البيت الأبيض يوبخ «نتنياهو» ويهدد بقطع الدعم الأمريكى
تاريخ النشر: 24th, October 2025 GMT
تتزايد الإحباطات داخل البيت الأبيض تجاه إسرائيل بعد أسبوعين فقط من إعلان الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، عن اتفاق لإنهاء الحرب فى غزة وإحلال السلام فى الشرق الأوسط، وفقًا لما نقلته صحيفة «بوليتيكو» عن مصادر متعددة مطلعة على المحادثات بين الجانبين.
وقالت الصحيفة إن الغضب الأمريكى يتصاعد مع توالى زيارات كبار المسؤولين إلى إسرائيل هذا الأسبوع فى محاولة للحفاظ على وقف إطلاق النار الهش بين إسرائيل وحماس، وسط شعور متزايد فى واشنطن بأن حكومة بنيامين نتنياهو لا تلتزم بتعهداتها، وأنها تضع الاتفاق الذى تفاخر به ترامب فى خطر مبكر.
وخلال زيارته إلى الأرض المحتلة، نقل نائب الرئيس الأمريكى، جيه دى فانس، رسالة حازمة وواضحة من ترامب إلى نتنياهو، بحسب ما أكد مصدران مطلعان على الاجتماع تحدثا لـ«بوليتيكو» أن فانس أبلغ نتنياهو بأن أى تحرك أحادى لضم الضفة الغربية أو تصعيد عسكرى فى غزة سيعتبر خرقًا مباشرًا لروح اتفاق السلام.
تأتى هذه التطورات بعد أن شنت قوات الاحتلال الإسرائيلية هجوما مضادا على غزة يوم الأحد الماضى أسفر عن استشهاد أكثر من 40 مدنيا، رغم أن إسرائيل كانت قد أكدت لواشنطن أن ردها سيكون حذرا ومحدودا. ونقلت الصحيفة عن مسؤولين أمريكيين كبار قولهم إنهم أبلغوا أحد الحلفاء العرب أن إسرائيل خرجت عن السيطرة فى مؤشر على عمق التوتر بين الحليفين المقربين.
وذكرت «بوليتيكو» أن الغضب الأمريكى تفاقم بعد تصويت الكنيست لصالح ضم الضفة الغربية، وهو التصويت الذى رفضه ترامب علنا، معتبرا أنه يقوض اتفاق السلام الذى توسطت فيه واشنطن قبل أسابيع فقط، لمح ترامب إلى أن إسرائيل قد تفقد دعم الولايات المتحدة إذا استمرت فى نهجها الحالى، قائلا إن أى محاولة لضم الضفة الغربية ستنهى الدعم الأمريكى.
وأكدت الصحيفة أن هذا التصريح جاء بعد إدانات متزامنة من نائب الرئيس فانس، ووزير الخارجية ماركو روبيو، والمبعوثين الخاصين ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر، الذين أبدوا استياءهم العلنى من تصرفات الحكومة الإسرائيلية.
ونقلت الصحيفة عن مسؤول فى البيت الأبيض قوله إن هذه التصريحات تعكس بدقة مشاعر ترامب، مضيفًا أن البيت الأبيض يدرك أن الصبر الأمريكى بدأ ينفد تجاه حكومة نتنياهو.
وفى محاولة لاحتواء الغضب الأمريكى، أصدر مكتب رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلى بيان باللغة الإنجليزية، قال فيه إن تصويت الكنيست على الضم كان استفزازا سياسيا متعمدا من المعارضة لإثارة الفتنة خلال زيارة نائب الرئيس فانس لإسرائيل، مضيفا أن مشروع القانون رعاه أعضاء من المعارضة فى الكنيست.
وأشارت «بوليتيكو» إلى أن البيان بدا موجهاً إلى واشنطن أكثر من كونه ردا على الرأى العام المحلى، خاصة وأن نتنياهو يدرك حساسية الوضع فى ظل قرب الانتخابات الإسرائيلية المقررة فى مارس أو أكتوبر من العام المقبل، فالانفصال عن ترامب علنا سيكلفه خسائر فادحة فى صناديق الاقتراع، حيث لا يزال الرئيس الأمريكى يتمتع بشعبية كبيرة فى إسرائيل، وكانت صوره مع نتنياهو جزءا اساسيا من حملاته الانتخابية السابقة.
وقال مسؤول سياسى إسرائيلى مخضرم لـ «بوليتيكو» إن حماس لم تقدم سوى تنازلات محدودة بإطلاق بعض الرهائن، فيما لا يزال الجنود الإسرائيليون يقاتلون ويموتون على الخطوط الأمامية.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: الأمم المتحدة الرئيس الأمريكى حماس حكومة نتنياهو صحيفة بوليتيكو البیت الأبیض
إقرأ أيضاً:
رحلة صعود جيه دي فانس.. من جبال الأبلاش إلى البيت الأبيض
" تنحدر جدتي من عائلة تُطلق النار عليك بدلا من أن تجادلك. أي شخص آخر في عائلتنا يمكن أن يتحول من الهدوء إلى القتل في لمح البصر…. حتى عندما كان المنزل هادئا ظاهريا، كانت حياتنا مشحونة لدرجة أنني كنت دائما في حالة تأهب".
هكذا يروى جيه دي فانس، نائب الرئيس الأميركي ترامب، في مذكراته "مرثية هيلبيلي" (Hillbilly Elegy)، جزءا من سيرته الذاتية، مضيفا: "لم نكن نعرف في الطفولة متى تُحوِّل كلمة خاطئة عشاء هادئا إلى شجار عنيف، أو متى يُتطاير طبقٌ أو كتاب في الهواء بسبب خطأ بسيط. كنا نعيش بين ألغام أرضية، خطوة خاطئة، ثمّ يدوّي الانفجار. نحن مبرمجون على الصراع، على استعداد دائم للقتال أو الفرار. يبدو الصراع وتفكك الأسرة وكأنهما القدر الذي لا يمكنني الهروب منه".
لقد أورثت حالة الصراع المستمر فانس غضبا مكتوما انعكس على سلوكه درجة أنه حين "التقى بعد عقدين بالمعلمة التي أشرفت على تعليمه في روضة الأطفال أخبرته أنه كان سيئ السلوك لدرجة أنها كادت أن تترك المهنة بسببه بعد ثلاثة أسابيع من عامها الأول في التدريس".
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2ماذا تعرف عن القس الذي آمن على يديه الآلاف وألحد بسببه الآلاف؟list 2 of 2قناع الغرب الذي نعرفه يسقط ووجهه "القبيح" يوشك أن يظهرend of listاسم دي فانس الأصلي هو جيمس بومان ثم غيرته والدته إلى جيمس ديفيد هامل لتنسبه بالتبني لأحد أزواجها بهدف محو أي ذكرى لوالده حسب تعبيره، ولاحقا غير اسمه إلى جيه دي فانس نسبة إلى جدّه لأمه جيمس فانس، واختار "مرثية هيلبيلي" عنوانا لكتابه، في عنوان غني بالرموز بحد ذاته، فكلمة "هيلبيلي" تحمل دلالة تاريخية في الثقافة الأميركية، وتُستخدم غالبا بازدراء للإشارة إلى سكان جبال الأبلاش والريف الأبيض، خاصة من ذوي الأصول الأسكتلندية الأيرلندية، الذين يُصوَّرون غالبا على أنهم جهلة وفقراء ومنعزلون وعنيفون.
يستخدم فانس تلك الكلمة المحمَّلة بالدلالات، قاصدا أنه يرثي مجتمعه من أبناء الطبقة العاملة البيضاء الريفية التي يرى أنها تحتضر، حيث "تتفكك العائلات، ويتلاشى العمل الشريف، ويُستبدل التدين الشعبي بالإدمان، وينهار الإيمان بالحلم الأميركي". وهكذا جاء عنوان الكتاب بيانا ينقل رسالة واضحة للقاريء: "هذه مرثيتنا نحن سكان الجبال الذين لم يعبأ بهم أحد".
إعلانحين تسلّم فانس منصب نائب الرئيس ترامب في يناير/كانون الثاني 2025، كانت تلك خطوة في مسار سياسي صاعد، ومثّلت تتويجا لرحلة طويلة من المعاناة لشاب من الريف الأميركي الأبيض المهمّش صعد من قاع المجتمع إلى مركز صنع القرار، حاملا معه خطابا هجينا يجمع بين الفردانية الأخلاقية القائمة على التقدير الزائد للفرد ومصالحه، والغضب الطبقي الأبيض.
طفولة بائسة في الهامش الأميركيولد فانس عام 1984 في بلدة ميدلتاون بأوهايو، لعائلة تنحدر من أصول أسكتلندية-إيرلندية استقرت في جبال الأبلاش شرقي كنتاكي. وتوفر هذه البيئة سياقا اجتماعيا وثقافيا خاصا لا يمكن فهم قصة فانس إلا من خلاله، حيث تقدم "ثقافة الريف الأبيض" نموذجًا اجتماعيًا منغلقا، ومعاديا بصورة مزمنة للنخب. وفي الدائرة الأضيق، ترعرع فانس في كنف عائلة ممزقة: أمٍّ مدمنة، آباء يأتون ويذهبون، وجدّيْن كانا مصدر استقراره الوحيد.
وكما يروي فانس عن نفسه، فإنه نشأ فقيرا في إحدى ولايات حزام الصدأ وهي المنطقة التي كانت مركزا للصناعات التقليدية الثقيلة الأميركية لفترة امتدت من منتصف القرن 19 إلى منتصف القرن 20، قبل أن تتراجع الصناعة في المنطقة مع تدهور صناعة الصلب وتراجع أهمية الفحم وتزايد الاعتماد على الآلات، ما أدى إلى "صدأ" المصانع وهجرة العمالة بكثافة من تلك المنطقة التي سقط سكانها في براثن البؤس والتهميش.
هكذا كانت طفولة فانس مرآة لأزمة أوسع هي الانهيار التدريجي للبنية العائلية في أميركا البيضاء الفقيرة، وتفكك العقد الاجتماعي الذي يضمن لها حقوقها. لذلك لا يتوانى فانس في سيرته الذاتية عن وصف تجربته بالسقوط في قاع أميركا المنسيّة، حيث الإدمان والبطالة و"الانتحار الرمزي" للمجتمع الأبيض الريفي.
ورغم بيئته المنهارة، شكّل جداه نقطة الضوء الوحيدة في مساره المبكر. "ماماو" جدّته القاسية المحبة، كانت النموذج الصارم الذي غرس فيه حسًّا بالولاء والتديّن الشعبي الذي لا يخضع للمؤسسات الكنسية، بل يستمد سلطته من العرف العائلي، في مقابل والدته التي جسدت نموذج الفشل المتكرر، ما جعله يطور مبكرًا نوعا من "الاستقلالية العاطفية".
لكن هذا التناقض حفّز فيه نوعًا من الانعزالية وإيمانا بأن الخلاص فردي، وأن الفشل مسؤولية ذاتية، وأن الهروب إلى الأعلى هو الرد الوحيد على الانهيار الجماعي في الأسفل.
لم يكن فانس مرشحًا أبدا -وفق معطيات نشأته- لمسار أكاديمي أو مهني ناجح. في مرحلة المراهقة، كاد ينهار تمامًا تحت ضغط الفقر والانفصال الأسري. وبينما يحاول كثير من الكتاب السياسيين تلميع مسيرتهم، لا يتردد فانس في تقديم شهادة لافتة عن العطب الاجتماعي الذي أنتجه مجتمعه.
ففي تجربة عمله بمستودع للبلاط، لاحظ أن المشكلة لم تكن فقط في غياب الوظائف الجيدة، بل في غياب الانضباط والاستعداد لتحمل المسؤولية، حتى حين كانت الفرص متاحة، فيقول: "كان هناك عدد كبير جدًا من الشباب الذين لا يطيقون العمل الشاق.. وظائف جيدة يُلقى بها جانبًا بلا مبالاة".
إعلانهذه القناعة ستتبلور لاحقًا في تصوّره المحافظ حول الطبقة العاملة البيضاء: أنهم لا يعانون فقط من الظلم الخارجي، بل من أزمة ثقافية داخلية، تُعيد إنتاج الانحلال، والانسحاب، واللاعقلانية.
ولأن صعوده لم يكن تلقائيًا، بل ناتجًا عن مساعدة خارجية، يؤكد فانس أن "حفنة من الأشخاص المحبين" أنقذوه. هذا الإنقاذ حدث على مستويين: عاطفي من قبل جدته، ومؤسساتي عبر التحاقه بسلاح مشاة البحرية لمدة 4 سنوات، مما أمده بالانضباط والجدية، فيقول "علمتني التجربة في مشاة البحرية درسًا قيّمًا: أنني أستطيع النجاح.. استطعتُ العمل 20 ساعة يوميًا عند الحاجة.. استطعتُ التحدث بوضوح وثقة أمام كاميرات التلفزيون المُوجّهة نحوي.. استطعتُ الوقوف في غرفة مع رُوَّاد وعُقداء وجنرالات، وأُثبتُ جدارتي".
انطلاقا من تلك النقطة، واصل فانس رحلته نحو جامعة أوهايو في عام 2007، ليصبح أول فرد في أسرته يلتحق بالجامعة. ولتغطية نفقاته الدراسية عمل في 3 وظائف في الوقت ذاته، من بينها العمل لدى سيناتور من منطقة سينسيناتي يُدعى بوب شولر، ثم التحق بكلية الحقوق في جامعة ييل عام 2010 بعد حصوله على منحة باعتباره أحد أفقر الطلاب بالجامعة. وفي الجامعة تعرّف على زميلته وزوجته المستقبلية من أصول هندية، أوشا تشيلوكوري.
في ييل، واجه فانس صدمة ثقافية مضاعفة: لم يكن فقط غريبا بين أبناء النخبة، بل لم يعرف كيف يتعامل مع العالم الجديد. يروي أنه في الحفلات التي نظمتها الجامعة لم يعرف نوع المشروبات التي يعرضها النادل عليه، واعتبر ملاءات طاولات الاحتفالات أنعم من ملاءات سريره في بيته.
وهذا التصادم بين هويته الريفية ونخبوية الساحل الشرقي جعله يحتفظ بوعي طبقي محافظ مضاد للنخب، حتى وهو بينهم. وقد قال بوضوح: "أريد أن يفهم الناس الحلم الأميركي كما واجهته أنا وعائلتي، وأريد أن يفهموا شيئًا تعلمته مؤخرًا: أن من حالفهم الحظ وعاشوا الحلم الأميركي، لا تزال لعنات الحياة التي تركوها تطاردهم".
صدر كتاب "مرثية هيلبيلي" عام 2016، في اللحظة التي شق فيها دونالد ترامب طريقه نحو البيت الأبيض، وسط تعبئة شعبوية استثنائية. وكان لفانس دور مهم، حتى وإن لم يكن رسميًا، في إعطاء "مصداقية أخلاقية" لهذا التيار. فقد مثّل نموذجا يحوي التناقض الكامل: شاب خرج من رحم التهميش، درس في ييل، وفهم تمامًا لماذا يكره الريفيون الطبقة الحاكمة. لكن المفارقة أن فانس في 2016 لم يكن بعد جزءًا من التيار الترامبي.
في الواقع، عبّر حينها عن تشككٍ في ترامب ووصفه بأنه "فارغ أخلاقيا"، وخشي من تداعيات صعوده على الديمقراطية الأميركية، ومع ذلك، عمل الزمن على التقريب بين الرجلين.
لم يكن فانس يساريا، ولا حتى محافظاً معتدلاً، بل كان يمثّل تيارًا محافظًا اجتماعيًا تقليديًا، يرى أن أزمة أميركا هي انهيار ثقافي قبل أن تكون أزمة سياسية أو اقتصادية. لكن السنوات التالية شهدت تحولات مهمة لدى الطبقة التي ينتمي إليها فانس ويمثلها.
لقد وجدت الطبقة العاملة البيضاء الريفية في ترامب خطابًا يُشبهها، غاضبًا، عدائيًا، مناهضًا للمؤسسات. ومع الوقت، أدرك فانس أن المسافة بين نقده الثقافي المحافظ وبين الشعبوية الترامبية، لم تكن كبيرة كما بدت في البداية، بل إنهما ينهلان من الهمّ نفسه: الاغتراب عن أميركا الرسمية.
بحلول عام 2020، أصبح فانس أحد أبرز المروجين لفكرة أن اليمين الجديد يجب أن يتجاوز الرأسمالية الكلاسيكية والتكنوقراطية الليبرالية، ويقدم نموذجًا يزاوج بين القيم المحافظة والحمائية الاقتصادية. وهكذا، حين قرر الترشح لمجلس الشيوخ عن ولاية أوهايو في عام 2022، كان قد تحول بالكامل إلى ابن بار للحركة الترامبية.
إعلانلا يقدم جيه دي فانس نفسه كسياسي تقليدي، فلغته السياسية مأخوذة من قريته، من مشاهد الدم والانهيار الأسري. لكنه لا يكرّر فقط خطاب التهميش، بل يحوّله إلى مشروع سياسي. فخلال عضويته في مجلس الشيوخ، ركّز على ملفات مثل: رفض تقنين الإجهاض، وكبح سلطة البيروقراطية الفدرالية، والحد من الهجرة، وتشجيع العودة إلى قيم وتقاليد الأسرة التقليدية، ومحاربة الرأسمالية غير الوطنية.
وإحدى مقولاته المتداولة: "لا نحتاج إلى شركات عملاقة تؤمن ببلادنا فقط على الورق.. نحتاج إلى من يبني ويُشغّل في أوهايو، لا فقط على شواطئ كاليفورنيا".
كان هذا التوجه كافيًا ليجعله أكثر من مجرد سيناتور؛ لقد بات المفكر الأبرز للحركة الشعبوية داخل الحزب الجمهوري، ووجد جمهورَه في طبقة تعيش اغترابًا مزدوجًا: اقتصاديًا من خلال البطالة وتراجع الأجور، وثقافيًا من خلال فقدان المرجعيات الأخلاقية التقليدية.
وفي 2024، حين أعلن ترامب عن ترشحه مجددًا، لم يكن هناك اسم أكثر ترجيحًا لمنصب نائب الرئيس من فانس: شاب، صاعد، ومثقف، وغاضب، وقادر على شرح هذا الغضب بلغة أكاديمية سياسية، وهو قبل ذلك ابن وفيّ لتلك الطبقة التي يخاطبها مهما ارتدى زي النخب والسياسيين التقليديين.
حين أدى جيه دي فانس القسم نائبًا لرئيس الولايات المتحدة، كان ما حدث أكثر من مجرد انتقال سياسي: كان إعلانًا رمزيًا بأن الريف الأميركي -بتقاليده وعلله وعنفه وثقافته الخاصة- أصبح جزءًا من المركز، لا على الهامش.
لم تعد المؤسسة السياسية الأميركية مغلقة على أبناء الساحلين، ولا على المتخرجين من جامعتي هارفارد وييل وجامعات النخبة وحدهم، بل أصبح بمقدور رجل من "جبال كنتاكي" أن يتقدم الصف، لا بوصفه استثناءً، بل بوصفه تجسيدًا لتحول عميق في المزاج الوطني.
في بعده السياسي، يجمع فانس بين أمرين متناقضين ظاهريًا: خطاب الغضب الشعبي، والقدرة على تقديم سردية عقلانية لذلك الغضب. بخلاف بعض رموز الترامبية الذين يصرخون فقط دون أن يطرحوا أفكارا واضحة، فإن فانس يعرض أسباب الانهيار كما عاشها، ويقترح معالم الانبعاث كما يتصورها.
لكنه في ذلك لا يخلو من التناقض، فبينما يدعو إلى الانضباط، فهو نفسه من كتب أنه عاش طفولة فوضوية حد التهديد بالانتحار. بيد أن هذا الازدواج بين التجربة والنظرية، بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، يمنحه جاذبية خاصة لدى الجمهور، فهو ابن الفوضى الذي يُبشّر بالنظام.
ومن موقعه كنائب للرئيس، واصل فانس الدفاع عن سياسات تمزج بين الحزم والتقاليد، فهو مناهض شرس للهجرة والمهاجرين، يدعو إلى الإنفاذ الصارم لقوانين الحدود ويدعم بناء الجدار الحدودي الجنوبي مع المكسيك، ويدعم ترحيل ملايين اللاجئين دون اعتداد كبير بالإجراءات القانونية، كما يدعو إلى إلغاء حق الجنسية المكتسب بالولادة.
ويغلّف نائب الرئيس هذه المواقف بإطار فكري، مدعيا أن "الهجرة المفرطة والمتسارعة" تُقوّض النسيج الاجتماعي ووحدة الأمة الأميركية.
وعلى صعيد الأسرة، يعارض جيه دي فانس بشدة مسألة الإجهاض ويصف نفسه بأنه "مؤيد للحياة"، وسبق أن أعرب عن رغبته في فرض حظر على الإجهاض على الصعيد الوطني، لكنه عاد وتخلى عن هذا الموقف، مفضلا ترك الأمر للولايات مع وضع "معايير وطنية".
وعلى المستوى النظري، يقدم فانس موقفه على أنه مناصر "للأسرة الأميركية" وداعم لها، مشيرا إلى أنه بدلا من تقنين الإجهاض بشكل مطلق، فإن الحكومة يتعين عليها تسهيل وظيفة الأمهات في إنجاب الأطفال ورعايتهم دون خوف من التكاليف، وهو ما يفسر أيضا موقفه المناهض لزواج الشواذ (المثليين)، ودعوته إلى حظر العمليات الجراحية للتحول الجنسي للقصّر.
اقتصاديا، يؤيد فانس السياسات الحمائية، ويدعو إلى فرض رسوم جمركية أعلى بهدف حماية الصناعات الأميركية وتوطينها، وإعادة بناء سلاسل التوريد، ودعم المنتجين المحليين، حتى لو أدى ذلك إلى زيادة التضخم أو أي اضطرابات اقتصادية "قصيرة الأجل".
في غضون ذلك يدعو فانس إلى سياسات اقتصادية "شعبوية"، مثل رفع الحد الأدنى للأجور، ودعم التخفيضات الضريبية، مع التركيز على دعم القوى العاملة، والتعليم المهني، وتوفير التعليم في المناطق المحرومة.
هذا ويُعد فانس من أبرز مناهضي شركات التكنولوجيا الكبرى، ويدعو إلى تطبيق تدابير مكافحة الاحتكار بحق الشركات العملاقة، مثل غوغل وميتا. وكشأن ترامب، يشكك فانس في جدية مخاطر التغير المناخي، ويدعو إلى التحرر من قيود اتفاقية باريس وتعزيز استخدام الوقود الأحفوري، وهو ما ينسجم مع رؤيته في تعزيز الصناعات الأميركية ودعم الطبقة العاملة البيضاء.
إعلانورغم خلفيته العسكرية، فإن فانس لا يدعم توسيع التدخلات الخارجية للولايات المتحدة، وهو من أبرز المنتقدين للدعم الأميركي لأوكرانيا في حربها مع روسيا، محتجا بمحدودية الموارد الأميركية من الأسلحة والقوة البشرية.
وبدلا من ذلك، يعتقد فانس أن على واشنطن البحث عن صيغة تفاوضية حتى لو عنى ذلك أن أوكرانيا لن تستعيد كل أراضيها التي تسيطر عليها روسيا. وكبديل على الانتشار العسكري، يعتقد فانس أن أفضل طريقة لتأمين أوكرانيا هي منح الولايات المتحدة حصة أكبر من المصالح الاقتصادية في البلاد، ما يوفر ضمانة في مواجهة المزيد من "العدوان الروسي".
ورغم تأكيده أن الولايات المتحدة وأوروبا لا تزالان تنتميان إلى نفس "الفريق الحضاري" وتمسكه بأهمية حلف الناتو، ينتقد فانس اللاعبين الأوروبيين لعدم كفاية تقاسم الأعباء العسكرية مع بلاده، داعيا أوروبا إلى زيادة التزاماتها الدفاعية. وفيما يتعلق بإيران، يدعو فانس إلى التفاوض على اتفاق نووي جديد يمكّن طهران من امتلاك الطاقة النووية المدنية، ولكن يمنعها تمامًا من التسلح النووي.
ويؤكد فانس أن أي اتفاق يجب أن يتضمن أنظمة إنفاذ وتفتيش صارمة أقوى بكثير من تلك الموجودة من الاتفاق السابق الذي عقدته إدارة أوباما. في غضون ذلك، يدعو فانس أيضا إلى استخدام التكامل الاقتصادي كوسيلة ضغط ضد إيران، ومكافأتها بالامتيازات التجارية مقابل التخلي عن أحلام التسلح النووي بشكل نهائي.
في المقابل، يعد فانس داعما متحمسا لإسرائيل، ويرى أن أمنها جزء من الأمن القومي الأميركي، في حين يرى أن الصين هي "التهديد الأكبر" الذي تواجهه الولايات المتحدة، قائلاً إن على واشنطن تحويل انتباهها إلى منطقة شرق آسيا خلال العقود القادمة، في ظل عدم قدرتها على الوفاء بالتزامات عالمية متعددة.
وبخلاف الاستعداد للمواجهة العسكرية مع الصين، يدعو فانس إلى سياسات أكثر صرامة ضد بكين على صعيد التجارة، مثل الرسوم الجمركية والعقوبات وحظر الوصول إلى التكنولوجيا الأميركية وفرض القيود على الشركات الصينية.
مستقبل فانسفانس ليس فقط نائبًا للرئيس، بل مرشح محتمل للرئاسة مستقبلا، وهو يمتلك ما يفتقده كثير من الشعبويين: لغة النخبة، وتجربة الريف، فهو يستطيع أن يخاطب وول ستريت وهيلبيلي في آن معًا، وأن يُترجم الغضب إلى أفكار وسياسات وإجراءات ناجزة.
لكنه في الوقت ذاته، لا يزال مرتبطًا بظل ترامب، فصعوده السياسي تم بدعم ترامب، وخطابه يتماهى بشكل متزايد مع "الترامبية". ولربما يؤهله ذلك أن يلعب الجسر المحتمل بين الترامبية الغاضبة والجمهورية الجديدة التي تسعى لتأطير الغضب ضمن مشروع طويل الأمد، لا مجرد لحظة تمرد.
هذه الخلطة تمنحه قوة، لكنها قد تضعف فرصته لاحقًا إذا ما قرّر الترشح مستقلًا عن ترامب. وفي المقابل، يتهمه خصومه بالتطرف في القضايا الاجتماعية، ويخشون أن تؤدي آراؤه "الانعزالية" إلى تقويض موقع أميركا العالمي، فهو يجسّد تيار اليمين القومي المحافظ الذي يعطي الأولوية لمشاكل الداخل على حساب الانخراط الدولي، وهو ما تجلى في شجاره مع الرئيس الأوكراني داخل البيت الأبيض. إن فانس يعتبر أبناء تلال كنتاكي أولى بالدولارات من أبناء كييف، ويرى أن الحرب الأوكرانية تعبر عن أولويات نخب الساحل الشرقي لا عن إرادة الشعب الأميركي، كما أن شخصيته لا تراعي اللياقة الدبلوماسية المعتادة.
في النهاية، يمكن القول إن جيه دي فانس ليس مجرد سياسي آخر، بل ظاهرة ثقافية سياسية، تصلح أن تكون مرآة لمرحلة في التاريخ الأميركي. فهو يجسد صورة الرجل الذي عبر من قاع أميركا الأبيض، لكنه لم ينس الألم، ولم يغفر للطبقة التي تجاهلته، ويميل إلى الانسحاب من العالم لترميم الداخل المنهار.