابي قوي يعتمد على المواصلات العامة، وهم غالبًا مستأجرون حسب تحليلات أمريكية.
هنا ينبغي على كل حكومة خليجية أن تُدرك تلكم الأسباب التي تقف وراء فوز ممداني، وتُقيِّم أوضاعها الداخلية على ضوئها، ومن ثم تُحدِّد ماهيات المخاطر المقبلة مع الأخذ في عين الاعتبار خصوصية كل دولة، رغم القواسم المشتركة التي نجدها في تبني النيوليبرالية وظواهر البطالة وغلاء المعيشة، ومعظم سكانها من الشباب. ومما يزيد من حدة المخاوف داخل منطقتنا الخليجية أن أنظمتها السياسية قد اكتسبت وجودها من شرعية اجتماعية تقوم على المذهب والقبلية، مع توسيع نطاق هذه الشرعية على تعددها وتنوعها الطائفي والإثني من خلال مجانية الخدمات الأساسية وتأمين حقوق جوهرية كالعمل والصحة والسكن.. إلخ؛ مما مكَّن ذلك من صناعة تعايش سلمي بين مكونات التعددية ولو في حدوده الدنيا.
وهنا يستوجب التساؤل: هل بوصلة هذه الشرعية لا تزال قوية رأسيًا كما كانت قبل 5 سنوات على أقل تقدير؟ وهل هناك ضمانة لاستدامتها في ظل حقبة الضرائب والرسوم والبطالة وارتفاع أسعار الخدمات والمعيشة؟ وهل هذه التحولات ستضمن عدم قدرة الخارج وقوى الداخل أصحاب الأجندات المُلوَّنة من عدم اختراف مجتمعاتها؟
الكل يعلم إلى أين وصل الصهاينة في امتدادهم في منطقة الخليج، خاصةً وأن بوابة دخولهم للمنطقة قد فُتحت مع اقتراب تطبيق نظام التأشيرة الخليجية الموحدة، ولا يُمكن استبعادهم من وراء كل حالة استثمار خليجية أو أجنبية داخل أي دولة، كما ليس هناك ضمانات- ولو في حدودها الدنيا- باستدامة البنيات والعلائق والثوابت التي تأسست إبان مرحلة تأسيس الشرعيات الاجتماعية للأنظمة السياسية، وبالتالي، فإمَّا أن يتجه التفكير السياسي في الخليج إلى عقد اجتماعي جديد يحدد الحقوق والواجبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية أو أن يترقب إنضاج الأسباب التي أنتجت ممداني في نيويورك!
ومن يتعمق في المشهد الخليجي بصورة عامة الآن، سيرى أنه قد أصبح متغيرًا في كل ما هو متعارف عليه منذ عدة عقود، وتحديدًا قبل 5 سنوات، وتسير فيه- أي التغير- الدول الستة بسرعة زمنية عالية وبخطط مالية واقتصادية تشِل دور الحكومات، وتبقيه محدودًا جدًا على الصعيد الاجتماعي، في زمن تتسارع فيه التحديات الجيوسياسية والأطماع الإقليمية والدولية، دون دراسة انعكاساتها على المجتمعات، وما قد تُحدثه من تحولات عميقة. وأي تفكير موضوعي لها سيخرج منه بنتيجة مفادها أن البُعد الاجتماعي في الخليج سيكون القائد القادم لكل التحولات، مثل ما هو قائد في نيويورك الآن، ومثل ما هو في تجارب كثيرة إقليمية حديثة.
كل الفرص بأزمنتها المستحقة مواتية الآن لإعادة تقييم المسارات والاختيارات، وتصويبها نحو الاعتداد بالبُعد الاجتماعي في كل دولة، ورغم الأصوات النخبوية التي تُحاول أن ترفع من حجم المطالب الاجتماعية، وهي متباينة في كل دولة الآن، فإنَّ الكرة ما تزال في ملعب الحكومات، فما تتطلع إليه المجتمعات مطالب بسيطة كوظائف ومعيشة آمنة، ولا يمكن الحديث عن مفهوم الاستدامة في السياسة والاقتصاد دون الاستدامة الاجتماعية؛ فهي ضامنة لكل الاستدامات داخل أي دولة، ليس في الخليج فحسب؛ بل في كل دولة تطغى فيها النيوليبرالية وتسحق الأبعاد الاجتماعية.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
قراءة استراتيجية للمشهد
إسماعيل بن شهاب البلوشي
هل حوصِر الفكر العربي والإسلامي داخل مُخطط استراتيجي واسع؟ منذ عقود طويلة، يطرح كثير من المفكرين سؤالًا ثقيلًا: هل يعيش الفكر العربي والإسلامي داخل دائرة مُغلقة صُنعت لنا بوعي أو بغير وعي؟ وهل شاركنا نحن أنفسنا، بكل فعالية، في إحكام هذا القيد حول عقولنا وذاكرتنا الجماعية؟
هذا السؤال ليس تنظيرًا؛ بل واقع نعيشه يوميًا. فكلما نقرأ، وكلما نشاهد ما تبثه القنوات العربية أو الأجنبية، نجد صورة واحدة تتكرر بلا توقف: العالم العربي في بؤرة المأساة. نحن جيلٌ كبر وهو لا يرى إلا أخبار الحروب، الأزمات، الخلافات، الصراعات، وكأن لا شيء يحدث وراء البحار، لا إبداع أو إنجاز صناعي قتالي طبي ولا تطور في العالم يستحق أن يصل إلينا سوى ما يرتبط بنا من كوارث.
لقد أصبحنا سجناء "غلاف فكري" ضيق، لا يتيح لنا رؤية ما هو خارج حدود مشكلاتنا. هذا الغلاف ليس مجرد مشكلة ثقافية؛ إنه مشكلة تنفيذية أيضًا. لأنه حين نُحاصر فكريًا، نتحرك على الأرض بطريقة محاصَرة أيضًا.
هل لدينا رؤية؟ هل لدينا هدف؟
أسأل نفسي كثيرًا، ولم أجد إجابة واضحة حتى اليوم: هل نملك فكرًا عامًا ورؤية شاملة لما نحن فيه؟ هل نملك هدفًا عربيًا أو إسلاميًا واحدًا نلتف حوله، حتى لو كان هدفًا بسيطًا مثل الخروج من مأزق التشتت الفكري العام؟
كل أمة في العالم- كبيرة كانت أم صغيرة- تملك تصورًا لموقعها في هذا العالم، ومصيرها، ودورها. أما نحن، فعلى الرغم من تاريخنا العريق وعمق حضارتنا، نجد أنفسنا في حالة انفصال معرفي وسلوكي عن العالم. نقول دائمًا إننا "مختلفون"، وإن كل ما هو إيجابي فهو لنا، وكل ما هو سلبي فهو "للآخر".
نُغلق الباب على أنفسنا، ثم نتساءل لماذا لا نرى إلا الظلام.
وأحد أسباب هذا الغلاف الفكري هو حصر العلم في زاوية واحدة؛ حيث إنَّ كثيرًا من أبناء الأمة يعتقدون أنَّ العلم هو فقط ما يرتبط بالفقه والمشايخ، رغم أهميته لاشك وأن كل معرفة غير ذلك ليست علمًا حقيقيًا. وهكذا يُغلق الباب أمام الفلسفة، والاقتصاد، والعلوم الإنسانية، والعلوم الطبيعية، والتكنولوجيا، والنقد، والتحليل، والإبداع، والبحث العلمي.
لقد تحول الاختلاف إلى "اتهام"، والتساؤل إلى "شك"، والنقد إلى "جرأة"، والبحث إلى "خروج عن المألوف".
فكيف نخرج من الغلاف الفكري إذا كانت أدوات الخروج نفسها نضعها في خانة الرفض؟
هل الخلل في الحكومات… أم فينا؟ من السهل أن نقول إن حكوماتنا مخطئة دائمًا. لكن حين ندخل أي مكتب حكومي سنجد: الموظف ابن عمّي، والمدير ابن خالي، والمسؤول صديقي أو قريب أحدنا.
فمن “الحكومة” إذن؟ أليست هي مجموع أفراد هذا المجتمع؟ ألسنا نحن حصاد الدولة كما هي حصادنا؟
حين نحاسب الدولة، نحن في الحقيقة نحاسب أنفسنا. وحين ننتقد منظومة كاملة، نحن ننسى أن كل فرد فيها هو جزء من تكويننا الاجتماعي.
أخطر ما نواجهه اليوم ليس السياسة، ولا الاقتصاد، ولا الإعلام؛ بل غياب التوجيه الفكري المجتمعي. الكثير منا يردد: “نريد… ونريد… ونريد”، لكنه لا يقدم شيئًا عمليًا للأمة. لا يطور نفسه، لا يحسّن وعيه، لا يغيّر عاداته، ولا يسعى إلى بناء معرفة جديدة.
إن الأمم لا تتغير بالقرارات؛ بل بالأفراد. وكل مجتمع هو في النهاية مجموع قطرات صغيرة: كل فرد، كل عقل، كل سلوك، كل فكرة.
نحن بحاجة إلى عملية "تحرير فكري" واسعة، ليست عشوائية، ولا انفعالية، بل استراتيجية يقودها علماء فكر حقيقيون، يمتلكون رؤية، وعمقًا، وخبرة، وجرأة.
خطة تنطلق من نقاط واضحة:
1- إعادة تعريف العلم ليشمل كل مجالات المعرفة.
2- فتح النوافذ على العالم لفهمه لا لمُعاداته.
3- إحياء مشروع ثقافي عربي- إسلامي مُعاصر لا يسجن نفسه في الماضي، ولا يقطع صلته به.
4- تعزيز ثقافة النقد الذاتي بجرأة، دون خوف.
5- بناء وعي مجتمعي يجعل من كل فرد “جزءًا من الحل” لا من المشكلة.
6- تحرير الإعلام من صورة “العربي المأساوي” إلى صورة “العربي القادر”.
وأخيرًا.. إن حصاد أي دولة هو حصاد أفرادها، ولا حكومة تستطيع بناء أمة إذا كان الفرد لا يُريد بناء نفسه. ولا مشروع فكريًا سينجح إذا بقي المجتمع ينتظر التغيير من الخارج، أو من الغير دون أن يحمل نفسه مسؤولية المشاركة.
الأمة التي نريدها لن تُبنى بكثرة المطالب، بل بكثرة العاملين الصامتين، الباحثين، والمجتهدين، والعقول الحرة. الأمة التي نُريدها تبدأ من هنا؛ من أن نخرج بإرادتنا من الغلاف الفكري، ونرى العالم كما هو، ونرى أنفسنا كما يجب أن نكون بالعمل المفرد وليس بالتمنيات.
رابط مختصر